بقلم/الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2022
(الفقراء هم الصامتون في البلاد)
الأمثال في بلاد الرافدين قديما
شكل طبعة ختم اسطواني من العهد الاشوري حوالي(900-720) ق.م، يظهر في المشهد ثلاثة اشخاص يتقدمهم انسان جالس على كرسي ذو عجلة، والأشكال الأربعة داخل كوخ من القصب، وفي الأعلى رمز السلحفاة تمثل الإله أيا (Ea) إله مياه العمق ابسو والمياه العذبة والبحيرات، خارج الكوخ شكل معين يمثل وظيفة وقائية سحرية ربما حبة من الذرة، أو نواة التمر، أو رمز الأرض، ثم كلبان حيوان إلهة الشفاء كولا، أمامهما مخبرة ثم إلهة الشفاء كولا ويقف خلفها كاهن، وفي الأعلى النجوم السبعة (ثريا) الشياطين السبعة ، وشكل نجمة ذات ثمانية شعائيات تمثل الإلهة عشتار (الجنس والحرب)، المشهد يمثل الشفاء في كوخ من القصب (من مقتنيات متحف القدس)
تدل الكثير من الأمثال وجود عدم الثقة بين الحاكم والمحكوم، إما بسبب سوء الإدارة، أو الإهمال الذي يعانيه الناس وخاصة في الجانب الاقتصادي المتردي الذي تعيشه طبقة موشكينم muškēnim)) (بالعربي المسكين) وهم الفقراء، أو العبيد، وحتى من فقراء طبقة الأحرار(awilim) في سومر واكد، وهؤلاء يشكلون نسبة كبيرة من المجتمع الرافديني القديم، وتشير النصوص اللاحقة إلى مصطلح تيبوت حوبشي (tibût hupši) بمعنى (تمرد الجماهير)، وفيما يلي بعض الامثال التي توضح الرفض لكن بصمت:
1-أمثال تخص الفقراء:
يوجد الكثير من الأمثال التي تصف حالة الفقر الذي يعاني منه الناس قديما، بعضها يدعو لرفض الواقع، وبعضها الاخر يتوقع الحل من الآلهة العظام، لكن الصفة العامة (لا صوت للمعارضة) غير الرفض الصامت:
- (مدينة بدون كلاب حراسة، يكون الثعلب هو المشرف): يقصد بهذا المثل المدينة التي يحرسها كلاب قوية لا يدخلها الثعلب فيهاجم حضائر الدجاج، بكلمة أخرى الملك القوي يمنع المسؤول الفاسد ان يدير شؤون الحكم، ومن هنا لابد من فرض السيطرة على المسؤولين المحليين، أو على الأقل تقييد استخدامهم للسلطة التعسفية والاثراء الفاحش، ويتم ذلك بمراقبة تصرفات المسؤولين المحليين والموظفين والاشراف عليهم من خلال المفتشين الملكيين مثل منصب سوكال-ماخ (Sukkalmaḫ) يعتبر أعلى مسؤول في سلالة أور الثالثة، وهو الرجل الثاني بعد الملك، ومن واجباته السفر بين الأقاليم والمقاطعات ومحاسبة المقصرين وفق صلاحيات منحت له باسم الملك السومري.
- (لا يمكن تحديد مصير المدينة، ومسجل العقود تاجر): يشير المثل إلى التجار ربما حصلوا على الكثير التأثير في الشؤون لاقتصادية لبعض المدن، لذا من الصعب الاتكال على امانتهم ونزاهتهم.
- (التاجر لديه الفضة، ولديه اللازورد، ولديه ثيران، اما من لديه خروف عليه ان ينتظر عند البوابة لأجل الرجل الذي لديه شعير): يقال المثل بشكل عام على التجار الذين لديهم سمعة سيئة، بعكس الإنسان البسيط.
- (هل يمكنك حمل طفل في حياتك بذراعك اليمنى، وتأخذ رشوة في يدك يسارك): يقال للرجل الذي عليه ان يربي طفله من مال مصدرة معروف وحلال وليس من مال حرام مثل الرشوة .
- (إذا خلط دقيق البازلاء مع العسل والزيت الجيد وقدم للعبيد المولودين في المنزل، مع هذا يستمرون في تذمرهم!): من وجهة نظر الاغنياء فان الفقراء والعبيد دائما ما يكونون غير راضين.
- (عندما يجد الخبز لا يجد الملح، وعندما يجد الملح لا يجد الخبز، وعندما يجد البهارات لا يجد اللحم، وعندما يجد اللحم، لا يجد بهارات): يقال للفقير الذي يلازمه سوء الحظ دائما.
- (الرجل الفقير يأكل ما يحصل عليه): إن مصير الرجل الفقير محزن حقا فهو قانع بما يحصل عليه .
- (عندما يسيرالفقير في الشوارع، لا أحد يحييه، وعندما يعود إلى منزله وزوجته فإن اسمه من الأسماء السيئة): في الواقع ، حالة الفقراء هي موضوع رئيسي في الأمثال فالناس لا تعطي اهمية للإنسان الفقير، وحتى في منزلة لا يجد الراحة عندما تنادية زوجته.
- (ابنة الرجل الفقير، لا يوجد رجل يقدر فرجها): اغلب الناس تزوج ابنائها من اسر غنية أو متوسطة واما ابنة الرجل الفقير فلا يتقدم رجل للزواج منها.
- (الفقراء هم الصامتون في البلاد): دائما الفقير صامت يسلم امره إلى الإله ليغير حياته نحو الأحسن.
- (الثور الغريب يأكل العشب، لكن ثوري جائع): بمعنى الاجنبي يحصل على ما يريد وابن البلد لا يحصل على شيء.
- (لكي تقوم بعمل ما عليك أن تأكل شيئا): لا يستطيع الانسان العمل وهو جائع لابد من ياكل اولا وبعدها يمارس العمل.
- (يسبب الرجل الفقير كل أنواع المشاكل للرجل الغني): كثيرا ما يوجه الاغنياء اللوم على الفقراء واتهامهم بالسرقات وكل الموبقات، فالغني ينظر بعين الشك والريبة وعدم الثقة بالفقير.
- (الرجل الفقير لا يضرب ابنه، انما يعتز به إلى الأبد): يضرب المثل للفقير الذي يعتز بولده ولا يضربه رغم سوء حالته المادية.
2- امثال تخص السلطة الحاكمة:
تعبر الأمثال التالية عن شكوك تجاه النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي القائم في المدينة الرافدينية وتدل على رفض المواطن وتمرده ضد الواقع المفروض عليه، وفيما يلي بعض تلك الامثال:
(مهما قال الحاكم، فهو ليس صحيح): انعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم.
- (إذا التهمت النيران قائدا، فلا يقول من يقف خلفه أين القائد؟): ان القيادة الضعيفة لا معنى لها إذا ما اختفت، وبالتالي لابد من قائد اخر افضل لتستمر الحياة.
- (إذا كان الراعي ذكيا، فالناس محكومون جيدا): على عكس المثل اعلاه القيادة الحكيمة تنعكس على المحكومين ايضا بشكل جيد.
- (الثيران المقيدة أقوى من الرجال الذين قيدوها): الناس المقيدين في حريتهم هم اقوى من سادتهم.
- (إذا رحل الراعي، ضاعت اغنامه ولم تعد إلى حوزته): إذا الحاكم تخلى عن قيم العدالة الاجتماعية فان رعاياه لا يمكن السيطرة عليهم .
3-امثال تتناول انتقاد القصر(الحاكم):
هناك عدد من الأمثال تعبر عن مواقف سلبية اتجاه (القصر) (مقر الملك)، على الرغم من أن جميع الامثال التالية ليست واضحة للغاية، إلا أنها قد تشير إلى أن القصر كان يعتبر مكانا خطيرا وغير موثوق به، حيث لا يمكن ضمان العدالة، ومن هذه الامثال:
- (القصر مكان زلق يمسك بمن لا؟ يعرفه): اساليب الحاكم وطريقة حكمه متنوعة وهي غريبة عن الشخص الذي ليس لدية خبرة سياسية.
- (هرب القوي، ودخل القصر من لديه فم): هناك اشخاص لديهم خبرة في ادارة الدولة لكم المفضل من يملك القدرة على الحديث والثرثرة اكثر من العمل.
- (القصر مثل الثور. اتركه ولا تمسك بذيله ): ابتعد عن القصر ولا تطلب العمل فيه.
- (القصر غابة، والملك أسد): القصر وما يضم من حاشية مثل الغابة فعلى الملك ان يكون قويا مثل الاسد.
- (قال الحمار، بعد أن ألقى حمولته: الآن يمكنني أن أنسى تعب الأيام الماضية): عندما يتخلص المرء من عبء كبير على قلبه ينسى هموم الايام الماضية.
- (الرجل القوي هو حاكم الأرض، لكن القوة لا تقارن بامتلاك الذكاء): مهما كان الحاكم قويا فلابد له من ذكاء في ادارة الدولة.
4-امثال تتناول انتقاد المعبد
حتى المعابد تلقت نصيبها من النقد، وكان كاهن الرثاء (كالا) (gala) (الرادود) على ما يبدو هدفا شائعا للرفض العام وعلى نطاق واسع، ويبدو أنه كان من صنف الكهنة الكسالى الذين تمكنوا دائما من الحصول على الاموال من الناس البسطاء:
- (على الرغم من غرق قارب حبوب الكاهن، لكنه وصل إلى اليابسة): مهما اصيب الكاهن من مصاعب ففي النهاية هو الرابح.
- ( لكاهن رثاء (gala) حقل قريب من المنزل): اعتبر المعبد مثل الحقل لكاهن الرثاء فهو مصدر رزقه الدائم.
في الختام ، فأن المصادر التي ذكرت الامثال ومن بينها شرعية الحكم في بلاد الرافدين تقوم على المبادئ التالية:
(1) ان الملكية هبة من الآلهة.
(2) شرعية الحكم تقوم على أساس فضيلة الحاكم.
(3) شرعنة الأسرة الحاكمة ليست سوى مصدر إضافي، وليس المصدر النهائي للشرعية، فقد كان التمرد في بلاد الرافدين مقبولا وخاصة عندما يكون ناجحا: ولذلك هناك مفهوم عند الباحثين في تاريخ العراق القديم مفاده (لا صوت للمعارضة) في ممارسة السياسة في بلاد الرافدين قديما.
(4) يظهر مفهوم في بلاد الرافدين عن (الملكية واحدة) نظرا لوجود جنة واحدة فقط، فلا يمكن أن يكون هناك سوى حاكم شرعي واحد.
2976 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع