نزار جاف
قراءة في ديوان... شئ وحيد الغربة قعر تابوت بلا نهاية
شئ وحيد! هکذا سمى الشاعر الکردي "گوران مريواني" ديوان شعره الذي طبعه مٶخرا، شئ يرمز للواقع الموضوعي بکل رتابته ووحشته، ووحيد کصفة ترمز للذات بعمقها وبعدها الوجداني، وکأنه ومنذ البداية يريد من القارئ أن يعلم بأن"شئ وحيد" بمثابة الصندوق الاسود لهذا الديوان الشعري، لکنه ليس کأي صندوق فهو کطلسم يحتاج لفك رموزه وأحجياته وأسراره المتداخلة في بعضها لکي تعرف منذ البداية إن عالم مريواني عالم خاص يخلط بين العبث والسريالية والواقعية الطبيعية الفجة والرومانسية الحالمة والثورية المتحاملة على الثوار، وذلك من أجل البحث عن الحقيقة في عالم صار بفضل الطابع المادي النفعي الذي يطغي عليه، أشبه مايکون بعالم مبني على الکذب والخداع والوهم!
الديوان بحلته القشيبة وصورة غلافه التي أعادت بي الى أواسط العقد السابع من الالفية المنصرمة، إذ يبدو فيها الشاعر کما ألفته في علاقة الصداقة التي جمعتنا تلك الايام وکنا نثب بين عوالم مارکس وسارتر وتروتسکي وجبران خليل جبران والحلاج وأبن العربي وعبدالله کوران والسياب والبياتي وکانت أزقة وشوارع السليمانية وذلك المقهى الصغير وموقده البدائي تأخذنا في مد وجزر لازلت أشعر بلذته لأنه کان لذلك طعم غريب إفتقدته ولم أعد أجده إلا في رذاذ هذه الابيات التي کتبها مريواني في ديوانه هذا.
مريواني کتب في بداية ديوانه مقدمة من 95 صفحة ويحتوي بين دفتيه 144 قصيدة، علما بأن الديوان يتکون من 381 صفحة، وفي هذه المقدمة المهمة التي کتبها مريواني وقام خلال بما يشبه عملية سرد تأريخي ـ فکري لحياته يمکن إعتبارها بمثابة خلفية للقصائد الواردة في هذا الديوان.
الملاحظة المهمة جدا التي لابد من إيرادها بخصوص مريواني هي إنه ومنذ بداياته کان تواقا الى المطالعة ولکن بروية وتمهل إذ لم يکن من النوع الذي يقرأ لمجرد المتعة وتمضية الوقت بل إنه کان يقرأ بتمعن وعمق وهذا ماکنت أشعر به به دائما عند الحديث معه، ولذلك فإنه ليس من السهل فهم مقاصده مالم تغوص بعمق في مابين تداعيات الابيات والتناقضات الکامنة بينها. مريواني لئن حاول کثيرا أن يسلك الشفافية والبساطة في العديد من قصائده لکنها مع ذلك ومن أجل فهمها وتحليل مقاصدها فإنها ترقى الى مصاف السهل الممتنع!
افتحوا نافذة کوران مريواني
في بداية الالفية الثالثة وفي مقال باللغة الکردية نشرته في عدد من المواقع الکردية، ومن خلال الاستدلال بواحدة من أهم قصائد مريواني بحيث أعتبرها البقعة الزيتية في معظم ماقد جادت به قريحته کشاعر، وهذه القصيدة لفتت نظري بقوة عندم قرأها على مسمعي في عام 1978، في ذلك المقهى وکان قد کتبها على ورقة صغيرة لازلت أتذکر بأنها کانت لعلبة سيکاير، ومنذ الوهلة الاولى حفرت مکانها في ذاکرتي تماما مثل قصيدة"درويش عبدالله" لعبدالله کوران، التي کان الناقد الکردي الراحل أوميد آشنا يقرأها على مسمعنا عندما تبلغ به الثمالة حدا يصبح فيه أشبه بورقة تتقاذف بها أرق النسمات!
مريواني الذي غادر العراق في عام 1979، ومنذ ذلك العام حدث کما لو إن کل منا ذهب في طريق حتى تموز عام 2005 عندما إتصلت به وبعد أقل من دقيقة من حديث معه عبر الهاتف طلبت منه أن يرسل لي قصيدة"النافذة"، لکنه فاجئني بقوله: "مالذي جعلك تذکر"النافذة"، أنا قد ترکت کتابة الشعر منذ فترة طويلة!"، وبعد إصرار مني وعدني بأن يبحث عنها ويرسلها لي وبعد ثلاثة أشهر على طلبي أرسلها لي عبر الايميل مع ملاحظة قال فيها:"منذ اليوم الذي طلبت فيه هذه القصيدة وأنا أبحث عنها حتى عثرت عليها، لکن مع عثوري عليها صنعت لي حزنا قلما کان عندي مثله! لذلك لاأعرف أن أشکرك أم ألعنك!"، والمقطع الاخير من ملاحظته کان بمثابة إعلان ضمني غير مباشر لعودته الى عالم الشعر، مع ملاحظة إنه ومع دقة ملاحظاته وتأنيه في الاعراب عن آرائه بخصوص محطات حياته، غير إنه لم يشر خلال المقدمة الطويلة من قريب أو بعيد الى إنني شخصيا کنت دافعا وسببا لعودته الى عالم الشعر!
من المفيد هنا أن أذکر مقطعين ملفتين للنظر من قصيدة"النافذة"، الاول:
"أفتح تلك النافذة!
أنا،
من بين نسائم الدنيا،
أميز عبق أنفاسها!"
وفي المقطع الثاني يقول:
"في البعد، غارق في قعر تابوت بلا نهاية.
قبل أن تغلق التابوت
ضع لي نافذة!
لأستنشق أحد أنفاسك!"
في المقالة التي عنونتها" افتحوا نافذة کوران مريواني" کانت بمثابة دعوة للنقاد والادباء الکرد لکي يسلطوا الضوء على مريواني کحالة شعرية مميزة من الخطأ جدا تجاهلها وإهمالها.
خيط رفيع
خلال قراءة 44 قصيدة مکتوبة في هذا الديوان، يجد القارئ نفسه أمام عوالم وفضاءات متباينة أحيانا تشعر بأن البعد بين بعض وبعض آخر منها بعد المشرقين! لکن تجد ثمة خيط رفيع حرص الشاعر بکل مافي وسعه من خلالها ربطها جميعا ببعض وهذا الخيط يبدو واضحا من روح الرفض والتمرد على المألوف والبحث عن بديل حتى ولو کان ذلك المستحيل ذاته، کما نجد ذلك في القصائد التالية:
القصائد التي حفلت أعدادا منها بقيام مريواني بإستخدام اسلوب يمکن وصفه ومقارنته بالتغريب الذي إستخدمه برتولد بريشت في مسرحه الملحمي، نظير قصيدة"هذه الرياح" التي يقول فيها:
"رياح عاتية!
ملاحظتي مع دقات قلبي بإنتظارك مرهون.
نجمة وردية مضيئة،
تمر من أمامي،
يلفها الظلام.
قبالة هذه الرياح،
أرفع رأسي، لا ـ نجمة ـ لاـ نظرة قمر ـ لا ـ صوت الاله ـ
لوحدها عيوني تحترق"
الغربة کإحساس وکعالم وککابوس يطل على مريواني بمختلف الاشکال فهو في ذروة الاحساس الشفاف بتلك النجمة الفضية المارة أمامه، لکن الوحشة تتملکه عندما يرى بعد مجرد لحظات أن لانجمة ولا نظرة قمر ولاصوت الاله بل إنه يحمل غربته کصليب على ظهره ويمضي بها الى الأفق في بحث سرمدي عن الانسان!
ومن التغريب يثب مريواني في قصيدة"عندما أموت" الى عبثية وسريالية بديعة في التلاعب بالحياة والموت مع جعل الحبيبة فيصلا بينهما بل ويذهب أبعد من ذلك عندما يقارن بين ميتته في عيون حبيبته وموته الطبيعي حينما يقول:
"مت و،
دفنتني في قلبها.
نصبت لي شاهدين من النور،
في عيونها.
مت و،
کنت في قلبها،
إلهي!
لم أقض نحبي قط بهکذا روعة.
أنت لم تکافئني للحياة،
بالموت أبدا!"
هنا تکمن جمالية بديعة عندما لايلقي بکل کراته في سلة الاله طمعا في أن يبعث في الجنة، بل إنه يعلن بأنه قد مات عشقا في عيونها وبعث في قلبها کفردوسه الابدي!
ومن هذه العبثية في تناول موضوع الموت والبعث، الى محاکاة شفافة للسماء کقديس أبى على نفسه أن يکون مبعث ألم وأذى للوجود بکل مايحويه من کائنات ويعاتب السماء ويطالبها بالمزيد من الانطلاق في فضاءات الوجود في حرية لانهاية لها خصوصا وإنه يعترف بأن الذنب الوحيد الذي إرتکبه هو الحب! کما جاء في قصيدته"باب" حيث يقول:
"إلهي،
لم أقطف أريجا من وردة،
ولم أقتل نحلة،
من أجل عسلها!
وحتى لم أقم
يوما من الايام
بجعل فرخ حمام يتيما!
لماذا حين تأتي بإتجاهي،
تشيح بوجهك عني!
لم لاتجلس ليلة من الليالي
الى جنبي!
أنا ماعدا الحب،
لم أرتکب ذنبا!
أفتح لي بابا،
کي أنطلق حرا للخارج!"
وفي قصيدة"طريق"، يبدو الشاعر في حالة تشبه نارجيسيا من حيث شعوره بالتميز والاختلاف عن الآخرين وشعوره من جراء ذلك بغربة ووحشة في أعماقه عندما يقول:
"کم السماء عالية!
کم بعيدة الانجم!
مثل النملة
أمشي تحتهما.
لا أعثر على طريق،
للبحث،
ولا مکان للسکن!
صاحب سفري،
أنا بنفسي،
مع قليل من المعاناة!"
الأرض..الوطن ..القضية
قصيدة"حرکة"، للشاعر مريواني، قصة قد کادت تکون نهايتي فيها! في عام 1977، کنت حينها رئيس لفرقة مسرحية في مدينة السليمانية، وکانت الفرقة تتکون من مجموعة من الشباب المندفعين من مختلف الميول والانتماءات الفکرية، وإضافة لتقديمنا عروض مسرحية کنا نقون بعقد ندوات فنية وثقافية وأدبية متباية، وفي 14 تموز 1977، عقدت الفرقة حفل ألقى فيه عدد من الشعراء الشباب وکان کوران مريواني واحد منهم قصائد شعرية، والملفت للنظر إن معظمها کانت ذات طابع سياسي معارض للنظام السياسي القائم في العراق.
بسبب قصيدة"حرکة"، ذات الطابع الطابع الفکري ـ السياسي الواضح، تم إستدعائي لمديرية أمن السليمانية لأنني رئيس الفرقة، وجرى تحقيق"مرعب"معي کان واضح إن مصيري سيکون مجهولا لولا تدخل أحد أقربائي في بغداد وکان ضابطا برتبة کبيرة في الاستخبارات العسکرية حيث کتبت لي حياة جديدة!
في قصيدة"حرکة"التي يقوم مريواني خلالها بإدافة الارض والفکر والثورة في بوتقة واحدة حيث يقول في مستهل القصيدة التي يخاطب فيها الحزب الشيوعي العراقي وهو يطلب منه بأن ينفض عنه غبار التحجر والانزواء الفکري ويحثه على الانطلاق في رحاب نضال لاهوادة فيه ضد النظام القائم وقتئذ في العراق:
"أخرج يدك من هذه الارض و،
وأسلخ جلد محيا هذه السماء؛
براعم قبلاتي کلها على صدرك،
غدت ربوة لشقائق النعمان!
أخرج يدك من هذه الارض و،
لتتدلى کالصفصاف أصابعك علي!
لأروي قصة المذبحة والدم
لعراق ثلاث وأربعون عاما"
والمقطع الذي کان قد جعل مدير أمن السليمانية بنفسه يستشيط غضبا وتلقيت عدة صفعات لم أجد أقوى منها إلا أيام الاسر في إيران، هو الذي يقول فيه:
"أخرج يدك من هذه الارض!
لتغوص أصابعك في السحاب!
لاتتکأ ولتقلب عراق الرمس رأسا على عقب!
هذا الباشق واقف على رأسي،
يخطف جمجة العراق الرفيق و،
يسفك مخه على صخرة الشرق الاوسط القاسية.
أخرج يدك!
ولتکسر لي جناحيه الاسودين القذرين!"
الملاحظة المهمة هنا، إن مريواني"وکذلك أنا وبعض من أصدقائنا الآخرين" ممن کنا نعتبر أنفسنا مارکسيين، لم نکن راضين عن الحزب الشيوعي العراقي الذي کان يدور في فلك الاتحاد السوفياتي آنئذ وکنا نصفه ب"التحريفي".
أما في قصيدة"الى رفاقي"، التي کتبها في عام 1978، والتي يتحدث فيها عن مجموعة من رفاقه الذين تم إعتقالهم ولم يعد لهم من أي أثر، يقول في بدايتها في خطاب يتراوح بين الرجاء والامل:
"في السجون العميقة،
أهدئوا؛
في السجون العميقة،
بقوة کاهلکم ومبادئکم،
أسندوا دعامة فکرکم!"
ويستطرد وهو يسلط الاضواء على المعاناة في داخل هذه السجون:
"طير التنفس المندحر،
ذهب على غصن البکاء؛
ينبت العذاب ريشا وجناحا،
لايخرج من قفصه الروح!"
أما في قصيدة"کوباني وحيدة"، والتي کتبها في عام 2014، في خضم الاحداث والتطورات المأساوية لمدينة کوباني، والمترجمة للغة الانکليزية، فإنه وفي مقطع منها يصف الوحشة التي کانت المدينة تعيشها وليس للمدينة في المواجهة الضارية التە تخوضها وقتئذ:
"في الحرب لوحدها؛
في الموت لوحدها؛
تحت السماء القاسية،
من دون أحد وسند.
لکنها في قلوبنا أنا وأنت،
وأبي وأمي والاطفال
وکل الکورد".
وفي قصيدة"عفرين"، التي کتبها في عام 2018، فإنه يصف وحشة المدينة بعد هيمنة ترکيا عليها:
"تشبهين غابة أضعت فيها أمسية الطريق؛
کأنك مثل أمي،
غرست جذورك في روحي.
تشبين غابة من دون أشجار؛
لولا أسمك،
من دون غابة، ليس لك من شجرة!
وأنا کشجيرة،
من دونك أشك في إخضرار أحلامي!".
2241 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع