مينا العريبي
عام سقوط المثاليات الغربية
منذ بدايتها في فبراير (شباط) الماضي، كانت حرب أوكرانيا فرصة لاصطفاف الغرب سوياً بعد سنوات من ضعف تحالف الشمال الأطلسي (الناتو) والخلافات التي شابت الانسحاب الأميركي من أفغانستان في أغسطس (آب) 2021. وبينما كان مسؤولون غربيون يتحدثون عن عزلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «الدولية» بسبب حربه على أوكرانيا، نجد في الواقع أنه لم يكن معزولاً دولياً بل كان معزولاً غربياً. وتتكرَّر حالة وصف أنه كان «غربياً» بأنه كان «دولياً» من قبل مسؤولين غربيين.
بينما تنص القوانين الدولية على عدم شرعية حمل السلاح لمن لا ينضم إلى جيش بلاده الرسمي، توجه الآلاف من المقاتلين الأجانب إلى أوكرانيا لتشكيل ميليشيات غير رسمية بدعم من دولهم. وبينما ندَّد الرئيس الأميركي جو بايدن بـ«قيام دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بانتهاك سيادة دولة أخرى»، لم يتردد قبل عشرين عاماً في تأييد الحرب على العراق عام 2003. بل يتفاخر مسؤولون غربيون بدفاع الأوكرانيين عن وطنهم، وهذا حقهم، واعتبروا الفلسطينيين والعراقيين الذين رفعوا السلاح ضد دولة غازية أنهم إرهابيون.
وبعد أن كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية تطالبان باحترام حقوق كل الأفراد، وعدم التفرقة بين الناس بناء على إثنية أو دين، ظهرت هذه التفرقة عند الحديث عن حقوق الأوكرانيين، مقارنة بغيرهم من شعوب عانت من ويلات الحرب. أحد الصحافيين الأميركيين تحدث عن «لاجئين مثلنا، أعينهم زرقاء» في نشرة أخبار، معتبراً ذلك تبريراً للاهتمام بمصير الأوكرانيين أكثر من اللاجئين من دول أخرى.
وكان من اللافت أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية توقعت اصطفافاً دولياً بجانبهما كبادرة ولاء مع شن روسيا الحرب على أوكرانيا. إلا أن ذلك حدث بعد أشهر قليلة من تخلي الأميركيين عن أفغانستان. لم يفهم الساسة الأميركيون بعد انسحاب بلدهم من أفغانستان في أغسطس 2021، وترك الأفغان لمصيرهم على أيدي «حركة طالبان» جعل العالم كله يتساءل عن كل ادعاءات الولايات المتحدة بأنها تولي الأولوية القصوى لحقوق الإنسان.
أما العنصرية التي ظهرت خلال كأس العالم، فتعددت أشكالها، لكن الجرم كان واحداً. ربما كانت الحادثتان الأبرز عندما قارن صحافي دنماركي حبَّ أعضاء المنتخب المغربي لأمهاتهم بعائلة قردة متماسكة، أما الحادثة الثانية فكانت ردة الفعل السلبية للغاية لتكريم أمير قطر الشيخ تميم بن حمد للاعب الأرجنتين ليونيل ميسي بإهدائه البشت (العباءة العربية) عند فوز منتخبه بكأس العالم. بينما فرح اللاعب الأرجنتيني بهذه اللفتة، وذهب المشجعون الأرجنتينيون لشراء البشت أينما وجدوه في أسواق الدوحة، انشغل الإعلام البريطاني بانتقاد الخطوة على أنها «فرضت» على ميسي. على الرغم من كل التصريحات بأهمية «احترام الاختلافات» ظهرت تصريحات عنصرية على مدار أسابيع من انعقاد كأس العالم، ولم يعمل أي مسؤول غربي رفيع المستوى للحد منها.
ولا بد أن هناك جزءاً غير قليل من القراء سيتساءل قائلاً: «هل الآن حتى عرفتم حقيقة المثاليات الغربية؟» الواقع أن مبادئ مثل احترام حرية التعبير والاختيار والنقد الذاتي كلها مبادئ تلتزم بها المجتمعات الغربية وهي أساسية لبناء دول حديثة متقدمة. وبينما كانت لا شك هناك عنصرية في تلك المجتمعات، إلا أنه حتى وقت قريب كانت الغالبية تعمل على درء هذه الظاهرة، حتى وإن كانت تلك الجهود أقرب إلى الشعارات من التطبيق الفعلي.
وربما هذا التوقيت لسقوط المثاليات مناسب، إذ يغلق حقبة من التاريخ التي بدأت ببداية القرن الحالي ادعت فيها الدول الغربية أنها حامية الحقوق والمبادئ الإنسانية. بداية القرن الحادي العشرين كانت مضطربة فور وقوع هجمات 11 سبتمبر 2001، وما تبع ذلك من «حرب على الإرهاب» واصطفاف عالمي إلى جانب الولايات المتحدة دفاعا عن حقها في الرد على «القاعدة» و«حركة طالبان» التي احتضنت التنظيم الإرهابي المتمثل بـ«القاعدة». وينتهي عام 2022 و«طالبان» تتولى السلطة في أفغانستان وتطبق نفس السياسات التي تبنتها قبل أكثر من 20 عاماً من قمع للنساء وكبت للحريات وفرض سياسات قمعية على جميع أطياف المجتمع.
ينتهي هذا العام و«صدام الحضارات» هو صدام بحلة جديدة، بين الغرب الذي يريد أن يفرض ما يعتبره «مبادئ» على باقي العالم، وبين غالبية الدول الأخرى مثل الصين والهند وماليزيا وبعض دول أميركا اللاتينية وأفريقيا ودول عربية التي ترفض ذلك.
عام 2022 شهد تراجع «المثاليات الغربية»، والتعبير عن ظواهر عنصرية شديدة الوضوح وسط انقسامات دولية من غير المتوقع أن تلتئم في المستقبل المنظور.
1241 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع