بقلم د. رحيم الغرباوي
البراجماتزم في مجموعة مثلي لايكتفي القمر بنجمته للشاعر حسن سالم الدباغ
لما كانت الحقيقة ، هي القيمة الفورية للفكر بوصف الفكر مرآة ضرورية للحقيقة الخارجية والطبيعية ، ذلك ما يدرك ويعكس العلاقات أو الصلات بين الأشياء ، إذ يُرى كل شيء بالعلاقة أو القرينة ، ويبدو أنَّ وليم جيمس يرى أن المعنى والنظام موجودان ، وينكر على من يدعي أنَّ الترابط والتداعي من تأليف الفكر ، بل يرى أن الظواهر الفكرية تجري في تيار متصل ، ويبدو أنَّ البراجماتزم هو في ذاته يتساءل عن نتائج الشيء ، وبذلك تحول وجه الفكر إلى العمل والمستقبل(1) ، كما أنَّ عوالم الشعر والفكر عناصر إثارة وطرافة وجِدَّة تقودنا إلى الدهشة العميقة بالجديد والطريف والمبتكر على مستوى الأفكار والأساليب بوصف الفنان الشاعر ذا إحساس عميق بالأشياء وانفعاله بها ، فالشاعر يغوص في أعماق الأشياء من أجل استنباط مدلولاتها ومعانيها الغامضة ، وهذا يتطلب ملكات عقلية ما يجعل منها تقترب أرضها بأرض الفكر ومن ذلك المعرفة العميقة التي نعدها جسراً يوصل بين الأفق الشعري والأفق الفلسفي (2) . وحين نتأمل في المخيلة الخلاقة نجد الشاعر والفيلسوف يمتلكان معيناً ثراً ؛ لاتقاد الفكر الفلسفي والشعري ، ومن ثم تتشابك الرؤى وتفترق بوصف الشعر شعور إنساني يؤسس لسلوك قويم ، بينما الفلسفة تدرس الظاهرة علمياً ولايعنيها ما تتجه بها النتائج.
ويبدو أنَّ الشاعر الواسطي حسن سالم الدباغ في كثير من نصوصه في مجموعته الشعرية (مثلي لايكتفي القمر بنجمته) ونحن نستقرئ فيها رؤاه نجدها تطرق أفكاراً براغماتيةً (عملية) إذ نراه يدين بعض مظاهرها ؛ كونها لاتنسجم مع ما تربى عليها مجتمعنا إلا أننا نجدها سائدة فيه ، وهذا ما يطلعنا عليه الشاعر ومن ذلك في قصيدته (خشية) التي يقول فيها :
فراغ
وأحصنةٌ في المرابط
لم تعد تستسيغ
الصهيل
أو الجري مأخوذة بالطريق
تجرجرُ أذنابها
إنَّها تضع الآن أعرافها
على أسطح العربات
تنام
وتحلم أن سوف تفقد حدواتها
ولا تشتهي لذة الجري في الطرقات
إذا لم تُشد إلى همرات .ص38
فالتقاعس والفراغ صنوان متلازمان ، إذ صارت في العصر الحديث الغلبة للمنفعة المادية بوجهها المُسلَّم به ، فليس من اعتماد اليوم على النفس والكدح الذي فطرت عليه الأجيال ، كما كانت بالأمس تتصبب عرقاً أزاء لقمة العيش ، فصارت اليوم تعيش فراغاً ، بعدما شاع لدى بعضهم من انتزاع قيمه ومبادئه وراح يتصيد عسى سلعةً تتأتى من دون بذل جهد ؛ فلاشيء يخسره سوى التهافت على المادة دون الاحتراز للقيم التي أُودعت فيه ، ويبدو أنَّ الحصان الذي كان يسحب العربة في النص الآن يقطن المرابط ، بيد أنَّه يشكو الفراغ ، فصار لايألف عيشته في الزمن الماضي طالما الهمرات هي ما تسحب العربة في إشارة إلى دواعي الاحتلال التي دعت الكثيرين للكسب غير الشرعي من أجل الرفاهية لقاء الانسلاخ من الجذور طالما أنَّ هناك مظلة تحمي موبقاتهم ، فلا حاجة للكد والكدح إزاء ما تمنحهم الوفرة ومن دون محاسبة للذات أو الاسترشاد بالقيم أوحتى من صحوة الضمير ، ولعل البراجماتزم التي ترى أنْ لاسؤال عن مصدر المنفعة أو "من أين جاءت أو استمدت أو ماهي مقدماتها ، فإن البراجماتزم تفحص نتائجها ، وهي تبتعد عن كنه الشيء ومصدره , وتتجه إلى نتيجة الشيء وثمرته وعقباه" (3) فهي في كثير من أحوالها ما تغوي وتحطَّ من يلجأ إلى مساربها وسلوكها المقذع .
وفي صورة أخرى يطلعنا عليها الشاعر وهو في تماس مع الواقع ، فحين لايرى الإنسان بُد ممن يهواه ، يغادره لعالم آخر ، فيغلق الأبواب أمامه لنفاد المنفعة ، يقول الدباغ في قصيدته (باب على الغياب) :
ألقيتِني في الظلِّ
ثمَّ رجعتِ تحتطبين
ذاكرتي
وأطلقتِ السراب
زُمراً على القلبِ الخراب
وجعلتِ بينكِ والوصول إليكِ باب
حتى إذا ابتدرت خطاي
صفقتِهِ
كالريح في وجهي
وقلتِ لوحشةِ الأبواب
...
غابْ .ص68
ويبدو أنَّ الشاعر ينكر على من يناديها ما صنعت به ، إذ ألقته في ظل قارعة الطريق ، ومن يُلقى على هذه الشاكلة ليس إلا العاجز الذي نفدت قوته ، وما عاد ينفع وهذا أسلوب المجتمعات المادية التي لاتستعذب إلا المنتج والمعطاء ، ولعل احتطابها ذاكرته ، ثم إغلاقها الباب عليه ؛ كي لايصل إليها في إشارة إلى نهاية المطاف بينهما ، فلا طريق بات يوصل بينهما ، ويبدو أنَّ الشاعر يلومها على فعلتها ، فهو يشير بصفقها للباب بوجهه تعبيراً عن حالة نفورها منه بيد أنه يشير إلى وداعته معها بأسلوب عتب الهادئ المُحب الذي استوحشت غيابه حتى الأبواب في إشارة بأنه ليس السبب ، إنما هي من أنهت كلَّ شيء .
أما في قصيدة سابلة في مقطعها الأول(عزلة) التي يقول فيها :
يشاركهم صمتهم
يضحكون
يشاكسهم يضجرون .ص90
إذ نرى أنَّ الإنسان بات يجامل ويحابي من هو يرضي سريرته ، ويتوافق مع رغباته ، بيد أنَّه يضجر حين يُخالَف في الرأي حتى وإن كان مُخطئاً ، فتراه ضجراً لايقبل المشاكسه أو الاختلاف ، وكثير هم في هذا العصر الذي تسيدت فيه الأفكار المغلوطة ، فباتت تمشي على قدمين ؛ لفقدان القانون ما جعل الأصوات حتى الناشزة منها لها مركب في عصرنا الحاضر بما يطلق عليه العصر الديمقراطي فمن أراه من توجهي صار يضاحكني وأضاحكه ، ومن تحزَّب بما يضيِّق على مصلحتي ومنفعتي فهو ضدي ، ثم يقول:
لهُ حكمةٌ
ولهم حكمةٌ يرتضونها
وما كان يعرفه :
أنَّهم
كلما انفضَّ عنهم
إلى جدثٍ واحدٍ
يدخلون . ص 90
فهم سابلة يبحثون عن غاياتهم ، وحتى المقابر صار لهم فيها شأن لايتركون ما فيها من منافع ، وهذا حال بعضهم ولاسيما في عصر ما بعد الحداثة الذي أقصى المثال والقيم وراح يشيع المنفعة التي ما أبقت للقيم من مكان يجانب إنسانية الإنسان ، ويبدو أنَّ الشاعر يرفض ما يشيع اليوم بعد رؤيته الكشفية بوصفه أكثر إشراقاً بحدسه استناداً إلى الوظيفة الجوهرية في قدرته على رفع الأقنعة وفضحه المستور بالخيال المنخرط في دائرتي المكان واللامكان ؛ لتجسيد فعل التوقع وما يضمره الواقع من استبطان للفعل الذي صار يشيع بأقنعة يمكن أن يسلط الضوء عليها كموضوعات فبات الشعر ينتقد ظواهر المجتمع حتى صار في كثير من الأحيان يميل إلى التفلسف فيها وتقديمها كموضوع معرفي بوصف الشاعر هو إحساس الإنسانية ،إذ لا إنسانية بغير إحساس (1) لذلك فإنَّ الشعر مايزال وسيلة نقد وإرشاد وتوجيه .
الهوامش :
(1) ينظر :قصة الفلسفة من افلاطون الى جون ديوي , ول ديورانت دار المرتضى , بغداد شارع المتنبي , 2018م : 617- 618
(2) ينظر : دراسات في الشعر والفلسفة ، د. سلام الأوسي ، دار نيبور للطباعة والنشر ، الديوانية ، ط1 ، 2013م : 86 .
(3) قصة الفلسفة من افلاطون الى جون ديوي : 618
(4) ينظر :دراسات في الشعر والفلسفة ، د. سلام الأوسي : 87
1584 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع