ترجمة: د. رمضان مهلهل سدخان
كلية الأداب/ جامعة البصرة
سطور عن حياة ملك الكرة البرازيلية بيليه ... الأسطورة التي لن تتكرر
اشتهر بيليه في أقصى أطراف آسيا الصغرى وفي أعمق جزء داخل أفريقيا كشهرته في عواصم أوربا والأمريكتين – وقد شاهده الناس يلعب كرة القدم أكثر من مشاهدتهم لأي رياضي في أي ضرب من ضروب الرياضة في أي مكان وفي أي زمان. زار أكثر من (88) بلداً والتقى بالملوك والأباطرة ورؤساء وقادة الدول بضمنهم بابَوَين.
إنه الرجل الذي تفوق ومايزال يتفوق في أكثر اللعب شعبية، وهو الشخص الوحيد الذي يستحق اسم كرة القدم. أدسون فرانتس دو ناسیمنتو - بيليه هو الرياضي الذي ذاع صيته في كافة أرجاء المعمورة، هو البطل الوحيد في العالم لثلاث مرات في كرة القدم والشخص الذي لعب في ثلاثة فرق عالمية فائزة.
ولتقييم ماذا يعني هذا ينبغي على المرء أن يدرك بأنه على الأقل تتنافس (140) دولة على هذه البطولة – بطولة كاس العالم – مرة كل أربع سنوات. قبل هذه الدورة بسنتين تجري دورات الإبعاد ولم يبقَ سوى أفضل (22) فريقا زائداً الفائز السابق والبلد المضيّف لتؤلف بمجموعها الفرق التي تتنافس في الأدوار النهائية. وبالنسبة للفريق الذي سيفوز بهذه النهائيات يعني بأنه بطل العالم بكل معنى الكلمة.
ولأنه عُرِف في العالم على أنه ملك الكرة، فقد كان بيليه لربما أشهر رياضي في القرن العشرين، فهو أسطورة حية برع في سيطرته على الكرة وصنع الالعاب.
تراس فريق سانتوس مدة (18) سنة (1956- 1974) وسجل (1300) هدف وقاد الفريق الوطني البرازيلي إلى بطولات كأس العالم في الأعوام 1958 و 1962 و 1970 وإثر توقيعه عقد بملايين الدولارات، خرج بيليه من اعتزاله ليلعب في کوزموس (1975 - 1977) وقاد الفريق الى بطولة اتحاد كرة القدم لأمريكا الشمالية عام 1977.
إن رقم أهدافه القياسي هو أكبر من ضعف رقم أقرب منافس له، أي بمعدل يبلغ هدفاً واحداً تقريبا في كل مباراة ومن المرجح أن يبقى لهذا الرقم صداه ما دارت الايام. وحسب مايرويه روبرت أل. فش، بأن شاه إیران انتظر ثلاث ساعات في المطار الدولي لا لشيء بل ليكون باستطاعته التحدث مع بيليه والتقاط صورة معه. أما حرس الحدود الصينيون، فقد تركوا مواقعهم وأتوا لرؤيته وتهنئته حينما سمعوا بأنه هناك. وفي كولومبيا حينما أُبْعِد بيليه من المباراة لاحتجاجه على قرار الحكم، قامت الجماهير المحتشدة باقتحام الملعب. فتعيّن على الحكم أن يطلب النجدة من الشرطة التي سارعت إلى إنقاذه، وجرى تعيين مراقب الخط حكما للمباراة. ثم أعيد بيليه بالقوة الى اللعب. هذه هي الحادثة الوحيدة فقط في التاريخ الطويل للاتحاد الدولي لكرة القدم.
وكونه لم يحصل بما فيه الكفاية من فرص التعليم بوصفه شاباً، فهو بعد بلوغه ذروة الشهرة أخذ يبذل جهوداً حثيثة للدراسة وبالفعل نال درجة جامعية.
وعن طريق رحلاته العديدة وبفضل جهوده الشخصية الكبيرة فإن بيليه يجيد الاسبانية بطلاقة والفرنسية والاإيطالية بشكل مقبول نوعاً ما. ويكتسب بسرعة طلاقة في الإنكليزية إضافة الى كونه يمتلك قدرة تعبيرية رائعة في لغته الأم البرتغالية.
ولكن كيف لفتى هادىء خجول ابن الخامسة عشرة سنة، يجري اختياره لأداء الاختبار في نادٍ رائع لكنه صغير نسبياً في سانتوس بالبرازيل، ويصبح في ظرف عشرين سنة معبود العالم الدولي لكرة القدم؟ وأين نمت تلك النعمة الروحية التي ألهَمَتْة الثناء الذي يتلقاه أينما يحل، ومَنَحَتْه أيضاً اعجاب واحترام كل لاعب سواء لعب معه أم ضده؟ وكيف تمكّنَ ليس من الحصول على تلك الشعبية فحسب بل وزيادتها في العشرين سنة مذ أدهشَ العالم بمهاراته الاستثنائية؟
"يحتمل بأن المرء لا يستطيع أن يفسر عبقريته الفريدة في لعبة كرة القدم أكثر من استطاعته تفسير عبقرية موزارت في تأليف الموسيقى التي كتبها في ذلك السن"، هكذا يجيب فش الذي اشترك مع بيليه في كتابة "حياتي واللعبة الجميلة: سيرة ذاتية لحياة بيليه". فللعبقرية تفسيرها الخاص وتوحي بأن هناك ما يشبه عقلاً إليكترونياً داخلياً في رأس بيليه يصحح نفسه بنفسه حالاً وطبقاً لموقع الكرة المتغير على الدوام داخل الملعب وحسب المراكز المختلفة التي يحتلها اللاعبون الآخرون فيضعه في المكان المناسب في الوقت المناسب ليقوم بحركة في غاية الفعالية. وإذا كان الأمر هكذا، فإن ذلك سيصبح التعريف الخاص للعبقرية. وحتى الآن ليس هناك شك بأنه إذا كان بيليه يمتلك ذلك النوع من العقل الإلكتروني الداخلي، فإن برمجة مثل هذا العقل تجري في غضون سنين من التمرينات الشاقة وعن طريق الكثير من الاختبارات المرهقة وكذلك بتكريس الحياة بأكملها من أجل التعلم المستمر لمهنته.
ولد بيليه في لية 23 تشرين الأول، 1940 في مدينة تراس كوراسوز في ولاية ميناس جيراس في البرازيل. وعند تعميده سُمّي أدسون أرانتس دو ناسیمنتو، بید أن كل شخص في العائلة يدعوه ديكو. كان والده لاعب كرة قدم محترفاً ومشهوراً جدا في المنطقة، لكنه لم يكن محظوظاً ولا ناجحاً. إن ساحة كرة القدم الأولى بالنسبة لبيليه هي الشارعحيث كان يعيش، أما الهدفان فهما نهايتا الشارع نفسه. كذلك اكتسب مهارة في ضرب الكرة طالما أن وزنها كان يتغير اعتماداً على كيفية حشوها آخر مرة وكذلك على ما إذا كانت تمرّ عبر العديد من الحفر الطينية. كتب بيليه "ولكن ليس هناك أي اختلاف، فسعادة ضرب الكرة وجعلها تستجيب لطريقتي في الأداء، لهو أعظم شعور بالقوة، ذلك الشعور الذي أحسستُ به في حياتي في ذلك الوقت".
في السابعة من عمره بدأ بتلميع الاحذية وساعده صديقه على عمل صندوق شبيه الى درجة ما بصندوق تلميع الاحذية. استهل عمله المدرسي في بورو. وفي ذلك الوقت تقريباً أخذ كل شخص يسميه بيليه. "ليست لدي أية فكرة من أين جاء هذا الاسم، أو مَن أطلقه اول مرة – لأنه ليس له معنى في البرتغالية – أو أية لغة أخرى على حد علمي".
وعندما بلغ الثالثة عشرة، قرر نادي بورو الرياضي تشكيل فريق خاص به. فطلب من بيليه أن ينظم إليه، وكان ذلك اليوم واحداً من أكثر أيام حياته روعة. ولعظيم دهشتهم أخبروا اللاعبين الشباب بأنهم سيعيّنون فالديمار دو بريتو مدربا لهم. كان هذا الرجل أحد الأسماء الكبيرة في تاريخ كرة القدم البرازيلية، إذ كان في أيام شبابه نجماً للعديد من الأندية المتقدمة في القطر وهو الشخص الذي لعب مهاجماً في المنتخب البرازيلي الصاعد لكأس العالم عام 1934. كان والد بيليه يقول له: اجعل عينيك وأذنيك مفتوحة وانتبه الى كل كلمة يقولها. إنك محظوظ إلى أبعد حد إذ حصلتَ على هذه الفرصة فخبرة فالديمار لا تقدّر بثمن. كما أنه لاعب كبير ومعلّم رائع. إذن استغل فرصتك.
إن هذا المدرب علّم بيليه كيف "يصيد"، وبشكل صحيح، كرة قادمة، نحوه بصدره أو كتفه أو فخذه أو حتى بقدمه. وعلّمه كيف يضرب الكرة بحيث تنحرف إما إلى اليمين أو اليسار اعتماداً على مقدار الدوران الذي يعمله اللاعب بالكرة. وهذا مهم لاسيما في الضربات الحرة وضربات الجزاء من أجل احراز إصابة، إذ أن المنحنى الذي تسلكه الكرة من الممكن أن ينجم عن هدف بينما يكون بإمكان حارس المرمى صدّ الكرة المستقيمة. كما وعلّمه كيفية اتقان فن التمويه بالكرة، ليكون قادراً على الانحراف فجأة وبحدّة حول خصمه بينما يدع الكرة تمرّ مستقيمة نحو الخصم. لذلك اذا ما حاول ذلك الخصم أن ينحني معه، تكون الكرة قد مرّت من أمام الخصم وتصبح جاهزة لأخذها ثانية. والأهم من هذا كله أن فالديمار علّم بيليه البسكليتا الشهيرة أي "ضربة المقصّ".
"لقد أدرك الناس بطريقة أو بأخرى بأنني أنا الذي طوّر هذه الضربة. لكنني حقاً أعتقد بأن الذي طوّرها هو ليونيداس اللاعب البرازيلي المشهور جداً. اليوم نجد بأن كل لاعب برازيلي تقريباً معتاد على هذه الضربة التي، بينما هي بالفعل ليست مهمة في صنع الأهداف، ماتزال شيئاً جميلاً اذا ما نفذت بصورة صحيحة".
غالباً ما كان بيليه يُسأل كونه أسود ما إذا كان يواجه في حياته تميزاً عنصرياً. فيقول: "في البرازيل ثمة تمييز عنصري قليل جداً ففي منزلنا لدينا أصدقاء سود وبيض وسمر ويابانيون وما من أحد كان يفكر بهذا". ذات مرة في داكار في أفريقيا وصل بيليه الى الفندق وكان هناك حشد كبير من الناس يحاولون أن ينعموا النظر في الباب ليروه. لكن صاحبة الفندق وهي امرأة فرنسية أخذت تنظر إليهم نظرة ازدراء ومن ثم طلبت من شرطي أفريقي أن يطرد "البدائيين السود" بعيداً عن الباب. بيد أنها أخطأت الاختيار، لأنه بدلاً من أن يبعد الناس، قام حالاً باعتقالها بسبب اسلوبها. وفي وقت متأخر من ذلك اليوم جاء مدراء الفندق الآخرون إضافة الى زوج الامرأة المقبوض عليها الى بيليه وطلبوا منه التحدّث مع السلطات لأنهم كانوا على يقين بأن تدخله نيابة عنها سوف يخرجها من السجن. "جعلتُ أنظر إليهم باستغراب وأخبرتُهم بأن الامرأة قد جرحت مشاعر الناس الذين جئت لألعب لهم، فهي اعتدت عليهم على أساس لونهم الذي هو لوني أنا ولذلك شعرتُ بأنني معتدى عليّ مثلهم وهكذا بقيتْ هي في السجن حتى بعدما غادرنا داكار.
بيليه وكأس العالم عام 1970
كانت المباراة النهائية لكأس العالم عام 1970 ستقام في ملعب أزتيكا في مكسيكوستي وكان الفريق البرازيلي يتألف من فليكس لحراسة المرمى، بريلو، كارلوس البرتو (رئيس الفريق). بيازا و افر الدو في خط الدفاع، غرسون و كلود ولدو في الوسط. جيرزنهو، توستاو، ريفيلينو و بيليه في الهجوم. في حين ضمّ الفريق الإيطالي: البرتوسي لحراسة المرمى، سيرا، بورغنج، روساتو، برتيني، و فاكخيتي لخط الدفاع. وفي خط الوسط لعب مازولا و دو سيستي، ولعب الفريق بثلاثة مهاجمين من بينهم دو منغيني غلوكنر من ألمانيا الشرقية. غصّ الملعب المزدحم بــ ( 110) آلاف متفرج، بينما بلغ عدد مشاهدي التلفزيون أكثر من (900) مليون – أي عشرة أضعاف العدد بالمقارنة مع أي حدث رياضي سابق.
"لم تمضِ على المباراة سوى سبع عشرة دقيقة حينما سجّلنا الهدف الأول. إذ مرّر ريفد لينو كرة عالية فوق رؤوس خط الدفاع الإيطالي فقفزتُ بأعلى ما يمكن فوق المدافع وسددتُ برأسي كرة أخذت طريقها إلى الهدف من فوق رؤوس أصابع حارس المرمى ألبرتوسي. ثم قفزتُ في الهواء ضارباً إياه بقبضتي، وصرخت "كوووووولللل"! حتى كاد يُبَح صوتي بينما ضمّني الآخرون تحتهم وهم يهنؤونني". كانت النتيجة للمباراة أربعة أهداف للبرازيل مقابل هدف واحد لإيطاليا.
لقد فاز الفريق بكأس العالم للمرة الثالثة، محرزاً كأس جول ريمية وكان بيليه هو بطل العالم الوحيد بكرة القدم لثلاث مرات، ولعب في كل مباراة تأهيلية، وفي كافة المباريات التدريبية وفي جميع مباريات كأس العالم وخرج منها بدون إصابة. استلمَ الفريقُ جائزة جول ريميه من يدَيّ رئيس جمهورية المكسيك غوستاف دیاز أورداز. ثم طاف اللاعبون البرازيليون حول الملعب الضخم بمسيرة أولمبية بينما كانت الحلوى والأشرطة الملونة تنهمر كالجليد والفرقة مستمرة ترقص السامبا ممزوجة بترحيب حماسيّ عالٍ لن ينساه بيليه.
"كان يوماً طويلاً. فالاحتفالات ببساطة لم تتوقف في الملعب، وحينما توجّهنا في نهاية المطاف، نحو الحافلة لتعود بنا إلى الفندق، كادت حشود الجماهير أن تمنعنا من الدخول. حينما رجعنا إلى الفندق اختفيتُ دون تقديم أيما عذر، وذهبتُ إلى غرفتي للصلاة وأخيراً كان اللاعبون في طريقهم إلى البيت وكانت المحطة الأولى هي برازليا حيث كان الاستقبال مثيراً. فقد استقبلهم الرئيس ميديسي في القصر بإجلال بالغ.
بيليه يعتزل
في 18 تموز من عام 1971، قرّر بيليه أن يلعب مباراته النهائية مع المنتخب البرازيلي ضد يوغسلافيا. "اجتاحتني موجة عاطفية عارمة لمعرفتي بأنني سوف لا أرتدي مطلقاً لونَي البرازيل الاصفر والأخضر على ساحة كرة القدم. ولعدم استطاعتي أيضاً التركيز إذ يقف (180) ألف مشجّع وهم يصيحون بصوت إيقاعيّ واحد "فيكا! فيكا"! أي "ابقَ! ابقَ". لكن بيليه كان يعرف بأنه للصمت وقت، وللحديث وقت، للولادة وقت، وللموت وقت.
"لقد كانت لحظة عاطفية عصيبة بالنسبة لي. فحينما انتهت المباراة بالتعادل (2-2) أخذتُ أجري حول الملعب، وذراعاي مرفوعتان محاولاً بطريقة أو بأخرى أن أعبّر للمشجعين عن حبّي لهم، وأن أشكرهم لمؤازرتهم لي طوال تلكم السنوات. وقفت الجماهير الغفيرة ورددت بصوتٍ عالٍ: "فيكا! فيكا!" فساحت الدموع على خدي كالمطر. خلعتُ قميصي الرسمي الذي يحمل الرقم (10)، وهو القميص الذي ارتديته بفخر كبير جداً طيلة أربع عشرة سنة، ولوحتُ به عالياً إلى الجمهور، ثم كان يجب أن أنزله على وجهي وأجفف دموعي به، لكنها لم تتوقف. إنني لن أنسي مطلقاً ذلك اليوم".
سجّلَ بيليه المزيد من المقابلات في العديد من البلدان لكافة أنواع وسائل الإعلام أكثر من أي شخص على وجه البسيطة. ومن بين كل الرياضيين، يرجّح بأنه كان أكثر انفتاحاً لرجال الصحافة وأحبّ شخص إلى درجة كبيرة. كما يقال بأنه يمتلك بنية جسمية أكثر تكاملاً من أي رياضيّ في العالم. "ملك الكرة" إذن هو اللقب المناسب لوصف هذا النابغة.
*** *** ***
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1225 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع