د. سعد ناجي جواد
النشيد الوطني العراقي لسان حال العراقيين في التعبير عن معاناتهم حتى في افراحهم. وما علاقة الشهادة الجامعية العليا والاصل الكريم بالنزاهة؟
العراق، حاله حال الدول التي انقلبت من ملكية الى جمهورية، لم يثبت على علم او نشيد وطني او شعار للدولة، والسبب ان مسألة العراقة والجذور التاريخية والتقاليد الاصيلة ليس لها قيمة او اعتبار عند كل الحكام الجدد بعد سيل الانقلابات العسكرية، وتكررت الحالة بعد الاحتلال. وحال دول الشرق الاوسط الاخرى لم تختلف عن ذلك. ومما زاد في معاناة ومشاكل الانظمة الجديدة انها اختارت معسكرا اخر غير المعسكر الغربي المتضامن مع اسرائيل، وبذلك اصبحت عرضة لمؤامرات الدول الكبرى التي سعت لإنشاء هذا الكيان في قلب الوطن العربي، وعلى راسها الولايات المتحدة وبريطانيا، الامر الذي حول حياة شعوب تلك الدول الى عدم استقرار ومعاناة لا تنتهي.
بعد احتلال العراق عام 2003 جرى وكالعادة تغيير العلم والنشيد الوطني (للمرة الخامسة في اقل من قرن)، وربما كان ذلك سيكون مقبولا ومفهوما لو ان هذه التغييرات بنيت على اسس موضوعية وعلمية، ولكنها جاءت اعتباطية وفي كثير من الاحيان وفق نزوات شخصية. من حكم بعد الاحتلال، وخاصة الاحزاب الكردية، اصروا على الغاء العلم العراقي بدعوى انه (علم حزب البعث والنجوم الثلاث فيه تشير الى مبادئ الحزب الثلاث المعروفة). ولست من المدافعين عن العلم، ولكن هذا الادعاء مَثَّلَ اما فرية كبيرة مقصودة او جهل اكبر، لان النجوم الثلاث كانت تشير الى الدول الثلاث التي انضمت في وحدة صورية واهية جمعت العراق ومصر وسوريا (نيسان 1963)، سرعان ما تفككت وبقي العلم الذي تشير نجومه الى الدول الثلاث، (المرحوم عبد الناصر اعاد العلم الذي يحتوي على نجمتين فقط الذي اعتمد بعد الوحدة المصرية السورية عام 1958، حتى استبدله السادات عام 1971). ثم حار حكام ما بعد الاحتلال في شكل العلم الجديد، فلا هم قادرون على رفع جملة (الله اكبر) التي كتبها الرئيس صدام حسين بيده بين النجوم على العلم قبل حرب 1991 التدميرية، ولا هم قادرين على ابقائها. ثم تفتق ذهن احدهم بان يتم رفع النجوم ويغير نوع الخط الذي كتبت به عبارة التكبير الى خط الرقعة المعروف، وبقي العلم بألوانه الثلاث الاحمر والابيض والاسود وعبارة (الله اكبر) باللون الاخضر.
ثم حار القادمون الجدد في امور اخرى مثلا ما هو اليوم الوطني للعراق، وسارع بعض من الذين لا يمكن وصفهم الا بفاقدي الغيرة الوطنية الى اعتبار يوم الاحتلال هو العيد الوطني للعراق! لكن الرفض الشعبي افشل هذا الخيار، وظل العراق بدون يوم وطني منذ ذلك التاريخ، ثم جرى اعتماد نشيد (موطني) الحماسي الذي كان طلاب المدارس يحفظونه ويرددونه كل يوم خميس صباحا في العهد الملكي وبعض فترات العهد الجمهوري. هذا النشيد الذي كتب كلماته الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان (1934) ولحنه الموسيقار اللبناني محمد فليفل، رحمهما الله.
ما اثار هذه الذكريات والحسرات، هو انتشار مقطع فيديو جميل جدا يُظهِر جمهور ملعب (جذع النخلة) لكرة قدم في البصرة (البالغ عددهم 65 الف مشاهد) وهم يصدحون بنشيد موطني ويرفعون علما عراقيا بطول عشرات الامتار. وانا انظر الى ذلك المنظر الذي يدمع العين جلب انتباهي المقطع الذي يقول بصيغة التساؤل:
موطني موطني هل اراك هل اراك
سالما منعما وغانما مكرما
هل اراك في علاك
تبلغ السماك (السماء)
موطني موطني.
لا بد للسامع عندما يبتعد عن العواطف الجياشة وهو يرى هذه الصورة الرائعة لشعب قاسى ما قاساه، ويركز على الكلمات، ان يجد ان هذا التساؤل يمثل حلما عراقيا مستمرا عند العراقيين بعد عقدين من الاحتلال والفساد غير المسبوق والتشرذم وانعدام كل مقومات الحياة الكريمة لغالبيتهم.
لا احد يريد ان يُفسِد الفرحة العارمة التي يعيشها العراقيون (من غير اللصوص والقتلة) في ايام دورة الخليج العربي الخامسة والعشرون، او وهم يشاهدون اخوتهم من ابناء الخليج يتوافدون على بصرتهم الحبيبة ويشاركونهم هذه الايام الجميلة. ولا بد للمراقب ان يحس بحالة السعادة التي تغمر العراقيين بسبب ملعب بسيط جديد للكرة كلف اضعاف ما تكلفه ملاعب مثله في دول اخرى، ولكن تعطش الناس للفرحة جعلهم ويتجاوزون مأساة البصرة بكل تفاصيلها ويفرضون افراحهم. ولكن كل متتبع لما يجري في العراق من فساد غير مسبوق ومستمر بل ومتزايد، ونقص في الخدمات، لا بد وان يكون جوابه على هذا التساؤل في النشيد الوطني ان العراقيين لن يروا بلدهم (في علاه بالغ سماه) في ظل وجود الاحزاب والعوائل الفاسدة ومن كل المكونات. وانهم لن ينالوا مبتغاهم وحكامهم يفشلون في تحقيق ما يعدون به، وافضل واخر مثلين على ذلك ان كل الوعود باسترجاع ما نهب في ما عرف بسرقة القرن (ثلاثة ونصف مليار دولار) ذهبت ادراج الرياح وبقي اللصوص طلقاء، وكذلك الوعد ببناء الف مدرسة تحل محل المدارس الطينية المتهالكة، والتي اصبح الوصول اليها في فصل الامطار يمثل خطرا حقيقيا على حياة الاطفال. وما زاد في المأساة انتشار تسجيلات صوتية تحدد (بعشرات الملايين من الدولارات) قيمة بعض المناصب الرسمية المعروضة للبيع وطريقة الدفع.
في حديث عن هذه الكوارث اخبرني صديق من داخل العراق بان العراقيين وصلوا الى قناعة شبه تامة تقول ان كل الذين حكموا العراق بعد 2003، سواء كانوا رؤوساء جمهورية او نوابا لهم، و رؤوساء وزراء او نوابا لهم، و وزراء او وكلاء وزارات او رؤوساء واعضاء مجلس النواب او محافظين او اعضاء مجالس محافظات، وغيرهم من الذين تبوؤا مناصب عليا، ويضاف اليهم قادة الاحزاب والمجاميع المسلحة، كلهم جميعا بدون استثناء لصوص وفاسدين، وعندما قلت له ان هذه مبالغة وتعميم قاسي اجابني (اخي عندما يصل الامر بعميد كلية، حاصل على شهادة الدكتوراة منذ زمن ليس بالقصير وعلى درجة الاستاذية لكثرة بحوثه ونشاطاته العلمية ويسرق من ميزانية كليته ثلاثة مليارات دينار عراقي (2 ونصف مليون دولار)، ولا يوجد من يحاسبه وامثاله من اللصوص، كيف لك ان تتأمل خيرا في قادم الايام؟). ثم اردف صديقي قائلا ان ما يزيد من يأس العراقيين وفقدانهم للأمل ليس فقط ان الاحزاب الدينية ومنتسبيها هم من اكبر الفاسدين، لكن ما ظهر اخيرا من معلومات تثبت ان من ضمن الفاسدين الجدد اسماء اشخاص ينتمون الى عوائل كريمة عرفت بوطنيتها ونزاهتها وعفتها، فكيف للعراقيين ان يتأملوا خيرا ؟
لم يسبق للعراق ان وصل العراق لهذا المنحدر المخيف الذي تتحكم فيها عصابات تنهب موارده وخيراته، والذي يهدد مستقبل العراق واجياله القادمة، ولم يسبق لبلد تحوي خزينته فائضا بعشرات المليارات من الدولارات، ومدخوله السنوي اكثر من مائة مليار دولار من النفط فقط، ان تفقد عملته قيمتها يوما بعد يوم، وابناءه يستجدون الكهرباء والغاز من دول الجوار، ناهيك عن وجود عوائل كثيرة عاجزة عن الحصول على قوتها اليومي، والادهى من ذلك ان يصبح الفاسدون هم المتحدثون الاعلى صوتا في الاعلام اليومي عن الفساد. ومن يريد ان يتحدث عن كوارث اخرى ربما يحتاج الى مجلدات.
هذه الحالة المأساوية التي لن يغيرها تكرار النشيد الوطني كل يوم وانما تغيرها عملية اصلاحية واسعة تهدف الى اعادة زرع القيم الوطنية وعقيدة حب الوطن مع ترسيخ مبادئ العفة والنزاهة بين الجيل الجديد حتى لا يبقى يعيش حالات تكاثر الفساد بحيث تصبح امورا طبيعية لهم. وكذلك تضع برنامجا واضحا لمحاربة الفساد واحالة الفاسدين الى المحاكم، وهذا الامر لا بد وان يحصل مهما طال الزمن. (قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) و (لا يغرَّنَّك تقلُّبُ الذين كفروا في البلاد * متاعٌ قليلٌ ثُمَّ مأواهم جهنَّمُ وبئس المهادُ) وان غدا لناظره لقريب.
ادام الله الافراح على العرقيين وتوجها بالفوز بالكاس الذي غاب عنهم لاكثر من اربعة عقود.
*كاتب واكاديمي عراقي
1251 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع