المتحول الجمالي الرؤيوي في لغة الحداثة الشعرية

                                                                                    

                            د.عصام الشرتح

المتحول الجمالي الرؤيوي في لغة الحداثة الشعرية

تمهيد:

إن البحث في المتحول الجمالي الرؤيوي لهو بحث في فاعلية الرؤيا الشعرية الجمالية من حيث فنية التشكيل، وبلاغة المعاني والدلالات الشعرية التي تثيرها القصائد الشعرية في متحولها الجمالي الاستثاري البليغ، وهذا يعني أن البحث سيرصد فاعلية المتحولات الجمالية الرؤيوية كالمتحول الجمالي الرؤيوي الاستهلالي، والمتحول الجمالي الرؤيوي الفني،والمتحول الجمالي الرؤيوي البصري، ناهيك عن دراسة فاعلية هذه المتحولات في استثارة الشعرية في قصائد الحداثة على المستوى الجمالي ومتحولاتها النصية البليغة.
مقدمة:
إن الكشف عن نقطة الاستثارة الجمالية في الشعرية لا تتأتى إلا من خلال بنية اللغة الشعرية ومقوماتها الاستثارية على مستوى الروابط والانزياحات الفنية والجمالية في التراكيب الشعرية،، ومن هذا المنطلق ستنطلق الدراسة من بلاغة أو فنية المتحول الجمالي الرؤيوي في استثارة الأنساق الشعرية وتفعيلها جمالياً؛ وهذا يقتضي – بالضرورة- الكشف عن فاعلية المثيرات التشكيلية في القصائد الحداثية، من حيث بلاغة الانزياحات الفنية، وقيمتها التحفيزية في خلق الاستثارات الجمالية المؤثرة في تحريك الشعرية واستثارة قيمها الفنية البليغة. ومن هذا المنطلق، جاء البحث كاشفاً عن الكثير من القيم والمتحولات الجمالية التي تثير الشعرية، وتحرك إيقاعاتها التشكيلية المراوغة.
الكلمات المفتاحية: الشعرية – المتحول الجمالي الرؤيوي- فواعل نصية- المتحول االجمالي الرؤيوي البصري- اللذة الجمالية-المفارقة النصية.

إن الشعرية كتلة فواعل نصية استثارية تتأتى من بلاغة المتحولات الجمالية الأسلوبية المتغيرة في القصيدة التي تثيرها في الأنساق الشعرية من خلال فاعلية الرؤى الجمالية ومتغيراتها النصية التي تحقق هذه الغاية، وهذه القيمة لاتتأتى إلا من بلاغة الانزياحات النصية وفواعلها التشكيلية المثيرة،ومن هنا، فإن جمالية البناء التشكيلي في القصيدة يتوقف على فنية تكاملها وتضافرها النصي، ذلك أن " الجمال يكمن في روح البناء الكلية؛ أي الاتحاد بين الجزئيات بحيث تصبح وحدة متكاملة؛ فيشعر الناظر إلى المصنوع بالصلة بين جزئياته؛ وعلى ذلك، فإن الروح الكلية هي التي تعطي هذه الجزئيات جمالها، ونحن لانستطيع أن نبصر الروح إلا إذا تجاوزنا الجزئيات إلى الكليات"(1).).
والواقع أن شعرية القصيدة يكمن في تحولاتها النصية وتفاعل قوافيها وصورها بشكل انسيابي إيقاعي رشيق، ومن هنا تختلف شعرية القصيدة باختلاف فواعلها النصية الصوتية والدلالية والصرفية والمعجمية، وبمقدار التفاعل الجمالي بين الأنساق الشعرية تحقق القصيدة تفاعلها وتناغمها الجمالي؛ ذلك أن " وظيفة الكلمات إيقاعية بالدرجة الأولى، لكن الإيقاع لاتقتصر وظيفته على التنغيم فقط، بل يكمن فيه المضمون الداخلي الذي يدخل السامع في فضاء الشعر، وعن طريقه تتحقق الشاعرية في الشعر، ويتم التأثير بين الدال والمدلول، كما أنه يصل الحروف بالكلمات، والصوت بالمعنى، فيخلق المناخ الشعري الكلي"(2).)
وما نقصده ب( المتحول الجمالي الرؤيوي): هو كل ما يثير الشعرية من إيقاعات جمالية في التشكيل اللغوي والتوزيع البصري للأنساق الشعرية لتحقق قيمتها ومتغيرها الجمالي؛ وهذا يعني أن المتحول الجمالي الرؤيوي هو الفن الجمالي في تحريك الأنساق الشعرية لتبرز غايتها ومؤثرها الجمالي البليغ،لأن الشعر فن تشكيل القول بطرائق أسلوبية جمالية، وبهذا المعنى" فإن الشعر فن، والفن مشقة مدهشة، خروج من النظام المتوقع أو المقدور عليه، أميل إلى الاعتقاد بأن الشعر حرية مائية تنتصر على الألفة وركام الأعراف. وحين نجرده من مكونه الإيقاعي، أو التركيبي، أو المجازي النابض بالحياة والمفارقة، فإنما نلحظه بالنثر الموزون كما يقول جان كوهن... الفن لابد له من قوانين داخلية.. إن رقصة الباليه ليست كالهرولة، والغناء الحقيقي ليس صراخاً، كما أن العمل الدرامي ليس مشاجرة في حارة شعبية لابد من معيار يمكن تفحصه والتحقق من تجلياته في بنية الإيقاع، ونظام القافية، ونحو الجملة الشعرية.. وبغياب هذه المعايير قد يصبح الحديث عن الشعر حديثاً سائباً يفتقر إلى براهين نصية"(3).

ولهذا يكتب الكثير من الشعراء قصائدهم، و هم مسكونون بهاجس الكتابة المثيرة في شكلها الفني وطريقتها البنائية، وهذا ما أشار إليه العلاق بقوله:" إنني، ومنذ محاولاتي النقدية الأولى، كنت أولي شكل القصيدة، وبناء الفكرة الشعرية عناية خاصة؛ كانت كيفية القول الشعري لاماهيته هي ما يستحوذ على اهتمامي كله. ومع ذلك، فإن الوعي وتجلياته في الممارسة لا انفصال بينهما. النضج في وعي الكتابة، لدي، لايجد اكتماله إلا في نضج أدوات الإفصاح عن التجربة؛ وهذه الأدوات- بدورها- تزيد التجربة حدة وصفاء؛ لذلك، فإن التحول في مستويات التعامل مع النصوص الشعرية محصلة طبيعية لفائض الخبرة أولاً، وللتعالق الحاد بين الملكة الشعرية والاستعداد النقدي في الذات الواحدة... ونتيجة لهذا التلاحم القاسي والحميم بين هاتين الطاقتين،كان لي، أو حاولت أن يكون لي منحاي الخاص فيما أكتب من نقد منحىً يكون فيه النقد أدخل في باب الخلق الادبي منه في باب العلم، أو البحث الجاف المحض. وتكون فيه اللغة النقدية على قدر عالٍ من النقاء، وترف التعبير، والبعد عن الترهل؛ كأنها مصدر نبيل لرهافة القول، ومجده القائم بذاته؛ لذلك، فإن اللغة ليست مجرد وسيلة للتوصيل، أو خادمة لقول أول أرفع منها منزلة فيها: هي جزء حي من جمالية الأداء النقدي وأحد تجلياته الخلاقة"(4).
ووفق هذا المنظور، فإن الوعي الجمالي من مثيرات المتحول الجمالي الرؤيوي في تشكيل القصيدة، وبناء التجربة الشعرية بناءً فنيا مثيراً، ومن أجل ذلك، فإن فاعلية المتحول الجمالي الرؤيوي من مؤثرات الشعرية والبنى الدالة في القصيدة.
البحث:
يعد المتحول الجمالي الرؤيوي من محفزات الشعرية الحداثوية في كشف المتغيرات الجمالية الأسلوبية لاسيما في الانتقال من قيمة جمالية مؤثرة إلى قيمة استثارية أكثر استثارة وفاعلية جمالية في التحفيز والتخليق الجمالي لهذا أكد الناقد الجمالي خليل موسى "أن عملية التشكيل التي يقوم بها الشاعر في القصيدة عملية معقدة غاية التعقيد؛ لأنها تأخذ – في الاعتبار الأول- أن تكون القصيدة- مهما طالت- هي الوحدة الفنية التي تعمل داخلها أشتات من المفردات والدقائق"(5) .وهذا يعني أن المتحول الجمالي الرؤيوي متشعب في النص الشعري، تبعاً لفاعلية الرؤية الشعرية التي يبثها الشاعر في قصيدته والمتغيرات الجمالية التي ينبني عليها النص في خلق الاستثارة واللذة الجمالية، ومن هنا " فإن الشعر يستمد إيقاعه من مادة صياغته ذاتها، أي من اللغة أثناء تشكلها الآني في علاقات لا تعاقب بين أبعادها، أو تجاور، أو احتواء"(6).
ولهذا يعد المتحول الجمالي الرؤيوي فاعلية استثارية جمالية تتأسس على كل ما يحرك الرؤيا الجمالية صوب مغريات تشكيلية في إبراز شعرية الاقتران الجمالي وبلاغة هذا الاقتران الجمالي البليغ في استثارة الشعرية، واستثارة إيقاعاتها الجمالية، من ناحية محفزات الرؤيا ، ومثيراتها الرابطة عبر بلاغة الاقتران، يقول أدونيس:" شكل القصيدة هو القصيدة كلها؛ لغة غير منفصلة عما تقوله، ومضمون ليس منفصلاً عن الكلمات التي تفصح عنه، فالشكل والمضمون وحدة في كل أثر شعري"(7).وبناء عليه، فإن المتحول الجمالي الرؤيوي هو إيقاع جمالي تشكيلي في تركيب اللغة وتشكيلها النصي المثير، وفق متطلبات نصية رؤيوية تجعل الشاعر يختار شكلاً أسلوبياً دون آخر في تحفيز الشعرية واستثارة إيقاعاتها الجمالية وفق المنطلقات والمؤثرات الأسلوبية التالي
المبحث الأول :-المتحول الجمالي الرؤيوي الاستهلالي:
ونقصد ب( المتحول الجمالي الرؤيوي الاستهلالي) : كل ما يثير الرؤيا الشعرية من مؤثرات جمالية تتبع فاعلية الرؤيا الجمالية في التشكيل على مستوى بلاغة الاستهلال كقيمة جمالية تحفيزية في خلق اللغة الجمالية المؤثرة في تحفيز النص، وتلوين مؤثراته النصية بما يحقق للقصيدة التنوع الجمالي الأمثل في تحريك الشعرية واستثارة إيقاعاتها الجمالية، ومن هذا المنطلق، فإن بلاغة الاستهلال رؤيوياً تنبع من حنكة الشاعر التوليفية في ربط الأنساق الشعرية واستثارة إيقاعاتها الجمالية في الفاتحة النصية التي تبرز مدى الفكر الجمالي أو الوثبة الجمالية الأولى التي تشد المتلقي إليها عبر بلاغة الرؤيا ومثيراتها النصية التي تحقق البلاغة والدهشة الجمالية، ومن هذا المنطلق فإن الشاعر عندما يستغرق في كتابة قصيدته صفحات طويلة متناغمة ومنسجمة الأجزاء فإن هذا لايؤثر على الإطلاق في درجة تواصل القارئ مع القصيدة؛ فالمهم ليس الكم؛ وإنما الكيف القائم على تحقيق الانسجام والتناسب بين طريقة التقديم والفكرة المراد تقديمها"(8). وهكذا، فإن بلاغة القصيدة في متحولها الجمالي الرؤيوي الاستهلالي تبرز في الطاقة الجمالية التي تملكها الكثير من القصائد الشعرية عبر متغيرها الجمالي المؤثر، والطاقة الجمالية التي تثيرها وفق متغيرها النصي، وفاعلية هذا المتغير في استثارة الرؤيا الجمالية في الفواتح النصية التي تعد العتبات النصية الاستثارية الأولى المثيرة في شد المتلقي أو القارئ إلى هيكل القصيدة وبنيتها النصية بالكامل، كما في قصيدة(وحدي) للشاعرة سعاد الصباح التي تقول فيها:
" أنا وحدي أتردى في متاهات الطريق
أثقلتني قسوة الأيام بالقيد العتيق
ورمتني فوق أتون من النار سحيق
ثم ألقت بي إلى بحرٍ من اليأس عتيق
لأقاسي نهم الضدين: بحرٌ وحريق
في وجود ليس لي في جوه الباكي صديق
والظلام العابس الوجه بآمالي محيق
ونجوم الليل سوداء امحى منها البريق"(9).
هنا، تعتمد الشاعرة الحس الجمالي الرؤيوي في بث حالة الاغتراب والخواء والوحشة الوجودية التي تعانيها إثر حالة الفراق التي تعانيها من جراء فقد حبيبها الذي ارتحل إلى عالم بعيد ، فألقاها إلى غياهب الظلمة والوحشة والاغتراب النفسي المؤلم،وهنا نلحظ انتقال الشاعرة من صورة اغترابية إلى صورة أكثراغتراباً ووحشة وخواء نفسياً دامعاً مشبعاً بكل مظاهر الحنين والرغبة والشوق العاطفي اليائس المنكسر،كما في الصور التالية التي تجسد قمة اغترابها ومعاناتها الوجودية:[أثقلتني قسوة الأيام بالقيد العتيق- ورمتني فوق أتون من النار سحيق... ونجوم الليل سوداء امحى منها البريق]،ولو تأمل القارئ فاعلية المتحول الجمالي الرؤيوي الاستهلالي في الأسطر الشعرية السابقة- من حيث الفاعلية والقيمة والاستثارة والتحفيز الجمالي لأدرك عمق الشاعرية في اقتناص الصور المؤثرة التي تخفي دهشة جمالية في التعبير عن الحالة النفسية الشعورية بعمق واستثارة ولذة جمالية مؤثرة؛ وهذا يؤكد فاعلية النظرة الجمالية وعمق استثارتها اللحظة العاطفية الشعورية الاغترابية اليائسة ونقلها للقارئ بشفافية وعمق وشاعرية آسرة.
وما ينبغي التأكيد عليه أن المتحول الجمالي الرؤيوي الاستهلالي- في لغة الحداثة- قد يأتي قمة في الجمالية لما تتلاحم الصور وتتكثف الرؤى والدلالات المكونة للرؤيا النصية، لتغلغل في مفاصل القصيدة كلها من فاتحتها الاستهلالية إلى خاتمتها النصية، كما في قول نزار قباني في قصيدته( غرناطة) التي يقول فيها:
" في مدخل (الحمراء) كان لقاؤنا
ما أطيب اللقيا بلا ميعاد
عينان سوداوان.. في حجريهما
تتوالدُ الأبعاد من أبعاد
هل أنت اسبانيةٌ ساءلتها
قالت: وفي غرناطة ميلادي
غرناطة ٌ! وصحتْ قرونٌ سبعة ٌ
في تينكِ العينين... بعد رقاد
وأميةٌ راياتها مرفوعة ٌ
وجيادها موصولة ٌ بجيادِ
ما أغرب التاريخَ.. كيف أعادني
لحفيدةٍ سمراءَ.. من أحفادي
وجهٌ دمشقيُّ.. رأيت خلاله
أجفان بلقيسٍ وجيدَ سعاد
ورأيتُ منزلنا القديم وحجرةً
كانت أمي تمد وسادي
والياسمينةَ، رُصعت بنجومها
والبركة الذهبيةُ الانشاد
.........
ودمشقُ.. أين تكونُ؟ قلت ترينها
في شعركِ المنساب نهر سوادِ
في وجهك العربي، في الثغر الذي
مازال مختزناً شموس بلادي"(10).
هنا، يلحظ القارئ مقدار اللذة الجمالية في تشكيل الصور، لتشد بعضها البعض كأيقونات جمالية تصويرية تعكس براعة الشاعر في التقاط الصور الغزلية،وربط الدلالات فيما بينها بقيم جمالية رفيعة المستوى، ولو دقق القارئ في مصدر الجمالية النصية لأدرك حنكة الشاعر في استثارة المتحول الجمالي الرؤيوي الاستهلالي من خلال بلاغة الأنساق التشكيلية التي تخفي دهشة جمالية في ربط الصورة بمتحولها الجمالي الخلاق على شاكلة قوله في هذه الصور الا نسيابية الاستثارية المحركة للشعرية كما في قوله:[ غرناطة ٌ! وصحتْ قرونٌ سبعة /ٌفي تينكِ العينين... بعد رقاد/وأميةٌ راياتها مرفوعة /ٌوجيادها موصولة ٌ بجيادِ/ما أغرب التاريخَ.. كيف أعادني/لحفيدةٍ سمراءَ.. من أحفادي]؛واللافت للقارئ جمالياً هذا التكامل الجمالي الانسيابي الذي يثير الصور، ويحرك إيقاعاتها الجمالية المتكاملة لتأتي قمة في الاستثارة والدهشة وبلاغة الإحساس الجمالي.وكأن الشاعر ينمنم الصور نمنمة جمالية في رسم مؤثراتها الغزلية البليغة في تماسكها وتفاعلها وترابطها النصي، لدرجة أن الصورة تقود الأخرى بحراك رؤيوي جمالي رفيع المستوى كما في قوله:[والياسمينة رصعت بنجومها/ والبركة الذهبية الانشاد/ودمشق ..أيون تكون؟ قلت ترينها في شعرك المنساب نهر سواد/ في وجهك العربي ، في الثغر الذي ما زال مختزنا شموس بلادي]،وهكذا يأتي المتحول الجمالي الرؤيوي الاستهلالي في القصيدة عنصراً بليغاً في شد مفاصل القصيدة وصورها لتغدو قمة في الانسيابية والدهشة الجمالية والروعة الإيحائية في استثارة القارئ وتفعيله لتلقي النص الشعري تلقياً جمالياً تفاعلياً آسراً.
والمثير حقاً أن المتحول الجمالي الرؤيوي الاستهلالي – في بعض القصائد- قد يكون محفزاً جمالياً استثارياً في خلق اللذة الجمالية في النسق الشعري عندما يكون الشاعر مغرقاً في تشكيل الصور المؤثرة التي ترصد اغتراب الذات أو حالة التوق العاطفي ولحظة الهيام المثلى التي وصل إليها، كما في قوله:
" ملوِّحة ً، يامناديل حبي
تقولين أكثر مما يقولُ
هديلُ الحمام
وأكثر من دمعةٍ
خلفَ جفنٍ.. ينام
على حلمٍ هاربِ!
مفتحة ، ياشبابيك حبي
تمرُّ المدينهْ
أمامكِ، عرسَ طغاةْ
ومرثاةِ أم حزينة
وخلف الستائر، أقمارنا
بقايا عفونهْ
وزنزانتي موصده!"(11).
هنا، يأتي المتحول الجمالي الرؤيوي الاستهلالي ذا قيمة استثارية من خلال بلاغة الصور التعبيرية وأفقها الجمالي العاطفي المفتوح بالرؤى والدلالات والمعاني والمؤثرات اللغوية الاستثارية، كما في الصور التالية :[ملوحة، يامناديل حبي/ تقولين أكثر مما يقول هديلُ الحمام- مفتحة، يا شبابيك حبي تمر المدينه/ أمامك، عرسَ طغاة/ ومرثاة أم حزينة ]، فهذا التلاعب الاستثاري بالمتحول الجمالي التشكيلي من رؤية إلى رؤية يفتح أفق الدلالات اللامتوقعة، ويبث المعاني الجديدة ويثير في القارئ متعة مكاشفة المعاني ودلالاتها المراوغة.
ولو دقق القارئ ببلاغة الصور الانزياحية وحراكها التكاملي التفاعلي على مستوى الرؤية النصية التي تبثها القصيدة لأدرك بلاغة الاستهلال من حيث استثارة الصور العميقة ودلالاتها النصية المثيرة كما في قوة الصورة التعبيرية الدالة على حالة الأسى والمعاناة بعمق وشاعرية:[وخلف الستائر أقمارنا/ بقايا عفونة/ وزنزانتي موصده]؛وهكذا يبدو المتحول الجمالي الرؤيوي الاستهلالي بليغاً في استثارة الرؤى الجمالية في القصيدة لتحمل بعدها الاستثاري الجمالي من حيث الحنكة والاستثارة واللذة الجمالية، وفاعلية التكامل الجمالي في الانتقال من صورة تعبيرية جمالية إلى صورة أكثر بيلاغة وتحفيزاً ومتعة استثارية في التعبير عن الرؤية الشعرية.
وصفوة القول:إن بلاغة المتحول الجمالي الرؤيوي الاستهلالي- في لغة الحداثة الشعرية – تظهر بالتكامل الجمالي والتواشج التعبيري التفاعلي بين الصور، وعمق الرؤيا الشعرية في الانتقال من صورة إلى صورة لتتضح الرؤيا الشعرية لاسيما بالفاتحة النصية الاستهلالية التي تجعل القصيدة مثار اهتمام وتفعيل وخلق جمالي استثاري على الدوام من خلال أفقها الجمالي المراوغ وحساسية منظورها الجمالي البليغ.
المبحث الثاني: المتحول الجمالي الرؤيوي الفني:
ونقصد بالمتحول الجمالي الرؤيوي الفني: هو المتحول التعبيري الفني في التشكيل الشعري المثير الذي ينقل القصيدة من طابع الاعتيادية والمألوف إلى الطابع الشعري الاستثاري اللامألوف من خلال حنكة الشاعر التوليفية الفنية بالانتقال من رؤية إلى رؤية، ومن أسلوب استثاري جمالي إلى آخر، حسب براعة الشاعر والتلاعب النصي الاستثاري بالجمل الشعرية وتوليف الكلمات التي تحقق إيقاعها الجمالي الاستثاري البليغ، وبهذا المعنى الإيحائي يقول ناظم حسن:" تتجلى الشعرية في كون الكلمة تدرك بوصفها كلمة، وليست مجرد بديل على الشيء المسمى ولا كانبثاق لانفعال، وتتجلى في كون الكلمات وتركيبها ودلالاتها وشكلها الخارجي والداخلي ليست مجرد إمارات مختلفة عن الواقع، بل لها وزنها الخاص وقيمتها الخاصة"(12).وهذا يعني أن الكلمات تكتسب قيمتها الاستثارية من خلال تركيبها في نسق شعري جمالي يظهر للقارئ من خلال طبيعة التفاعل والتناغم والانسجام بين الأنساق الشعرية لتحقق استثارتها وبلاغتها النصية، وهذا يعني أنه " ليست كل الكلمات تتساوى في غناها، وحسن ارتباطها بالسياق، وإنه لجزء من مهمة الشاعر أن يرتب الكلمات الأغنى بين الكلمات الأفقر في المواضع المناسبة"(13). ومن هذا المنطلق يمكن أن نعد الشاعر بأنه مركب لغوي فني في تشكيل اللغة الشعرية بإيقاعات جمالية استثارية تجعله يرتقي جمالياً تبعاً لمنحاه التشكيلي الاستثاري البليغ وجمالية الاقتران اللغوي بين الأنساق الشعرية؛ لتسمو وترتقي جمالياً في متحولاتها وإيقاعاتها الجمالية.
وعلى هذا الأساس، فإن فاعلية المتحول الجمالي الرؤيوي الفني لاتقتصر على توليف الكلمات وتركيبها فنياً أو جمالياً، وإنما تمتد هذه الفاعلية لتشمل الرؤيا الشعرية بكل محمولاتها الجمالية، وأبعادها الدلالية، بما تحمله من خصوصية بالمعنى وتفاعل الدلالات، كما في قول شوقي بزيع في قصيدته( كم أنت أجمل في الحنين إليك) التي يقول فيها:
"تطأُ النعومة ُ نفسها
في ماء فتنتك الأليفِ
وينتشي بلعاب نأيكِ سمَّها الليلي،
وجهكِ سادرُ في فجره العاري
ونهدك يستريح الآن في كنف استدارته
بعيداً عن شهيق يدي
ثم يفوحُ كالقمرِ الرضيع00"(14).
إن القارئ هنا، يتحثث البعد الجمالي الرؤيوي الفني من خلال بلاغة الصور الشعرية والاستعارات اللاهبة بالدلالات والرؤى الشعرية، كما في الانزياح الجمالي الفني الذي تثيره الجمل الشعرية، لتحقق أرقى مساراتها النصية:[تطأُ النعومة نفسها في ماء فتنتك الأليف]؛ فالقارئ يتحثث البعد الجمالي للتشكيل اللغوي الانزياحي[ ماء فتنتك الأليف]، من خلال إسناد الماء للفتنة ثم إردافها بالصفة المثيرة[ الأليف] التي عضدت شعرية الانزياح؛ ثم حقق الشاعر قيمة انزياحية عالية بقوله:[ ينتشي بلعاب نأيك سمها الليلي]،ليخلق حالة من التلاحم والتناغم الفني بين الأنساق الشعرية لتسمو وترتقي جمالياً. من خلال بكارة الانزياح وعمق مدلوله الجمالي وقيمة متحوله الفني، كما في قوله:[ شهيق يدي/ ثم يفوح كالقمر الرضيع]؛فلو دقق القارئ في مثيرات الرؤية النصية؛ لخلص إلى رؤى أكثر استثارة وفاعلية وحنكة جمالية.
وما ينبغي الإشارة إليه أن المتحول الجمالي الرؤيوي الفني- في قصائد الحداثة- يختلف من قصيدة إلى قصيدة، حسب درجة الرؤيا الشعرية، والمهارة الإبداعية في اقتناص الكلمات المتناغمة في إيقاعاتها الجمالية؛ لتحقق غايتها الإبداعية الاستثارية المثيرة، وكلما تأنق الشاعر في رؤيته النصية لتسمو وترتقي جمالياً استطاع أن يثير بالمتلقي لذة المكاشفة النصية البليغة التي تصل أرقى قيمها ومثيراتها التكوينية،كما في قول علي جعفر العلاق:
"كم كنا ملائكة بدائيين:
لا نهدأ، لانرتاحُ..
لانغفو..
نرافقه إلى حقلٍ قصي مثلما حلمُ
قبالة كوخنا المتعبْ
لكي نلعب..
ونمضي
اليومَ
تلوَ اليومْ
لاليلٌ من الأوهامِ..
لاقمرٌ بدائيٌّ يشاركنا
رغيفَ النومْ"(15).
إن القارئ هنا، يتحثث البعد الجمالي الفني في رسم الانزياح الفني الذي يحقق أرقى درجات المباغتة والاستثارة والفاعلية الجمالية؛ كما في الانزياح الجمالي الفني:[ نرافقه إلى حقل قصي مثلما حلم/ قبالة كوخنا المتعب]، فإسناد الصفة( المتعب) إلى ( كوخنا)تركت أثرها الفني في المخيلة الشعرية، لتسمو وترتقي جمالياً؛ فهذا الإسناد اللغوي الصادم ( المتعب)، حقق قفزة في التلقي الجمالي، وأثار المخيلة الشعرية لترتقي وتسمو جمالياً بإيقاعات تشكيلية مراوغة، انعكس على القفلة النصية التي جاءت قمة في الاستثارة واللذة الجمالية[ رغيف النوم]؛ فالقارئ قد يألف في مخيلته الشعرية رغيف الخبز ، نظراً إلى قرب الدلالة من قرينها الدال،أما في الانزياح التشكيلي العميق فقد حقق الشاعر قفزة في التلقي الجمالي عندما قال:[ لاقمرٌ بدائي يشاركنا رغيف النوم]،وهكذا أثار الشاعر مخيلتنا الشعرية بقوله:[ رغيف النوم]،التي جاءت قمة في الانزياح والاستثارة واللذة الشعرية.
والواقع أن المتحول الجمالي الرؤيوي الفني- في قصائد الحداثة- يتأسس على مغريات الصور الانزياحية البليغة في إيقاعاتها وبناها الدالة، كما في قصيدة( عن الصمود) لمحمود درويش التي يقول فيها:
" عيناكِ، يا صديقتي العجوز، يا صديقتي المراهقه
عيناكِ شحاذانِ في ليلِ الزوايا الخانقهْ
لايضحكُ الرجاءُ فيهما، ولاتنامُ الصاعقهْ
لم يبقَ شيء عندنا... إلا الدموع الغارقهْ..
................
وأنتِ يا صديقتي العجوز، يا صديقتي المراهقهْ
كوني على أشلائنا ، كالزنبقات العابقهْ"(16).
هنا، يثيرنا الشاعر جمالياً بالمتحول الجمالي الرؤيوي الفني الذي يرقى الشاعر به درجات من الاستثارة واللذة في تحفيز الصور المثيرة المباغتة في نسقها الجمالي:[ لم يبق شيء منا إلا الدموع الغارقه/ كوني على أشلائنا كالزنبقات العابقه]،هنا نلحظ أن البعد الجمالي التحفيزي للصور الشعرية يظهر من خلال حنكة الشاعر في الوقوف على الدلالات الشاعرية بإيقاعاتها المكثفة ودلالاتها النصية المفتوحة، وهو ما يتناسب مع إيقاع الغزل بكل محمولات الرؤية الشعرية ومثيرها العاطفي المكثف، ولو تأمل القارئ مدى حنكة الشاعر في رسم الصورة الانزياحية المؤثرة لأدرك براعته الفنية في الوقوف على الصور الرؤيوية المكثفة بمعانيها ورؤاها ، كما في قوله:[ لايضحك الرجاء فيهما/ ولاتنام الصاعقه]،وهذا يدلنا على بلاغة الرؤية الشعرية بكل مكنوناتها الجمالية وبعدها الإيحائي الفني.
المبحث الثالث : المتحول الجمالي الرؤيوي البصري:
إن النص الشعري كتلة تفاعلات بصرية استثارية تحفيزية تسهم في استثارة الرؤية النصية لتحقق قيمتها وفاعليتها النصية، ومن هنا يمكن القول:" لقد دخل التشكيل الكتابي للنص الشعري القديم في علاقة ألفة مع القارئ العربي، فأصبح تشكيل القصيدة الهندسي ضمن مظان القارئ وتوقعاته. أما في شعر التفعيلة فقد قدمت أشكال مختلفة للكتابة شملت الخط وأشكاله وتوزيعات السواد والبياض واستخدامات علامات الترقيم...إلى غير ذلك من عناصر تتعلق بالرؤية البصرية التي هي أقدر على إدراك المكان لظهوره المستقر والجامد في حين أن الزمان يمر وتتعاقب لحظاته...وعلى هذا، فإن المستوى الكتابي لايمكن اعتباره ثانوياً؛ لأنه يحمل دلالات يمكن سبر أغوارها حتى لو كان المبدع لايتحكم في إنتاج قصدي للمستوى الكتابي في أثناء عملية الإبداع الشعري.وبذلك يقع على عاتق المتلقي جزء كبير من مهمة الكشف عن كيفية توظيف التشكيلات الكتابية، واستغلال الإمكانات التعبيرية للغة المكتوبة؛ وهذا لأن دراسة المستوى الكتابي لاتمثل تحليل اللغة الشعرية في مظهرها البصري فحسب، وإنما ترى في ذلك التشكيل البصري للغة مستوى تعبيرياً ينبغي التوصل إليه لمعرفة كنه الإبداع وجماليته في النص الشعري الحديث. وبذلك، فإن المستوى الكتابي يحكمه شكل يجد مرجعه في ذائقة المتلقي وحساسيته"(17).
وهذا يعني أن شعرية المتحول الجمالي الرؤيوي- تتبع فاعلية الهندسة التشكيلية الكتابية في توليف الكلمات وبنائها بالشكل البصري الهندسي التفاعلي الفاعل، وبمقدار شعرية الأنساق الشعرية وبلاغة مردودها الجمالي تحقق القصيدة استثارتها وشعريتها البصرية بالمنحى الهندسي التشكيلي المراوغ،وحنكة الشاعر في الانتقال من رؤية إلى رؤية، ومن صورة ايحائية إلى صورة،ولهذا" أصبح ضرورياً على أي متلقٍّ للنص الشعري الحديث أن ينظر في أمر الكتابة، وطريقة رص المفردات وتشكيل الكلام على الصفحات الشعرية. وذلك بعد أن اعتمد الشاعر العربي الحديث على كثير من الخصائص الكتابية في إنتاج النص الشعري الحديث، وهذا مالم يكن معروفاً لدى الشاعر القديم الذي لم يهتم بالخصائص الكتابية بقدر اهتمامه بالخصائص الشفاهية، فكان يعنى بالفصل والوصل، والتقديم والتأخير، والحذف والتكرار لإحداث الأثر الصوتي من خلال الإلقاء الشعري. ومع ظهور شعر التفعيلة وتراجع دور الإنشاد والسماع فيه صارت الحاجة ماسة إلى التعويل على الخصائص الكتابية المتمثلة في تشكيل المفردات والجمل الشعرية على الصفحة تشكيلاً خاصاً يعتمد على علامات الترقيم في تحديد نقاط الوقف والحركة في الجمل الشعرية"(18).
ومن هذا المنطلق يمكن أن نعد المتحول الجمالي الرؤيوي البصري ذا قيمة تحفيزية في استثارة الرؤيا الشعرية لتحقق فاعليتها واستثارتها الجمالية،فلكل جملة شعرية هندستها اليصرية الخاصة، وقيمتها التحفيزية النصية التي تجعل القارئ يتفاعل مع القصيدة لتحقق فاعليتها ودهشتها النصية، ولهذا تتنوع القصائد حسب درجة الفاعلية والاستثارة الشعرية بالانتقال من شكل أسلوبي جمالي إلى شكل أسلوبي أكثر استثارة ولذة وفاعلية،لأن النص الشعري الحداثي كتلة مؤثرات وفوةاعل بصرية تبدأ من الكلمة والجملة والتركيب تالبصري على فضاء الصفحة الشعرية، كما في قصيدة( رجلٌ في السبعين.. وسيدة ٌ في ...) لحميد سعيد التي يقول فيها:
رجلٌ في السبعين.. وسيدة ٌ في...؟
يلتقيان..
بمشفى في عمان..
... ... ...
... ... ...
أتعرفني..؟
... ... ...
... ... ...
يفترقان"(19).
هنا، يتلاعب الشاعر بصرياً بالقارئ عبر علامات الترقيم وتراكم الفراغات التي تتخلل الأسطر الشعرية، لتحقق فاعليتها النصية،وها هنا ابتدأ الشاعر هندسته البصرية الرؤيوية في رسم المشهد الشعري وكأنه يلتقطه بعدسة الكاميرا عبر المكبر البصري لوجه الرجل السبعيني، وتلك السيدة التي تقف أمامه، ثم يغرق الأسطر الشعرية بالنثيث النقطي المتراكم بعد قوله:[ بمشفى في عمان]، وهذا النثيث النقطي أسهم في مساحة التأمل والاستغراق في المشهد ليدل على أن اللقاء جاء بعد زمن طويل مغرق في القدم، وهذا ما دلل عليه بالاستفهام التعجبي الاستنكاري التذكري(أتعرفني؟) ثم أتبعه بالنثيث النقطي الطويل دلالة على الزمان البعيد الذي مضى:[........]، ثم جاءت لفظة[ يفترقان] لتعكس لحظة الاغتراب والإحساس الوجودي بالعقم وتلاشي تلك اللحظات التي كانت تحمل معها كل لحظات الدفء والحنين في تلك الأيام السابقة، وهكذا أدت العلامات البصرية عبر المتحولات البصرية التي تربط الأنساق الشعرية دورها الاستثاري المميز في تفعيل الرؤيا الشعرية الاغترابية التي ترسم المشهد الشعري بحنكة جمالية ورؤية نصية عميقة، ترسم الإحساس الجمالي بفاعلية وعمق وإحساس اغترابي زمكاني عميق الدلالة والإحساس.
وكما وفق الشاعر حميد سعيد في استثارة القارئ جمالياً عبر علامات الترقيم ،وتناوب البياض والسواد في جعل القارئ يتفاعل مع الأنساق الشعرية بفاعلية وإيحاء وشاعرية وفق الشاعر صلاح عبد الصبور في قصيدته( أبي) في رسم الحالة الشعورية بكل صداها النفسي وحراكها البصري المتتابع، تحفيزاً للقارئ في استثارة الرؤية النصية، كما في قوله:
" عقر الكلبُ أخي...
وهو في الحقلِ يقودُ الماشيةْ
فبكينا
حين نادى...
يا أبي!
إننا الأغرابُ في القفرِ الكبير
إننا ضقنا، وضاقت روحنا
القطيع...!
غاب راعيه، وطالت رحلته
وهو في بيداء لاظل بها"(20).
هنا، يعبر الشاعر بعمق وفاعلية عن حالة الألم والضيق من هذا الزمن المؤلم الذي يضيق ويضيق، من خلال طلب الخلاص والتماس النجاة من الظلم الوجودي، وقد جاءت الجملة المجازية الخبرية( عقر الكلبُ أخي... ) متبوعة بثلاث نقط، ترسم وقع الحالة النفسية الشعورية التي ترسم إحساس الألم، ثم جاءت الجمل الأخرى بعلاماتها البصرية دالة على حالة الخواء واليأس والحزن، والوحشة والإحساس بالعقم وحالة اللاجدوى[ فبكينا حين نادى.../ يا أبي!/ إننا ضقنا، وضاقت روحنا القطيع...!]، وكأن المشهد الشعري كتلة رؤى اغترابية مأزومة ترسم واقع الشاعر الموحش القائم على الظلم والوحشة والألم وضياع الأشياء من بين يديه، وهذا ما عبر عنه بقوله:[ وهو في بيداء لاظل بها] دلالة على حالة الخواء والوحشة والألم التي يعيشها في واقعه الاغترابي المأزوم.
وهكذا جاءت العلامات البصرية عبر فاعلية المتحول الجمالي الرؤيوي البصري فاعلة في تحفيز الدلالات واستثارتها جمالياً لتحقق قيمتها ولعبتها الجمالية، وكأن الشاعر يبث الدلالات المضمرة عبر العلامات البصرية التي تكشف الكثير من الرؤى والدلالات الغائرة في الباطن أو اللاشعور، لتظهر للقارئ وتكشف الكثير من المؤثرات النفسية البعيدة التي ترسمها تلكم العلامات كأيقونات بصرية درامية تحمل الكثير من الدلالات والرؤى والمنظورات العميقة.
والمثير حقاً أن المتحول الجمالي الرؤيوي البصري- في قصائد الحداثة- يتنوع تبعاً لفاعلية الرؤية الشعرية ومهارة الشاعر الأسلوبية في الانتقال من رؤية إلى رؤية، ودلالة إلى دلالة،ولا نبالغ في قولنا: إن الكثير من الشعراء يضمرون دلالات عميقة متخفية خلف تلك الدلالات الواضحة للقارئ، لا تظهر للقارئ إلا عبر فاعلية العلامات البصرية ومحمولها الجمالي البصري الرؤيوي العميق الذي يثيره عبر الفراغات وعلامات الترقيم وسماكة الخط والتلاعب بصرياً بفضاء القصيدة، كما في قصيدة( الصوت والصدى) لعبد العزيز المقالح:
" عشرون عاماً لم أنمْ..
عيناي جثتان ينهشُ الظلامُ فيهما
وينخرُ الألم...
حنجرتي مقطوعة ٌ، صرتُ بغيرِ فم
صرختُ،،،
مات الصوتُ في الأعماق
الريحُ حولي ترسمُ الإخفاق
تأكل ما تبقى من حروفِ الأملِ القديمِ
والأشواق..."(21).
هنا، يأتي المتحول الجمالي الرؤيوي البصري ذا قيمة تحفيزية استثارية في كشف حالة الألم والخواء النفسي التي يعيشها الشاعر كنوع من الإحساس بالاغتراب والوحشة القاتمة، وهذا ما يظهره الشاعر بقوله:[ عيناي جثتان ينهشُ الظلام فيهما/ وينخرُ الألم...]، وقد اتبع الشاعر لفظة الألم بفراغات نقطية دلالة على شدة الألم وامتداده إلى كل ذرات كيانه، ثم جاءت الجمل الأخرى أشد إيلاماً وجرحاً:[ حنجرتي مقطوعة ٌ، صرتُ بغير فم/ صرختُ،،،]،ومن ينظر في الجمل الشعرية يلحظ حالة من الأسى والعقم والانكسار واليأس وتلاشي الأمل والإخفاق والضجر الوجودي:[ الريحُ حولي ترسمُ الإخفاق/ تأكل ما تبقى من حروف الأمل القديم/ والأشواق]، ومن يدقق أكثر في فاعلية علامات الترقيم ومثيراتها النصية يلحظ حالة من الكشف الجمالي الذي تظهره الفراغات البصرية في التنفيس عن إحساس الشاعر الاغترابي المأزوم، وحالة الوجاعة والقلق واليأس التي يعيشها في واقعه المأزوم.
وصفوة القول:إن فاعلية المتحول الجمالي الرؤيوي البصري- في قصائد الحداثة- تظهر من خلال فاعلية العلامات البصرية وقيمتها في الكشف عن الرؤية الشعرية التي تحكم القصيدة بكل متحولات الرؤيوية النصية، وهذا دليل أن غنى الشعرية في القصائد البحداثية من غنى منتجاتها البصرية وفواعل الرؤية الشعرية التي تفعل الأنساق الشعرية لتسمو وترتقي جمالياً.
نتائج أخيرة:
1-إن المتحول الجمالي الرؤيوي الاستهلالي- في قصائد الحداثة – يتنوع في استثارته الجمالية ، تبعاً لبلاغة الصور الشعرية الاستهلالية وفاعلية التحفيز الجمالي للرؤية الشعرية التي تجعل القصيدة ترتقي في استهلالها لتستثير المتلقي وتجفزه لتلقيها جمالياً.
2- إن المتحول الجمالي الرؤيوي الفني- في قصائد الحداثة- يتنوع بتنوع المثيرات التشكيلية الانزياحية وبلاغة الشاعر في الانتقال من صورة إلى صورة حسب درجة الفاعلية والرؤية الجمالية التي تثيرها القصائد في متحولها الجمالي الرؤيوي الفني والطاقة الجمالية التي تثيرها في إيقاعاتها التصويرية المبتكرة.
3- إن فاعلية المتحول الجمالي الرؤيوي البصري- في قصائد الحداثة- تتأتى من فاعلية العلامات البصرية واستثارتها الرؤية الشعرية من خلال كشف المضمرات النصية التي تثيرها العلامات البصرية في كشفها عن الكثير من الدلالات الغائبة أو المسكوت عنها في الباطن النصي.
خلاصة:
نخلص من هذه الدراسة الكشفية إلى أن بلاغة المتحول الجمالي الرؤيوي تختلف من قصيدة إلى قصيدة، ومن تجربة شعرية إلى أخرى، تبعاً لفاعلية المؤثرات الجمالية التي تحكم الكثير من القصائد الحداثية في متحولها الجمالي الانزياحي البليغ، وهذا يدلنا على أن المتحولات الجمالية الرؤيوية تتبع حركة الصور ومؤثراتها النصية القيم الانزياحية التي تثيرها على المستوى الفني.

الحواشي:
(1)ترمانيني، خلود،2004-الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص35.
(2)موسى، خليل،1991- الحداثة في حركة الشعر المعاصر، مطبعة الجمهورية،دمشق، ط1، ص94.
(3)العلاق،علي جعفر،2015- حياة في القصيدة، حوار: عبد اللطيف الوراري، دار كنعان، دمشق، ط1، ص80.
(4) المرجع نفسه، ص108-109.
(5)إسماعيل، عز الدين،1981- التفسير النفسي للأدب، دار العودة، بيروت،ط4،ص63.
(6) عصفور، جابر،1974- الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ص144-145.
(7) أدونيس، علي أحمد سعيد،1983- مقدمة للشعر العربي، دار العودة، بيروت،ط4،ص110-111.
(8)ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، إشراف: أحمد زياد محبك، أطروحة دكتوراه ، مخطوطة جامعة حلب ص320.
(9)الصباح، سعاد،1992- أمنية،دار سعاد الصباح، الكويت،ط1، ص73-74.
(10)قباني، نزار – الأعمال الشعرية الكاملة، ج1/ ص566-657.
(11)درويش، محمود،2005- الأعمال الأولى، رياض الريس للكتب والنشر، ص101-102.
(12) ناظم، حسن، 1994- مفاهيم الشعرية، دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المركز الثقافي العربي،ط1، ص98.
(13)إليوت، ت. س، 1991- في الشعر والشعراء، تر: محمد جديد، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، ط1، ص34.
(14)بزيع، شوقي ،2005- الأعمال الشعرية، المؤسسة العربية لللدراسات والنشر،بيروت، لبنان،ط1،ص577.
(15) العلاق، علي جعفر،2021- المجموعات الشعرية الأخيرة، مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، دبي الإمارات العربية المتحدة، ص239.
(16) درويش،محمود،2005- الأعمال الأولى، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ط1، ص50-51.
(17) ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، أطروحة دكتوراه، جامعة حلب، ص190.
(18)المرجع نفسه، ص203.
(19)سعيد، حميد،2020-ما تأخر من القول، دار دجلة، عمان ، الأردن، ص7.
(20) عبد الصبور، صلاح،1988- الديوان، مج12، دار العودة، بيروت، ص25-26.
(21) المقالح، عبد العزيز،1986- الديوان، دار العودة، بيروت، ص192-193.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

724 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع