د. جابر أبي جابر
طرد الشركس من أراضيهم وانتهاء الحرب القوقازية
منذ عام 1556 لم تتوقف روسيا القيصرية عن محاولاتها للسيطرة على أراضي القوقاز. ففي غضون 308 سنوات قامت القوات الروسية بهجمات شتى على هذه الأراضي التي اشتد وطيسها بشكل خاص في نهاية القرن الثامن عشر خلال ما يُعرف بالحرب القوقازية.
وقد شهد العقد الأول من عهد القيصر ألكسندر الثاني استمراراً واسع النطاق للأعمال القتالية بين الجيش الروسي وفصائل الشركس (1855- 1864). ففي تشرين الأول/أكتوبر من عام 1860 عقد العام القائد لجيش القوقاز ألكسندر برياتسكي اجتماعاً في فلاديقفقاز حضره الجنرالات دمتري ميلوتين وغريغوري فيليبسون ونيكولاي يفدوكيموف والأمير دمتري ميرسكي. وقد وُضعت خلال الاجتماع خطة جديدة للأعمال الحربية ضد الأوديغيين(أي الشركس) تتجلى في كسر مقاومة أهالي الجبال وإزاحتهم نحو السهول وبناء مستوطنات للقوزاق والفلاحين الروس. وخلافاً للآخرين دعا أتمان قوزاق البحر الأسود الجنرال فيليبسون إلى اتخاذ موقف إنساني إزاء الشركس والتوصل إلى ضم مناطقهم لروسيا دون اللجوء إلى وسائل عسكرية قاسية. وحسب اعتقاده فإن وسائل كهذه يمكن أن تؤدي إلى تدخل الدول الأوروبية وخاصة إنجلترا، التي لا تعترف بحق روسيا في الساحل الشرقي للبحر الأسود. ومع ذلك فإن الخطة المذكورة تضمنت تبدلاً جذرياً في استراتيجية الجيش الروسي ونصّت على الانتقال من صد هجمات العدو والحملات التأديبية الجوابية إلى الإزاحة الشاملة لأهالي الجبال العصاة وإسكان القوزاق بدلاً منهم في هذه المناطق. وقد صادق ألكسندر الثاني على خطط جنرالاته يفدوكيموف وبرياتسكي وميلوتين. وتميزت العمليات العسكرية الختامية المسلحة في شمال غرب القوقاز بوحشية خاصة حيث واجهت القوات النظامية الروسية فصائل مشتتة من الأوديغيين المقاتلين في مناطق جبلية يصعب الوصول إليها. وفي سياق ذلك استخدم الجيش الروسي سياسة الأرض المحروقة حيث كان يجري تدمير المحاصيل وإفناء المواشي وحرق القرى الشركسية وإبادة سكانها أو ترحيلهم إلى المناطق السهلية. وقد تم خلال الأعوام 1860-1864 نهب وحرق 350 قرية شركسية على الأقل في المناطق الغربية وحوالي 150 قرية في المناطق الوسطى.
وفي 22 حزيران/يونيو من عام 1861 أصدر القيصر الروسي أمراً سامياً جاء فيه:" إن قضية الاحتلال الكامل للقوقاز باتت الآن، بعون الله، قريبة من النهاية حيث لم يبق إلا بضع سنوات من الجهود الحثيثة حتى يتسنى لنا بشكل نهائي إزاحة أهل الجبال المعادين من الأراضي الخصبة، التي يشغلونها، ليتم استيطان السكان المسيحيين الروس هناك إلى الأبد"( المواد الأرشيفية حول حرب القوقاز وطرد الشراكسة إلى تركيا (1848-1874). الجزء الثاني، نالتشيك، "ايل – فا" ، 2003، ص80-81). وبهذا الصدد كتب الجنرال نيكولاي رايفسكي قائد الجبهة الساحلية للبحر الأسود في رسالته إلى وزير الحربية ألكسندر تشيرنيشيف يعرب فيها عن قلقه إزاء ما يحدث في القوقاز. وقد أشار في هذه الرسالة إلى "إن الأعمال الجارية في القوقاز تذكرنا بالنكبات التي ألحقها الإسبان لدى استيطانهم لأمريكا. وفي هذا المجال لا أرى أية مآثر أو بطولات. وكم أخشى أن يصبح الاستيلاء على القوقاز لطخة عار في تاريخ روسيا على غرار ما تركته غزوات الإسبان في تاريخهم"( رسالة رايفسكي إلى الكونت تشرنيشيف المؤرخة في 28/2/1841.رقم 65، كيرتش" أرشيف رايفسكي، المجلد 40، بطرسبورغ، 1912، ص96).
وفي حزيران/يونيو عام 1861 اجتمع ممثلو شعوب الأوديغة والأباظة والوبخ في وادي ساشيه (منطقة سوتشي حالياً) وأسسوا هيئة عليا للسلطة وهي مجلس شركيسيا. وقد قامت حكومة شركيسيا بمحاولات عديدة لنيل الاعتراف بالاستقلال وقررت إجراء مفاوضات مع القيادة االعسكرية الروسية حول شروط وقف إطلاق النار. كما توجه المجلس للحصول على المساعدة والاعتراف الدبلوماسي إلى بريطانيا والدولة العثمانية. ولكن الأمر قد جاء متأخراً حيث أن تناسب القوى القائم آنذاك لم يكن يثير أي شكوك في نتيجة الحرب لصالح الروس. ولهذا لم تأت المساعدة من الدول الأجنبية. وخلال سلسلة من الحملات العسكرية الروسية ذات النطاق الواسع استمرت من عام 1860 حتى عام 1864 تسنى للروس احتلال الشمال الغربي للقفقاز وإخلاء هذه المناطق الشركسية من سكانها تقريباً. وقد جرى نقل جزء غير كبير منهم إلى مناطق أخرى. أما الباقون فتوجهوا نحو ساحل البحر الأسود وكان تعدادهم حوالي المليون. وقد فارق نصفهم الحياة في انتظار السفن العثمانية وذلك من جراء الجوع والاوبئة.أما النصف الآخر فتسنى له الهجرة إلى الأراضي الواقعة تحت سيطرة الدولة العثمانية عن طريق موانئ نوفوروسيسك وعنابة وغيلنجيك وسوتشي.
وهكذا انتهت الحرب القوقازية التي استمرت قرابة نصف قرن. وفي محصلة مرحلتها الختامية انضم شمال غرب القوقاز إلى الإمبراطورية الروسية. وفي غضون عملية الاستيطان الواسعة في الأعوام 1861-1865 جرى إنشاء أكثر من مئة قرية قوزاقية كبيرة(ستانيتسا- قصبة) ترابط فيها بعض القوات القوقازية. ورغم اعتبار عام 1864 ختام الحرب القوقازية رسمياً لكن بؤر مقاومة السكان المحليين الباقين للسلطات الروسية استمرت حتى عام 1884.
ويفسر بعض المؤرخين والشخصيات الاجتماعية أحداث المرحلة الأخيرة من الحرب القوقازية بالإبادة الجماعية للشراكسة ويعتبرونها أول إبادة من نوعها في العصر الحديث أي قبل مذابح الأرمن والهولوكوست. وعلى العموم فإن العديد من الباحثين والمؤرخين بدأوا بعد انهيار الاتحاد السوفيني بتناول قضية الحرب القوقازية في سياق النضال القومي التحرري لشعوب القوقاز ضد القوات الروسية. وفي الوقت الحالي لا يتجاوز عدد الشركس في روسيا الاتحادية 73 ألفاً.
1428 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع