فنتازيا الخيال وفن الإقناع .. في مملكة الأمنيات .

                                                                    

                              د. عصام البرام / القاهرة


فنتازيا الخيال وفن الإقناع .. في مملكة الأمنيات .

شكلت الرواية بالمفهوم العميق، بعداً وعمقاً للحياة، وتأملات ورؤى متعددت المستويات والاساليب، ومنهجا أخذ ينضج كنتيجة للتطور الانساني من خلال البحوث والدراسات الادبية والانسانية المختلفة . والرواية هي مطارحات، وسير لشخصيات لواقع ما ، وسلوك حياتي، أو مدن وحارات ، فهي منظومة متعددة يمتلكها المبدع الروائي، في رسم احداثه وشخوصه وفعله الانساني المتخيل . وقد يدخل فيها التعدد بالاغراض من حيث الخداع والدس او توظيف الوثائق فيها بدعم الشخوص والاحداث بما يرتقي الى أرشفة الحدث الانساني.

والرواية ان كانت حقيقة او خيال لاجل وصولها الى المتلقي بغية الاقناع ، ان كانت هناك رواية !؟ فالنص الروائي بما يتناوله من شخصيات وازمنة وآثار وتضمين لوثائق تدعم النص، هو أمرا ليس سهلاً .
وكما أشار المفكر الفرنسي جاك دريدا ( أن القاريء هو أكبر شريك في عملية بناء النص )
فأن البناء النصي الروائي تقتضيه جملة من ادوات البناء الدرامي وخصوبة الخيال وتعدد الافاق والرؤى التي يستطيع من خلالها الوصول الى عملية الاقناع للمتلقي، وهنا تكمن درجات القوة والاسلوب في الفعل الحركي والتناغم الهارموني للاشخاص داخل حركة الرواية، فضلا عن الانتقالات التي ينبغي المحافظة عليها من قبل الرائي، كي يسهم المتلقي بشكل لا ارادي فعليا بتقبل النص اليه، والغوص بين احداثه المرسومة ، وهنا ربما تقترب او تبتعد احيانا من جوهر ثيمة العمل الابداعي الذي ترتكز قوته على قوة حبكة الاحداث .
اكتب هذه المقدمة وانا اقرأ رواية مملكة الأمنيات للكاتبة الجزائرية ندى مهري الصادرة عن دار فهرس للطباعة والنشر والتوزيع .
والرواية تأخذ اسلوب تعدد الاصوات، القائمة على تعدد المواقف والرؤى الفكرية، كذلك الاختلاف الايديولوجي للفكرة الفنتازيا التي يسهم فيها نمطا من الخيال القائم او المتأرجح بين الفنتازيا والخيال، الذي يعطي صورا من الخيال العلمي للكتابة .
تحاول الكاتبة ندى مهري من خلال شخوص روايتها وابطالها هدهدة ، وملكة النجوم ، والاميرة المضيئة ، القلادة النجمية، والقاضي العادل ابو الامنيات ، والقرش الازرق ، والدولفين ..الخ .
أن تمضي بالاسلوبية والايقاع الحركي المتناغم على مجسات الكاتبة وهي تتحسس برؤيتها الفنية للشخوص، وذلك من خلال أعطاء الحركة لشخوصها المتنساق داخل ثيمة النص .
لقد جاء السرد الايقاعي للنص الروائي بتناغم رنيني للبطلة هدهدة تلك الفتاة الصغيرة التي تعرفت على الاميرة المضيئة الساقطة من الفضاء الخارجي، فوجدت نفسها في غرفة هدهدة..
وعندما حكت لهدهدة ما حدث لها ، قامت الاخيرة بمساعدة الاميرة المضيئة في البحث عن امها ملكة النجوم حتى وجدتها ، وتقديراً لهدهدة أهدتها ملكة النجوم (الأم) قلادة نجمية وهي قلادة سحرية كوسيلة أتصال بينهما .. وكانت هدهدة متيقنة ان رسائلها تصل الى الاميرة مضيئة عبر التخاطر ، حيث تتصل بها عبر تلك القلادة النجمية التي اهدتها اليها ملكة النجوم ، ولكن لم تحصل على استجابة كل هذه السنوات، أي يعني الاتصال بها ، فالكاتبة تشير الى مفهوم شفرة الانتقال عبر الزمن .
ان الفعل الرومانسي لخيال الرائي يمنح بطله مغامرة خرافية مع صديقتها الاميرة مضيئة، التي قدمت من مملكة النجوم الى كوكب الارض بحثاً عن شخصية القاضي العادل ابو الامنيات ،.
فهدهدة ، تشك أن كل ما مرت في صباها مجرد أوهام لتتخطى أحساسها بالوحدة ، فهي وحيدة أبويها ، وربما ما جعلها تستحضر كل تلك الشخصيات الشبحية وتتحدث اليهم ، فهي تقول عن بطلتها : ( أوليس لكل طفل صديق وهمي وحده يراه ويشعر بوجوده ويتحدث اليه) ، ان قراءة الرواية ومنذ الوهلة الاولى تقودنا الى عالم الخيال القائم على المزاوجة بين الأطر الفنية المركبة ، والتي توحي للمتلقي بانها تقدم انطباعاً أولياً بانها تمثل الإفراط بالعاطفة المشبوبة المترنحة بين الوهم والنزوع الى عالم افتراضي في وجدان بطل الرواية، أي الوجدانيات التي تصاحبها الرقة المتناهية .
فالرواية عالم قائم على عمق التأمل في الواقع الانساني، بين المتخيل والمضاف الابداعي، وبين الخلق والابداع ، وبين التأويل والاستنباط ، فالمطارحات الروائية تحتاج الى الكثير من المنظومات الخاصة التي توظف داخل العمل الروائي وبما يرتقي الى الوعي الانساني ، هنا نجد أن الكاتبة تحمل أبطالها ثقلاً أكثر مما ينبغي !؟ فهدهدة التي درست علم الفلك لتفي بوعدها الذي قطعته ذات يوم أمام ملكة النجوم وصديقتها الاميرة مضيئة قبل مغادرتها كوكب الارض ، كان عالمها أفتراضي بامتياز وصداقتها في العالم الافتراضي أكثر من صداقتها في الحياة الواقعية .
لم تكن هدهدة فتاة اجتماعية فهي تمضي اغلب وقتها في متابعة المواقع الالكترونية الخاصة بعلم الفلك ومراقبة النجوم وحركتها عبر جهاز التلسكوب ، فهي مشغولة دائما بتلك المسافات الضوئية التي تفصلها عن مملكة النجوم .
كانت هددة متيقنة أن رسائلها تصل الى الاميرة مضيئة عبر التخاطر ، وكانت تتصل بها عن طريق القلادة النجمية التي أهدتها لها ملكة النجوم أم الاميرة مضيئة .
هنا تمتلك الرواية من الشخصيات والأمكنة التي تفاجئ المتلقي بظهور بطل وسط الاحداث يمثل انعطافاُ في الشخصية المحورية ، مما يحول الصراع الدراماتيكي الى علاقة عاطفية تنقل الكاتبة بطلتها الى علاقة الحب مع الشخصية ( ضحوك ) فهو ليس مهرجاً يعمل في السيرك فحسب ، فهو عازف كمان بارع وكل ما عزف بكمانه الكرستالي الشفاف رفرفت موسيقاه الجميلة في كل مكان ، فيبتهج كل من في السيرك من زوار وعاملين ، وحتى النباتات تتطاير وتتمايل من سحر عزفه ، فهو هنا يدنو من هدهدة ويوحي لها بأن الكمان الكرستالي الذي فقده يوما ما ، وجده عند هدهدة ، والذي شكل نقطة التحول في الميزان العاطفي للاحداث ، ووضع كل شخوص الرواية تبتعد تارة ، وتقترب تارة اخرى ، من الشخصية المحورية .
حيث لم يكن طارئاً في جوهر الصراع ، او أسفافاً قصرياً أقحمها الرائي مع الشخوص الآخرين ، بل محوراً يأخذ بناصية بقية الاحداث الى المطاف الاخير للرواية ومكملاً لها .
وحسب رأي الروائي الكبير تودوروف للنص للروائي ( هي التجسيد الاعلى للتداخل النصي والنوعي الذي يعطي تنوع الملفوظات حيزاً واسعاً للعمل .. ) .
وهكذا نجد ان الرائي يستعمل لغة مكثفة سهلة يكتشفها المتلقي بشفافية ، بحيث يبقى الرائي محتفظاً بالثيمة الاساسية في قمة الصراع داخل النص ، على الرغم من غرابة و شبحية الدهشة التي تثيرها لدى المتلقي .
وقد تجد احياناً ان الكاتب او السارد قد يملي عليه خياله باحساس يستعين بعلم الباراسيكولوجي في محاولة لفك الطلاسم السحرية الغامضة في العالم اللامرئي، والتي تتطلب خبيراً عارفاً بالاسرار والغموض الاستثنائي الذي يكتنفها في زمن تقدمت فيه التكنولوجيا كثيراً .
ان الاستغراق في نص كرواية مملكة الامنيات والغوص في مكامن بعدها المكاني والزماني لم يفرق بينهما، فقد استعانت الكاتبة بالبعد الروحي للالتقاء بين هدهدة والاميرة المضيئة والتواصل مع مملكة النجوم عبر القلادة النجمية، حتى تجد ان الانتقال الى الواقع الذي ترتبط به هدهدة مع الآخرين كشخصية ضحوك والقاضي ابو الامنيات ، وما تتمخض من رؤى وجدلية العلاقة بين كل هؤلاء من جهة، والدولفين والقرش الازرق اللذان شكلا هرم الصراع داخل النص من جهة اخرى .
لتشكل البعد الحقيقي للهوس العاطفي الذي يستشعر المتلقي انه بين كاتب يحلق بخياله للوصول الى نقطة التقاء بينه اي الكاتب من جهة، والمتلقي وقراءة النص من جهة اخرى .
ومهما اختلفنا في الشخصيات التي تفاجئنا كشخصية الشاب ضحوك عندما يتفق مع القرش الازرق الذي طلب منه ان يساعد هدهدة من الدولفين الشرير، فهذا الاخير التي تسعى الكاتبة ان تجعله كرمز للسعي على الاستحواذ والامتلاك لكل شيء على الارض او الفضاء او البحر .. ( رغم الصورة المرسومة بهذا الحيوان الاليف ) فهو الذي سرق القلادة النجمية واستبدلها باخرى مزيفة، واعطاها الى هدهدة وبالتالي فقدت هدهدة التواصل مع الاميرة المضيئة ، وتستمر الكاتبة في تتبع هارموني لخطوات روايتها لتفاجئنا بشخصية ابو الامنيات حاكم مملكة الامنيات والمسؤول عنها ، وهو الذي أخفى الاميرة المضيئة عنده خوفاً من الدولفين الشرير ..
فالقاريء سيجد نفسه من الوهلة الاولى وحتى الاقتراب على نهاية الرواية ان هناك ثمة فارق او بعد بين الشخصيات ثقافياً واجتماعياً في الحوار او في البعد المعرفي والحقيقي للشخصيات التي تثير الفنتازيا داخل النص ، عند المتخيل لدى القاريء، وبين مزاوجة الفكر الحداثي والسرد الروائي الحديث الذي يفلت احياناُ من بين يد الكاتبة، وتمسك بخيوطه حيناً آخر . .
وعندما ننتقل الى الفصول الاخيرة ، ينقلب الحال من الحاكم ابو الامنيات الى ضحوك ليبلغه اي ابو الامنيات ان يستلم مهمة البحث عن هدهدة لان علاقته مع القرش الازرق طيبة ومسالمة ويمكنه من الاستمرار بالمهمة، فضلا عن انه اراد بديلاً عنه لهذه المهمة، هنا يكمن المعادل الموضوعي بالعثور على آلة الكمان التي فقدها ضحوك ليجدها عند هدهدة ، والتي ظنت حينها ان هذه الآلة التي كانت في غرفتها يوماً ما هي هدية مملكة النجوم اليها، بل أدركت فيما بعد انها تعود الى ضحوك .
لتحولنا الكاتبة الى الرمز الكامن والاشارة الى ان الموسيقى ( اي آلة الكمان ) هي البعد الفعلي للقيمة الشفافة والعالية المعنى الكامنة في جوهر الموسيقى، ومعنى الحب او القيمة الانسانية التي تسيطر عليها الموسيقى في حياة البشرية ، وهو الخيط الذي رست عليه الكاتبة بمعنى عالي الربط ، لعلاقة الحب بين ضحوك وهدهدة وزواجهما .
قد ترتقي الرواية هنا الى تحفيز الوعي الانساني ، وأثارة العقل الحديث بكتابات روائية تسعى للنهوض بتجديد نمط حداثي ، او دليل كبير لخصوبة خيال الكاتبة ، او النزوع نحو البحث والانتقال نحو روايات تخرج عن النمطية والاسلوبية واللون والشخصيات .. فعندما يطالع القاريء لهذا الاسلوب التي اشارت اليه الكاتبة على غلاف روايتها انها ( رواية للشباب واليافعين ) أنما تسعى الى النهوض بتحفيز قوة الاثارة والمخيلة لدى هذه الفئة العمرية من الجيل الحالي ، وبما يتناسب ويتماهى مع التطور التكنولوجي والاتصالي للعصر الراهن .
فاذا كان سعي الكاتبة هو الوصول الى الهدف الذي اشرنا اليه آنفاً ، فهو سعي محمود ، واجتهاد ادبي عربي نتمنى ان يحذو حذوه الاخرين من الكتاب الشباب ..
ولكن قد اجد نفسي ان مثل هكذا روايات لا تقتصر على الشباب واليافعين ، بقدر ما هي كتابات تدخل في عالم الفنتازيا والخيال ، والاحرى بها ان تكون رواية غير محددة بفئة عمرية ، فهو نص عالي التقنية مقدم بصورة عميقة ليرتقي لا لليافعين فحسب، ليعطي فرصة اكبر للاطلاع عليه وتداوله، واتاحة قراءته، لكل الفئات العمرية، ومنحها المساحة الاكبر .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1540 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع