تهجير البلاشفة للشعوب الصغيرة إلى سيبيريا وآسيا الوسطى

                                                   

                         د. جابر أبي جابر

تهجير البلاشفة للشعوب الصغيرة إلى سيبيريا وآسيا الوسطى

بدأ البلاشفة باستخدام التهجير الجماعي القسري كعقوبة سياسية أو تدبير أمني وقائي في أيام لينين. وقد كان القوزاق من منطقة تيريك بشمال القوقاز أول ضحايا سياسة التهجير هذه، حيث جرى بالقوة في عام 1920 انتزاعهم من منازلهم، وإرسالهم إلى مناطق أخرى وخاصة حوض الدونباس وسيبيريا. وقامت السلطات بتوزيع بيوتهم وأراضيهم على الشيشان والأنغوش.
جاءت مأساة القوزاق نتيجة الصدام بين عاداتهم وتقاليدهم من جهة وبين الثورة البلشفية، التي كانت تسعى إلى فرض منظومة اقتصادية اجتماعية بالقوة لا تنسجم إطلاقاً مع نمط حياتهم السابق أي السمات الرعوية والفروسية. فهم مجموعة اثنية تعود أصولها للسلاف الشرقيين وقبائل جنوب روسيا الرحل. وقد كانوا يعيشون بصورة رئيسية في منطقة كوبان وحوض نهر تيريك بشمال القوقاز. وبالإضافة إلى ذلك استوطن القوزاق مناطق كبيرة أخرى وأراضي شاسعة في سيبيريا والشرق الأقصى الروسي حيث لعبوا دوراً هاماً في ضم هانين المنطقتين إلى الإمبراطورية الروسية. وقد كانت هذه الشريحة العسكرية تشكل 2,3% من سكان روسيا. وكان زعيم القوزاق يسمى بالأتمان وينتخب من قبل قوزاق المنطقة (الوحدة العسكرية).
واتسمت سياسة "إزالة القوزقة"، التي انتهجها البلاشفة، بممارسة أساليب وحشية للغاية تجاههم مثل التصفية الجسدية الجماعية، وأخذ الرهائن، وإحراق القصبات والبلدات، وتحريض الشعوب المجاورة ضدهم.
وخلال عملية إبادة هذه المجموعة السكانية الخاصة لجأ البلاشفة أيضاً إلى مصادرة الحيوانات والمنتجات الزراعية وتوطين الغرباء في أراضي القوزاق. والمعروف أن ممثلي هذه الفئة الاجتماعية، الذين كانوا يمارسون الزراعة ويقومون في الوقت نفسه بحراسة حدود الإمبراطورية الروسية والمشاركة بشكل فعال في حروب الروس ضد الجيوش الأجنبية، تميزوا بحبهم للحرية وتعلقهم الشديد بها وبالأرض. وهم، خلافاً لبقية الروس، لم يعرفوا عصر القنانة والعبودية للإقطاعي. وقد كان يحق لكل عائلة أن تمتلك 30 هكتاراً من الأراضي لقاء الخدمة العسكرية القوزاقي قي غضون 36 عاماً. ولهذه الأسباب كانت مقاومتهم للجيش الأحمر عنيفة للغاية. وخلال سنوات الحرب الأهلية وأثناء عمليتي التجويع وأعمال القمع والتنكيل في الثلاثينات جرى إبادة 70% من السكان القوزاق (تاريخ روسيا في القرن 20 تحت إشراف أندريه زوبوف، المجلد 2. عصر الستالينية، موسكو، دار نشر" ايسكيو"، 2016، ص. 191).
وفي منتصف الثلاثينات شرعت الحكومة السوفيتية بإلغاء العديد من مناطق الإدارة القومية ذاتية الحكم. وقد اتخذت السلطات سلسلة من الإجراءات الرامية إلى "تطهير" المناطق الحدودية وضمان أمن المدن الكبرى في الاتحاد السوفيتي عن طريق إخلاء هذه المناطق من العناصر الخطرة اجتماعياً والمشكوك فيها من وجهة نظر القيادة السوفيتية. وفي هذا السياق جرى تهجير الفنلنديين القاطنين في مقاطعة لينينغراد إلى إقليم سرداريا بأوزبكستان (5056 عائلة) وسيبيريا(316 عائلة) كدفعة أولى ،ثم أرسلت الدفعة الثانية (22 ألف شخص) إلى مقاطعة فولوغدا غير البعيدة. وفي الفترة ذاتها نُقل من مقاطعتي كييف وفينيتسا إلى مناطق أوكرانيا الشرقية أكثر من 40 ألف شخص. وكان البولنديون والألمان يشكلون 60 % منهم. وفي مطلع العام التالي تقرر إرسال 15 ألف عائلة (حوالي 45 ألف شخص) من المناطق الحدودية في أوكرانيا إلى كازاخستان. وقد تم في عام 1937 ترحيل بضعة آلاف من العائلات الكردية والأرمنية المقيمة في المناطق الحدودية لأرمينيا وأذربيجان وتركمانيا وأوزبكستان وطاجكستان. كما جرى في عام 1937 تهجير 172 ألف كوري إلى مناطق أوزبكستان وكازاخستان. وكان السبب المباشر والمعلن يتجلى في الحيلولة دون تعاون الكوريين مع اليابان، بينما كان الكوريون ،في واقع الأمر، يتخذون موقف عداء سافر إزاء اليابان. ويرى بعض المؤرخين الروس أن السبب الحقيقي هنا يعود إلى رغبة القيادة السوفيتية في إرضاء اليابانيين سعياً منها لتأخير الحرب معهم إلى حين استجماع القدرات العسكرية اللازمة للمواجهة العسكرية مع الجيران الشرقيين.
استخدمت السلطات السوفيتية التهجير الجماعي إلى المناطق النائية لاعتبارات أمنية أو بتهمة تعاون ممثلي هذه الشعوب من قوات الاحتلال النازية. ولكن سياسة العقاب الجماعي هذه غالباً ما كانت تشكل أحد أشكال القمع السياسي. وقد تميّزت بانعدام الإجراءات القضائية الشكلية على الأقل.
وبعد ضم دول البلطيق الثلاث إلى الاتحاد السوفيتي في عام 1940 جرى تهجير 200 ألف من سكانها في العامين 1941 و1949. وقد تعرض للترحيل القسري في العملية الأولى رجال الدين والعسكريون السابقون وأعضاء الأحزاب البرجوازية وكبار المزارعين والتجار مع عائلاتهم. أما في العملية الثانية فقد شمل التهجير بصورة رئيسية المشتبه بتعاونهم مع القوات الألمانية أثناء الحرب والمشاركين في مقاومة السلطات السوفيتية بعد خروج الألمان من أراضيهم.
وفي 28 حزيران/ يونيو عام 1941 ألغيت جمهورية الألمان السوفيتية ذاتية الحكم الواقعة في حوض الفولغا وجرى ترحيل جميع أفرادها (367 ألف شخص) إلى مناطق الشمال الأقصى (جمهورية كومي ذاتية الحكم) والأورال وكازاخستان وسيبيريا. وبدءاً من عام 1942 شرعت السلطات بتجنيد جميع الرجال الألمان، الذين تجاوزوا سن السابعة عشر، في مجموعات للعمل ببناء المصانع الجديدة وفي قطع أشجار الغابات والمناجم.
ومن القوميات، التي تمّ تهجير أفرادها بكاملهم إلى سيبيريا وكازاخستان ومناطق أخرى- القرشاي( 692677 شخصاً) وذلك في 3 آذار/ مارس عام 1944، ثم الكالميك والشيشان والإنغوش (من 23 شباط/ فبراير إلى 9 آذار/ مارس). وفي الوقت نفسه جرى ترحيل البلقار وتتار القرم والأتراك المسخينيين القاطنين بجورجيا. وقد طال التهجير أيضاً زهاء 20 ألفاً من الإيرانيين والأكراد. كما تعرض للتهجير من شبه جزيرة القرم عشرات الآلاف من الأرمن والبلغار واليونانيين. وشارك في هذه العمليات أكثر من 100 ألف من رجال القوات الداخلية التابعة لوزارة الداخلية السوفيتية " ان.كي.في.دي" بقيادة لافرنتي بيريا.
وهكذا فقد شملت عمليات التهجير في العهد الستاليني عشرات الشعوب فقدت سبعة منها كياناتها القومية وهم الألمان والقرشاي والكلميك والإنغوش والشيشان والبلقار وتتار القرم بالإضافة للعديد من الفئات الإثنية والإثنومذهبية والاجتماعية من المواطنين السوفيت مثل القوزاق والفلاحون الميسورون "الكولاك" من شتى القوميات، بما في ذلك البولنديون والأذريون والكرد والآشوريون والصينيون والمولدافيون وسكان جمهوريات البلطيق واليونانيون والأرمن الطاشناق والأتراك والطاجيك إلخ.
ووفقاً للتقرير، الذي قدمه بيريا إلى ستالين حول نتائج تهجير الشيشان والإنغوش، فقد بلغ عددهم 478476 شخصاً بينهم 91250 من الإنغوش. وجرى ترحيلهم قسرياً إلى كازاخستان وسيبيريا في 180 قطاراً بعربات دون نوافذ مخصصة لنقل المواشي. وخلال الطريق والفترة الأولى من الإقامة الجديدة هلك حوالي ثلث هذا العدد من جراء الجوع والبرد القارس والأمراض. وقد قامت السلطات السوفيتية بهذا التهجير المأساوي بذريعة التعاون مع الألمان رغم أن جمهورية الشيشان وإنغوشيتيا لم تكن محتلة من قبل القوات الألمانية، ناهيك عن أن زهاء 20 ألف شيشاني وإنغوشي شاركوا في الحرب الوطنية العظمى وأبلوا فيها بلاء حسناً وضمنهم 600 عسكري دافعوا ببسالة منقطعة النظير عن قلعة بريست. وفي ضوء ذلك اقترحت القيادة العسكرية السوفيتية أن يُمنح عدد كبير منهم لقب بطل الاتحاد السوفيتي. لكن هؤلاء لم يحصلوا على الجوائز والأوسمة المستحقة نظراً لأن ستالين أصدر في آذار/ مارس عام 1942 الأمر السري رقم 6362، الذي يحظر منح الجوائز العسكرية الرفيعة للشيشان والإنغوش.
أما بالنسبة لنشاط عصابات قطاع الطرق في جبال الجمهورية فإن عدد هؤلاء، حسب تقدير وزارة الداخلية السوفيتية، لم يتجاوز 359 شخصاً في 5 آب/ أغسطس عام 1943. وقد أصدرت السلطات السوفيتية مرسوماً بإلغاء جمهورية الأنغوش والشيشان الاشتراكية السوفيتية ذاتية الحكم فضلاً عن تسليم بعض أراضيها إلى جورجيا وأوسيتا الشمالية. وقد أحرقت آنذاك الكتب والمخطوطات الإسلامية بعد تفريغ المكتبات من محتوياتها.
ويشير الرئيس السابق لمجلس السوفيت الأعلى لروسيا الاتحادية روسلان حسب اللاتوف إلى أن عدد سكان الجمهورية وفق إحصائيات عام 1939 بلغ أكثر من 800 ألف نسمة. ويتساءل قائلاً: " إذن، أين ذهب العدد الباقي أي ما ينوف عن 200 ألف شخص؟ لقد قتلوا أو هلكوا أثناء عملية التهجير القسري، التي جرت خلال الشتاء في ظروف المناطق الجبلية والطرق الوعرة".
وفي عام 1990 أميط اللثام عن حادثة قرية خايباخ حيث تبين أنه جرى بإشراف الجنرال ميخائيل غفيشياني زج أهاليها في إسطبل للخيل وإحراقهم جميعاً وكان عددها يربو عن 700 شخص. وعلى هذا النحو يقدر عدد الضحايا الشيشان والإنغوش لعمليات الترحيل الجارية بين 23 شباط/ فبراير و9 آذار/ مارس عام 1944 بـ 360 ألف شخص على الأقل. وبالمناسبة فقد جرى في آب/أغسطس عام 1953 تسريح غفيشياني من قوات وزارة الداخلية ثم جرّد من رتبة فريق بموجب قرار مجلس الوزراء السوفيتي رقم сс) 111822-2349) تاريخ 13/11/1954.
لدى احتلال القوات الالمانية خلال الحرب لشبه جزيرة القرم وبعض مناطق القوقاز تعاطف الزعماء المسلمون هناك مع الألمان باعتبار مجيئهم فرصة سانحة للتخلص من النظام الشيوعي والحفاظ على هويتهم القومية من الضياع وذلك انطلاقاً من مبدأ "عدو عدوي- صديقي" . غير أنهم لم يدركوا أن الجانب الآخر أي النظام النازي ينزع أيضاً إلى العنصرية والعبودية.
وفي يوم 18 أيار/ مايو عام 1944 أعلنت السلطات السوفيتية أن تتار القرم شعب خائن. وخلال بضع ساعات جرى إخراج الأهالي من منازلهم وترحيلهم في عربات القطارات إلى أوزبكستان ومناطق أخرى تبعد آلاف الكيلومترات عن موطنهم الأصلي أي القرم بتهمة التعاون مع العدو، بينما من المعروف أن 18 ألف من تتار القرم قارعوا ببسالة فائقة الألمان النازيين خلال الحرب وحازوا على جوائز و أوسمة. وقد تم عبر السكك الحديدية ترحيل جميع السكان عدا الرجال، الذين أرسلوا إلى معسكرات جيش العمل. وهكذا فقد كان على الأطفال والشيوخ والنساء تحمل الجوع والطريق الطويل أسابيع عديدة في عربات القطارات المخصصة لشحن المواشي. ونتيجة لسوء التغذية والأمراض والظروف المعيشية القاسية والعمل الشاق في مزارع القطن، الذي شارك فيه الأطفال الصغار، توفي في السنوات الأولى للتهجير 25% منهم حسب الإحصائيات السوفيتية الرسمية بينما يقدر أهل القرم أنفسهم هذه النسبة بـ 46%.
ولم يُسمح لتتار القرم بالعودة إلى ديارهم إلا في عام 1990 خلال مرحلة البيريسترويكا. ولكنهم لم يتمكنوا من العودة إلى بيوتهم السابقة وإنما اضطروا إلى شراء قطع أراض وبناء منازل جديدة عليها. وثمة أسباب أخرى اقتضت إبعاد تتار القرم وكذلك الأرمن والبلغار القاطنين هناك عن ديارهم. فقد أشار نائب الرئيس اليوغسلافي ميلوفان جيلاش نقلاً عن حديث تيتو مع ستالين إلى أن الزعيم السوفيتي اعترف له شخصياً بالسبب الفعلي لتهجير التتار من شبه جزيرة القرم، إذ كان من المفترض أن يتم هناك إنشاء جمهورية يهودية.
وفي 26 نيسان/ أبريل عام 1991 أي قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي صدر قانون" حول الشعوب المُضّهَدة" ينص على إعادة الاعتبار للشعوب والمجموعات الإثنية، التي تعرضت للاضطهاد والافتراء والإبادة الجماعية على مستوى الدولة وجرى ترحيلها قسرياً إلى أماكن بعيدة للإقامة الجديدة في ظروف العنف والتعسف. وقد أكد القانون المذكور على حقوق الشعوب المهجرة في استعادة وحدة أراضي كيانها القومي القائم قبل التهجير والحصول على تعويضات عن الأضرار، التي سببتها الدولة. واعتبر البرلمان الأوروبي واقع تهجير الشيشان والأنغوش أثناء الحرب كإبادة جماعية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1417 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع