هيفاء زنكنة
خليجي ٢٥: حبات لتسكين أوجاع بصرة العراق
كم هو مفرح رؤية ناس يبتسمون في بلادنا! فمن النادر، منذ عقود الحرب والحصار والاحتلال، أن نرى جمهورا عراقيا، يرتدي أفراده الفرح. أن نرى النساء والرجال يضحكون ويغنون سوية مسرورين، في مكان يوحدهم. يتنفسون فيه معنى أن يكون المرء عراقيا بألوان ساطعة مثل شمس بلاده بعيدا عن العزاء الأسود الذي بات وجبة يومية يتناولها الجميع على مضض. هكذا إجتمع آلاف العراقيين والعرب بمناسبة إفتتاح الألعاب حين إستضاف العراق البطولة للمرة الثانية، بعد مرور 44 عاما على إقامتها في بغداد عام 1979.
لخصّت احتفالية الافتتاح تاريخ البلد الحضاري ووحدة المشاعر العابرة للطائفية الدينية والنعرات القومية وكل ما لوث إسم العراق منذ غزوه واحتلاله عام 2003. فكانت ليلة أُريد لها أن يستمتع زوار مدينة البصرة، بجنوب العراق، التي يقطنها أكثر من خمسة ملايين نسمة، بضيافة أهلها المعروفين بطيبتهم وسخاء مشاعرهم، بافتتاح البطولة في ملعب «جذع النخلة» تذكيرا ببصرة كانت تفتخر، يوما، باحتضانها 16 مليون نخلة، إلا أن غالبيتها تلفت جراء الحروب بين أعوام 1980 و2003.
كان الافتتاح مبهرا بالأضواء. أشار التعليق الأكثر تداولا عن الافتتاح. وأكدت الشركة العامة لتوزيع كهرباء الجنوب أنها عملت على إضاءة الطرق المؤدية إلى المدينة الرياضية ومحيطها وأبوابها بالإنارة الحديثة والتراكيب الجديدة. كما أطلقت الشركة حملة تحت وسم ترشيد الكهرباء، وأشرف وكيـل مديـر توزيـع كهربـاء البصـرة ميدانيـاً على استنـفار ملاكـات كهربـاء البصـرة لبطـولة الخليج. هذه التأكيدات التي وفرت للحاضرين والمشاهدين المحبين لكرة القدم الضوء خلال أيام البطولة تثير عديد التساؤلات. لماذا هذا التحشيد الإعلامي عن التجهيز « الضوئي»؟ ما هو الغريب في إضاءة ملعب دولي لكرة القدم والشوارع المحيطة به؟ ولماذا لا يحدث الإشراف الميداني لتزويد عموم أهل البصرة بالكهرباء في كل الاوقات؟ هل ستقتصرإضاءة الشوارع على أسبوع البطولة فقط لتستعيد المنطقة بعدها ما تعودت عليه من ظلام؟ وإذا كان بإمكان الجهات الحكومية المسؤولة توفير مستلزمات وشروط استضافة البطولة، المطلوبة من قبل اتحاد الكرة الدولي (الفيفا) بشكل جيد، وخلال فترة قياسية، كما لاحظنا، فلم لا تعمل بنفس الجهد على توفير مستلزمات الحياة الأساسية المطلوبة من قبل المواطنين، منذ عشرين عاما، والتي هي حق من حقوق المواطنين وليست منة يتفضل بها المسؤولون على المواطن؟ أم أن تبييض الوجوه أمام العالم الخارجي، ضروري لاستثمار الأموال المنهوبة، بأرقام مذهلة، التي لم يعد بالإمكان استثمارها كما كان المسؤولون يطمعون بعد أن فاحت رائحة الفضائح في أرجاء العالم ؟ وهل هناك ما هو أكثر قدرة على تبييض الوجوه والأموال والتعتيم على واقع الحياة اليومي البائس للمواطنين ورسم الابتسامة على وجوههم من إقامة بطولة لكرة القدم التي يصفها البعض بأنها دين العصر الحديث، محاججين بأنه إذا كانت المسيحية، أكبر ديانة في العالم، لديها 2.2 مليار متابع، فإن لكرة القدم أكثر من 3 مليارات متابع؟
من حق الناس، بطبيعة الحال، تسكين الوجع ولكن بشرط ألا يتم على حساب تغطية الأسباب الحقيقية للمرض ومنع الشفاء الكلي. ولننظر إلى واقع مدينة البصرة، فقط، من هذه الناحية، لتفكيك صورة الاحتفال المضيء، ولندفع جانبا واقع المحافظات والمدن الأخرى، بضمنها العاصمة بغداد، لئلا نُتهم بالتشاؤم. يُخبرنا أهل البصرة أن شوارعهم مظلمة، تتراكم فيها الزبالة، وأنهم يتوسلون زيارة أحد المسؤولين ليرى بعينيه ويفهم أن انقطاع التيار الكهربائي، مهما كانت الأسباب، لا يعني عدم الإضاءة فحسب بل هو شلل للحياة اليومية والخدمات الطبية والتنمية الاقتصادية.
ويطالب آخرون بدفع رواتب قُراء المقاييس ومُستحقات المشاريع التي لم تُدفع، بينما يعتصم أصحاب الشهادات التي ألغيت ولم تحتسب عند التثبيت أمام وزارة الكهرباء. ويعيش أهل البصرة أزمة نقص المياه الصالحة للشرب بسبب الملوحة وتاثير الجفاف وارتفاع درجات الحرارة الأعلى عالمياً، بالإضافة إلى التلوث المزمن الذي يهدد حياة السكان، وخاصة الأطفال، بأمراض من السهل القضاء عليها إذا ما توفرت النية المخلصة لايجاد الحلول ووضع حد لجشع الساسة الفاسدين. الجشع الذي ابتلع التخصيصات المالية مما عرقل إكمال أكثر من 90 مشروعاً لتصفيه المياه وتحليته. كل هذا يحدث في مدينة غنية بالنفط والمهندسين والعمال من ذوي الكفاءة وتساهم بتمويل ميزانية العراق بنحو ثمانين بالمائة من مبيعات النفط والغاز.
ولايقتصر سوء الحال على الكهرباء والماء وتلوث البيئة بل يشمل تدهور الحالة الأمنية. إذ تعيش محافظة البصرة، كما غيرها من المحافظات، حالات التوتر الأمني وصراعات الميليشيات التابعة للأحزاب الحكومية والنزاعات العشائرية وتعرض المحتجين على هذه الأوضاع المزرية للعنف بأنواعه. تؤكد تقارير منظمة الأمم المتحدة بالعراق فشل لجان التحقيق المُعلن عنها رسميا للتحقيق في تعرض المتظاهرين للعنف والاختطاف والقتل، وإهمالها محاسبة المسؤولين وإيصالهم مرحلة المحاكمة والإدانة، وباستثناء قضيتين فقط ركزت فيهما على أفراد من رتب صغيرة في قوات الشرطة، بقيت الجرائم ملصقة «بعناصر مسلحة مجهولة الهوية». وما يمنح المجرمين الحصانة من العقاب هو تعرض عدد من المحققين الذين عملوا في قضايا حساسة للانتقام. حيث يعطينا تقرير لليونامي، على سبيل المثال، تفاصيل قتل ضابط استخبارات كلفّته محكمة تحقيق البصرة بالتحقيق في قضايا «فرق الموت» بدعم من ضباط الاستخبارات التابعة لوزارة الداخلية. وسُجلت الجريمة ضد « عناصر مسلحة مجهولة». وفي 7 كانون ألاول 2021، انفجرت، في البصرة، عبوة ناسفة كانت موضوعة في دراجة نارية مما أسفر عن مقتل مدنيين وإصابة أربعة آخرين بعد فترة وجيزة من مرور ضابط تحقيق في سيارة. كان ولايزال للبصرة المعطاء نصيبها من الظلم الجاثم على الصدور، بعموم العراق والذي لن يشفيه تناول مسكن الآلام لمدة إسبوع، بل إيجاد حل علاج جذري لانتشار فايروس الفساد والطائفية وكل ما تم استحداثه لديمومتهما.
1601 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع