هيفاء زنكنة
السيادة العراقية المنتهكة
أعلنت الحكومة العراقية، يوم الأربعاء الماضي، عن اتخاذ قرارات لوضع خطة لإعادة نشر قوات عراقية على طول الحدود مع إيران وتركيا لتأمين الحدود في إطار العمل على وقف الاعتداءات والخروقات التركية والإيرانية، التي شهدتها الحدود العراقية مؤخرا. وهو إعلان تشي تركيبته «اتخاذ قرارات لوضع خطة» بأنه قد لا يزيد عن كونه إعلانا مجانيا آخر مقابل التوغل التركي ـ الإيراني داخل العراق والكولونيالية الأمريكية الجديدة بمستوياتها المتعددة.
كما هو معروف، لم يتوقف سيل الاجتماعات الرسمية، يوما في العراق، للتأكيد على « أهمية الحفاظ على سيادة العراق وما تحقق من منجزات أمنية»، ومن بينها ما أخبرنا عنه مستشار الأمن القومي، قاسم الأعرجي، في تغريدة له بأنه التقى رئيس ائتلاف النصر، حيدر العبادي، يوم السبت الماضي وبحثا موضوع سيادة العراق، في ذات اليوم الذي التقى فيه رئيس مجلس الوزراء، محمد شياع السوداني، مع رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني بافل طالباني، وبحثا «ملف تأمين الحدود العراقية».
تهدف اجتماعات « التباحث» كلها إلى التصريح بأن «سيادة العراق» هي محط اهتمام الساسة العراقيين، من مختلف الأحزاب، وعلى رأسهم المسؤولون الحكوميون، بالإضافة إلى كونها «مصدر قلق» دولي. وعلى مدى العشرين عاما الأخيرة، بات موضوع «السيادة»، مصدر رزق لباعة الورق واستديوهات الأخبار التلفزيونية، ومزايدات الساسة في مجلس النواب، وأطنان البيانات والتصريحات الرسمية. فالسيادة، كما هو كل شيء آخر في «العراق الجديد»، من الإنسان إلى البيئة، لا تزيد عن كونها بضاعة مُغلّفة بورق صقيل للاستهلاك المحلي والدولي. بضاعة لم يعد بالامكان التعرف عليها لفرط تبادلها في سوق المزايدات السياسية. وإلا ما معنى أن يجد من يراجع عدد عمليات القصف والتوغل التركي / الإيراني، في الأراضي العراقية، أنه إزاء قائمة طويلة من الانتهاكات المارة مرور الكرام على الرغم من أنها تسبب في كل مرة، تقريبا، سقوط الضحايا وترويع السكان وتهديم البيوت بالإضافة إلى خرق الاتفاقيات بين العراق وتركيا من جهة والعراق وإيران من جهة أخرى ناهيك عن المواثيق الدولية؟
في مراجعة سريعة لوضع «السيادة العراقية»، المنتهكة، باستمرار، سنجد أن تصريحات الساسة العراقيين للانتهاكات تتماشى مع ولائهم لهذه الجهة أو تلك أكثر منها لصالح موقف وطني عراقي. ففي الوقت الذي يقف فيه فريق من الساسة للتاكيد بأن استمرار انتهاك تركيا للسيادة العراقية أمر خطير، ومع تندّيد رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، بارتكاب «القوات التركية انتهاكا صريحا وسافرا للسيادة العراقية»، كان الصمت هو اللغة السائدة إزاء توغل القوات الإيرانية في الأراضي العراقية منذ أبريل 2006، وقصفها داخل الحدود بالمدفعية الثقيلة. ويصادفه، في الوقت نفسه، ترحيب بقصف أمريكي مهما كان عدد الضحايا.
وتبلغ مفارقة الاستهانة بمعنى السيادة الوطنية وحياة المواطنين ذروتها حين تغطي كل دولة انتهاكاتها بذريعة «الحفاظ على الأمن القومي» ومكافحة الإرهاب، في ذات الوقت الذي تدين فيه ما تراه اعتداء او جريمة الآخرين.
فقد برّرت إيران قصفها كردستان العراق، في رسالة إلى مجلس الأمن الدولي، بعدم وجود «خيار آخر» لديها لحماية نفسها من «جماعات إرهابية» وأنها استخدمت «حقها المبدئي في الدفاع عن نفسها في إطار القانون الدولي من أجل حماية أمنها القومي والدفاع عن شعبها». ولرش الملح على الجروح، صرح السفير الإيراني إيراج مسجدي بأن بلاده لا تقبل وجود أي قوات أجنبية في العراق ولا التدخل العسكري فيه، مطالباً القوات التركية بالانسحاب وألا تشكل أي تهديد للأراضي العراقية.
بالمقابل قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في خطاب أمام البرلمان: «عملياتنا بواسطة الطائرات والمدافع والمسيّرات ليست سوى البداية، سنواصل العمليات الجوية بدون توقف وسندخل أراضي الإرهابيين في الوقت الذي يبدو لنا مناسبًا». أما الموقف الأمريكي فقد تضمن، بلسان المتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس إدانة إيران لارتكابها « الانتهاكات المتكررة وغير المسؤولة لوحدة الأراضي العراقية»، مبينا أن الولايات المتحدة تقف مع شركائها في بغداد وأربيل وتشارك الحكومة العراقية هدفها في الحفاظ على أمن البلاد واستقراره وسيادته. ماذا عن العمليات التركية؟ اقتصر تصريحه حول الهجوم التركي على «معارضة أي عمل عسكري غير منسق في العراق ينتهك سيادته». مؤكدا بذلك ضرورة التنسيق مع أمريكا حول أي عمل عسكري في العراق، باعتبارها شرطي العالم المقاتل ضد الإرهاب، متعاميا عن حقيقة أن من بذر الارهاب في العراق، ويواصل رعايته، هو أمريكا نفسها.
تدل متابعة الادعاءات العراقية والإيرانية والتركية والأمريكية حول انتهاك السيادة العراقية على مدى العقدين الأخيرين، تقريبا، أنها متشابهة الفحوى والخطاب. وأن لكل دولة تساهم بارتكاب الانتهاكات، بالاشتراك مع الساسة العراقيين الموالين لها، حاجتها الماسة لوجود العدو الخارجي. وهو واحد من أقدم الاساليب للهيمنة على الشعوب، فما أن يواجه القادة السياسيون تحديات محلية لقيادتهم، حتى يميلون إلى بدء الصراع بين الدول، وتحويل الانتباه المحلي إلى الشؤون الخارجية. وهذا ما يحدث حاليا في إيران وتركيا، وهو سيناريو قابل للنجاح، خاصة مع توفر الأراضي والحدود العراقية المفتوحة لكل من هب ودب من خارجها، والمتنازع عليها داخليا، بالإضافة إلى أنه لم يعد من الصعب على أية دولة شن حرب ضد دولة أخرى أو حملة قمع وترويع داخل البلد، بإسم «مكافحة الإرهاب»، منذ أن صاغت امريكا تعريف الإرهاب وفق أجندتها الخاصة وباتت تفرضه على العالم في اتفاقياتها « الأمنية المشتركة». من هذا المنطلق، وفي ظل هذه الظروف الخارجية، سيبقى العراق رهينة كل دولة تريد تحويل النظر عن أزماتها السياسية والاقتصادية ومشاكلها الحقيقية مع شعوبها، مهما كانت ادعاءات النظام العراقي عن « تأمين السيادة».
1934 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع