بقلم: صفوة فاهم كامل
المؤرخ نجدة فتحي صفوة... وأيام ضنكاء لم يؤرّخها...!
في التاسع عشر من شهر تشرين الثاني تمر الذكرى التاسعة، لرحيل المؤرخ العراقي والدبلوماسي المخضرم نجدة فتحي صفوة، عن دار الدنيا(1923-2013). وبهذه المناسبة أستذكر منه هذه الواقعة التي لم يؤرخها في حياته، فحان وقتها لأؤرّخها بعد رحيله... أنزل الله على قبره شآبيب رحمته وأمطر عليه من سحائب مغفرته وأسكنه الفردوس.
فالفقيد الذي وهبه الله ليكون أديباً منذ صدر صِباه، ودبلوماسياً خلال حياته، ومؤرخاً حتى كهولته، يعتبر من الرعيل الأول في ملاك وزارة الخارجية العراقية حينما انظمَّ إليها عام 1945، بعد أن نال شهادة البكالوريوس من كلية الحقوق، وهو في شرخ شبابه وارتقى في درجاتها الوظيفية حتى وصل إلى منصب مدير عام الدائرة السياسية. ليقدّم استقالته محتجّاً منتصف عام 1967، بعد خدمة طويلة ناهزت الخمسة والعشرين عامًا. انتقل بعدها إلى مهنة المحاماة إلا أنه لم يستمر فيها طويلًا نظرًا لعشقه للأدب منذ طفولته وترعرعه معها، وانغماسه بالتأريخ الحديث، وانشغاله بالبحث في أمهات الكتب ومصادرها، التي بِحد ذاتها تحتاج تفرّغًا تامًّا وجهدًا مضاعفًا، فاجتهد بعد تقاعده وتفرغ لدراسة الحقب التأريخية وعلومها وتراجمها وأنجز عددًا من الإصدارات؛ منها (العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب)، و(حكايات دبلوماسية). أعقبتها كُتب أخرى في مجالات شتّى. انصرف بعدها إلى البحث في الوثائق البريطانية التي تُعني بفترة الانتداب البريطاني للعراق في النصف الأول من القرن الماضي، وترجمتها إلى العربية، وكذلك الوثائق الخاصة بالجزيرة العربية ودول عربية أخرى؛ لذلك حتمَ عليه الانتقال والإقامة في إنكلترة للدراسة والبحث والتقصي الدقيق لهذه الوثائق في دار الوثائق البريطانية (PRO) ومراجعة مؤسسات بحثية أخرى، فقام نجدة، برحلات مكّوكية بين لندن وبغداد خلال سنوات السبعينيات، إلى أن شدَّ رِحاله لها نهائيًا مع زوجته وأولاده في صيف عام 1979، مقيمًا فيها بشكل دائم لتبدأ مرحلة جديدة أخرى من حياته العملية وهو في أوج عطائه الفكري وسنيّ نضجه.
وفي منتصف السبعينيات وما تلاها، بدأت الحكومة العراقية ممثلة بوزارة الثقافة والإعلام، الاهتمام بالجانب الإعلامي والثقافي بشكل واسع وإيصال صوت العراق وتاريخه إلى الخارج وتحديدًا فرنسا وبريطانيا، لمِا لهما من تأثير في الرأي العام الغربي والعربي. لذلك أسرفت الوزارة وبالغت في تقديم دعم مالي ضخم لعدد من دور النشر والصحف والمجلات العربية المشهورة في تلك الدول، والغاية منها تجميل صورة العراق أمام الغرب وتعريف الناس بــ (المنجزات التي قامت بها ثورة 17-30 تموز 1968) حسب رؤيتها.
ونظرًا لوجود جالية عراقية وعربية كبيرة في بريطانيا فقد أسّست هذه الوزارة عام 1977، مركزًا إعلاميًا مهمًّا في لندن هو (المركز الثقافي العراقي). وحرصت الوزارة على إقامة نشاطات ثقافية واجتماعية ودعائية فيها. كان ذلك التوجّه هو الوجه الظاهري لذلك الدعم السخي، لكن هناك وجه خفي من جهة ثانية، هو ما اعتادت ممارسته كثير من الدول في عملها ألا وهو الجانب الاستخباراتي والتجسّسي لصالحها من خلال القائمين في تلك المؤسسات أو العاملين فيها.
وفي عام 1980، اختارت وزارة الثقافة مديرًا جديدًا لهذا المركز تدرّج قبلها في العمل الإعلامي. هذا الإعلامي كان قد امتهن في الوقت نفسه مهنة ثانية في الخفاء-أو ربما طُلب منه ذلك-وهي العمل لصالح المخابرات العراقية ...! لذلك أُرسل إلى لندن ليكون مديرًا لذلك المركز مكافأة له على خدماته السابقة، وللقيام بمهام وخدمات جديدة ...!
استهلَّ المدير الجديد عمله في المركز بالتعرّف إلى النخب والشخصيات الثقافية المرموقة، المقيمة في لندن والتقرب والاستفادة منها وبدأ بالاندماج معهم ومنهم السيد نجدة فتحي صفوة.
وكان نجدة قد بدأ مسيرته الأدبية في لندن على خطى زملائه الأدباء والباحثين وطلّاب العلم الذين سبقوه إلى بلاد الغرب، وهو يرنو بما سيستقصّي عنه وينتجه من سيرّ وأسرار تاريخية عن بلده العراق، يقدمها على طبقٍ من ذهب لجيله وللأجيال قادمة. ونظرًا لتاريخه الطويل في وزارة الخارجية وعمله في عواصم عالمية متعدّدة ومنها لندن، فقد توطّدت علاقاته الاجتماعية مع الكثير من أبناء الجاليات العراقية والعربية، المقيمة منذ أمد في بريطانيا، وبخاصة الوسط المثقّف والعملي فيها، وتكونت له صداقات جديدة أخرى.
وفي ضوء هذه الخصائص من المؤهلات والعلاقات الشخصية فقد بدأ مدير المركز الثقافي ومن باب حرصه على تطوير عمله والاستفادة من خبراته الطويلة في العمل الدبلوماسي والحقل الثقافي والاجتماعي التقرّب من نجدة شيئًا فشيئًا؛ وفي إحدى اللقاءات الفردية طلبَ هذا المدير منه همسًا، بشكل كيّس ومهذّب وبطريقة لبيْبة، التعاون معه قدر المستطاع (خدمةً للعراق)، وتزويده بمعلومات وافية وصادقة عن العراقيين المقيمين في لندن، وبعض منهم ممن اُعتبروا في حينها مناوئين للنظام في بغداد أو غير مرغوب فيهم لتطلعات الحكومة العراقية، ويؤثّرون بشكل أو بآخر في سمعة النظام في الخارج، أي باختصار العمل كـ (مخبر) لجهةٍ ما ...! لكن نجدة، أجابهُ بكل هدوء وروية بإن مثل هكذا سلوك لا يتناسب وتاريخه وسمعته، ولا عمره يسمح له الغوص في دهاليز مهمّة لا تليق به ولا هو بحاجة إليها، وأن سبب مجيئه إلى لندن هي تلك المهمة الوطنية والتأريخية التي هي أيضًا (خدمةً للعراق)، ويمكنه-أي المدير-الاستعانة بأشخاص آخرين لهم طموح في العمل بمثل هكذا مهمات أو هم بحاجة لها إليها...! وكرّر المدير رغبته وطلبه مرةً ثانية وثالثة في مناسبات أخرى وبين فترات إلا أن الرد كان نفسه وباتًّا ...!
وشعر المدير بالإحباط في عمله البائس وأن مهمته، قد باءت بالفشل وعليه إخبار مراجِعه بهذا التعثّر، من خلال تقاريره السرّية المتعدّدة إلى تلك المراجع، ودوّنَ بها ملاحظاته ورؤيته عن المواطن العراقي نجدة، وأغلبها سلبية وكذلك عن عائلته، لكنه لم يتلق أي رد من الجهاز ولا أي تعليمات جديدة بخصوص مثل هكذا أعمال وانتهى كلَّ شيء وأصبح الموضوع من (الماضي المنسي...!).
وفي ربيع عام 1981 تلقى المؤرخ نجدة فتحي صفوة دعوة رسمية من اتحاد المؤرخين العرب، لحضور مؤتمرها العام المزمع عقده في بغداد، وقد قَبِلَها ولبّاها بكل سرور على أمل اللقاء بزملائه المؤرخين من الدول العربية وتقوية أواصر العلاقات فيما بينهم، وانتهاز هذه الفرصة أيضًا لزيارة أهله وأقربائه وأصدقائه القدامى.
بدأ المؤتمر في موعده المقرّر وسار كما خُطط له وحقّقَ أهدافه المرجوة وحقّق نجدة، أيضًا ما كان يصبو إليه من تطلعات مثمرة ذات منافع تاريخية مع من هم في مكانته، ومهام أخرى لمشاريع قادمة، وتواصل أيضًا في هذه الرحلة مع أحبائه في لقاءات اجتماعية متعدّدة.
وانتهى المؤتمر ووَدّعَ نجدة، زملاءه الذين غادروا بغداد، وهيأ نفسه هو الآخر أيضًا للسفر بعد ساعات قليله، وكله شوق للقاء زوجته وأطفاله الثلاثة. وبينما كان يحزم حقائبه استعدادًا لمغادرة فندق بغداد-مقر إقامته-إلى مطار بغداد، وإذا بباب غرفته يُطرق مرتين ...! فتحَ الباب ليواجه شخصين ذوي سحنة سمراء وشاربين كثّين، يرتديان بدلة رسمية غامقة وربطة لا تُليق بهم، طالبين منه وبكل لباقة وكلام معسول كالمعتاد، التفضّل والقدوم معهما لمقابلة السيد الرئيس، أي رئيس المخابرات العامة برزان التكريتي ...!
وتفاجأ نجدة، بهذين الشخصين الغريبين وصُدمَ لطلبهما الأغرب...؟! فقال لهما معتذرًا بكل لُطف: إن الوقت ضيّق وطائرته قد قرَبَ موعد إقلاعها ولا مجال لذلك متمنيًا أن يتم اللقاء في وقت لاحق ...! إلا أن الرجلين أعادا طلبهما ولكن بنبرة فيها شيء من الشدّة والأمر الملزمَ! وقالا له أنه سيكون باستطاعته اللحاق بالطائرة حسب موعدها، لأن المقابلة ستكون قصيرة وسريعة، وطلبا منه أن يجلب جواز سفره ...!
لم يكن أمام نجدة، سوى الانصياع على مضض لهذا الطلب ومرافقة الشخصين. وبينما هو بالسيارة في طريقه إلى دائرة المخابرات، بدأت تساور أفكاره الحيرة والأوهام والشكوك وهو يسأل نفسه: ترى ماذا يريد مني رئيس المخابرات؟ وكيف عرفني وأنا لم ألتقيه سابقًا؟ ولماذا في هذا التوقيت الحرج ...؟ أسئلة كثيرة دارت في عقله لكن الوقت يمضي سريعًا والسيارة المقلّة تمضي أسرع حتى وصلت إلى باب مبنى المخابرات، وما هي إلا دقائق حتى أُدخل مباشرةً إلى مكتب برزان التكريتي، ليقابله وجهًا لوجه...! تبادل برزان معه التّحايا ببرود واضح. جلس نجدة، على الأريكة وهو مبهوت ينظر إلى هذا المكتب الفخم لرجل أعتبر في ذلك الزمن الأخطر في العراق والأقوى بعد رئيسه، بانتظار الخلاصة الحقيقية من هذا اللقاء ...!
- سأله برزان بشمخرة: لماذا لا تتعاون معنا من أجل بلدك؟ هل تستنكف العمل معنا ...؟!
في تلك اللحظة تنفس نجدة، الصعداء، وادّكر ما كان قد طُلب منه في لندن، واستعدَّ للرد...!
- أجاب: نعم أنا أستنكف من أي عمل لا يمت بوظيفتي ولا أجيده ولا يُليق بي ولا بمكانتي، وتُسيء لشرفي وسمعتي وتاريخي ...!
وبعد أخذ وعطاء في الكلام بينهما، ردَّ عليه برزان بصلف:
- إذنْ هات جواز سفرك، وأعتبر نفسك من اليوم ممنوع من السفر ومغادرة العراق، حتى إشعار آخر ...!
- نجدة: لكن زوجتي تنتظر قدومي إلى لندن اليوم ...؟!
- برزان: لتَعدُ للعراق وتلتحق بك هنا في بغداد ...؟!
- نجدة: وأولادي في المدراس وبدأ فصلهم الدراسي الثاني ...؟!
- برزان: وما بال المدارس العراقية؟ ليعودوا وينضمّوا إليها ...!
انتهى اللقاء وغادر نجدة، مكتب رئيس جهاز المخابرات، يلفّه الإحباط بعد أن أمضى أسبوعًا حافلًا بالعمل الدؤوب والتفاؤل مع زملائه في المؤتمر والفرص الجديدة التي تنتظره، والغبطة التي أمضاها معهم وكله أسى وأسف لهذا المكر والمداهنة من ذلك الشخص الذي لطالما وقف إلى جانبه في لندن وتوقّع منه موقفًا جميلًا لا دميمًا ...!
وبدلًا من أن تنقله السيارة إلى المطار ليختم موظف المطار جواز سفره مغادرًا وهو مسرور، سّلمَه إلى مدير المخابرات وأعادته السيارة إلى بيته في الأعظمية وهو مغموم ...!
بدأ نجدة، حياة أخرى من سفره الجديد في داره ببغداد وبين جدرانها وحيدًا، بعيدًا عن طموحاته، وبعيدًا عن عائلته، يحسب الأيام ويعدّ الأسابيع ولا يعرف كيف ومتى يخرج من هذا المأزق الذي لم يضعه في حساباته الفكرية. لكن الحياة يجب أن تستمر والعجلة لا بد من أن تدور...!
سُئل حكيم: أي ُّ الناس أحقُّ أن يُتّقى؟
فقال: سلطانٌ غشوم، وعدوٌّ لئيم، وصديقٌ مخادع ...!
بعد أسابيع قليلة من وضعه الجديد وتحديدًا في شهر نيسان من عام 1981، دعته مجلة (ألف باء) البغدادية ورئيس تحريرها كامل الشرقي-أوسع المجلات الأسبوعية العراقية انتشارًا وقتئذ-إلى أن يكتب لها حقلًا أسبوعيًا في مجلتها يتناول فيه مواضيع تاريخية مع عناية أكثر بتاريخ العراق المعاصر.
تلقى نجدة، تلك الدعوة الكريمة برحابة صدر واختار لتلك الصفحة عنوانًا مميّزاً، أسماه (خواطر وأحاديث في التاريخ)، واستهل مشواره في البحث والتقصي عما سيكتبه في هذه المجلة وما طُلب إليه ولو بمزاجية أقل. لكنها على الأقل تُشغل فكره وتبعده عن همّ وغمّ ما وقع منه، ولو بحدها الأدنى.
وكان السيد نجدة، يقضي جُلَّ وقته صباحًا في بيته في شارع طه بالأعظمية، يقضي ساعاته منكبًّا على منضدته، غارقًا بين كتبه وأوراقه، شغله الشاغل في تلك الأيام أن يقدم ما يستحقه من مواضيع يكتبها، وما سيقرأه قرّاء مجلة (ألف باء). وعند الظهر يمضي إلى صالة نادي العلوية ليلتقي بعضاً من أصدقائه القدامى، ويتبادل معهم الأحاديث والأقوال والطُرف، وفي المساء أما أن يكون على مائدة عشاء أحد الأصدقاء مدعوًا أو يلزم البيت يراجع ما كتبة في الصباح، حتى أنجز مواد ومواضيع متعدّدة على مدى أكثر من عام ونصف، نشرتها المجلة بالتعاقب أسبوعيًا فنالت استحسان وثناء القرّاء. وعزمَ أيضًا -بطلب من بعض الأصدقاء والمتابعين-إعادة طبع بعض من إصدارته السابقة التي نفدت من المكتبات، وهذا ما شغلَ فكره وأخذَ حيّزًا آخر من وقته. واستمر يقضي وقته وحيدًا في بغداد، له كل الأرض والسماء لكنه في سجن كبير ومفتوح، ليس له سور عال ولا باب محصّن، وظلَّ على هذا الحال لمدّة زادت على السنتين من الزمن الطويل حتى حدث ما لم يكن في الحسبان ولا في الأذهان، بل جاءه فرجٌ من السماء ...!
من عفَّ عن ظلمِ العباد تورّعًا
جاءته ألطاف الإله تبـرّعًا
كان الضابط الحدث حسين كامل-وهو من أبناء عمومة الرئيس صدام حسين، قد تقدّم في شهر آب من عام 1983، لخطبة كبرى بنات الرئيس، الأمر الذي أزعج أخوة الرئيس الثلاثة ومنهم برزان. على إثر هذا الحدث قرر الأشقاء الثلاثة إرسال رسالة لأخيهم صدام، قالوا فيها: (بما أنك اتخذت قرارك دون مراعاة رأينا، فيعني أن الأخوّة ليست كما عرفناها ونشأنا عليها. عليه فعليكَ أن تعتبرنا مستقيلين من مناصبنا في الدولة).
إن ما يهمنا في مضمون هذه الرسالة هو استقالة برزان، من رئاسة جهاز المخابرات نهائيًا في شهر أيلول من عام 1983، ليعيّن محله مباشرةً اللواء الركن هشام صباح فخري.
إنّ هذا الخبر الصاعق كان مفاجأة غير متوقعة لـ (نجدة) حتى انفرجت أساريره عند سماعه بهذه الاستقالة، وبارقة أمل لانفراج محنته الطويلة، إلا أن هذا الأمل لا يكتمل بالنسبة له إلا بعد أن يستعيد جواز سفره المحجوز، ويغادر العراق للحاق بركب العائلة وتكملة عمله السابق في لندن. ولم يمضِ المدير الجديد في منصبه هذا سوى شهرين ونيّف حتى أُعيدَ مرة ثانية إلى الجيش، وعُيّنَ بدلًا عنه اللواء فاضل البرّاك، مديرًا جديدًا للمخابرات العراقية.
المدير الجديد فاضل البرّاك، كان يشغل قبل ذلك ومنذ عام 1976، منصب مدير الأمن العام، وهو الرجل ذو الخبرة العتيدة في هذا المجال لشغله مناصب أمنية حساسة متعدّدة داخل العراق وخارجه، فضلًا عن اهتماماته الثقافية الجانبية التي من نتائجها أن أصدر خمسة كتب مهمة تناولت أحداث عراقية تاريخية مختلفة.
وفي عهده تأسس مركز التطوير الأمني، إذ طُلب في حينها من أساتذة الجامعات والباحثين والخبراء، ومنهم المؤرخ نجدة فتحي صفوة الذي كان يلقي محاضرات في ذلك المركز لتطوير قابليات الطلبة وتأهيل مستوياتهم الثقافية وإنضاجهم فكريًا. ونظرًا لخبرة الأستاذ نجدة، الطويلة في تاريخ العراق الحديث ومضامير أخرى فقد طلبَ إليه اللواء فاضل البرّاك-بعد أن تعرّف إليه أكثر من خلال هذا المعهد-تقديم المعونة له والمساعدة في تزويده بالوثائق النادرة والمعلومات المهمّة من دار الوثائق البريطانية، لتعزّز صفحات كتابه الأول (دور الجيش العراقي في حكومة الدفاع الوطني والحرب مع بريطانيا عام 1941) وهذا ما أدّاه بكل جدِّ وإخلاص لحين صدور الكتاب. ومنذ ذلك الحين تولّدت بين نجدة، والبرّاك، علاقة قائمة على الاهتمام المشترك في البحث والتقصي في دراسة التأريخ وفروعه.
وتمضي الحياة والسنين ولسان الشاعر يقول:
ازرع جميلًا ولو في غيـر موضعه
فلا يضيع جميلًا حيثما زُرعا
إنّ الجميل وإن طال الزمان به
فليس يحصده إلّا الذي زَرعا
بعد أن تسلّم البرّاك وظيفته الجديدة ومباشرته العمل بشكل رسمي، وجدَ في أحد أدراج مكتب مدير الجهاز جواز سفر نجدة، المحجوز منذ أكثر من سنتين يلفّه النسيان، فاتصل به ليبشّره بما وجد. وهنا حثّه على تهيئة نفسه للسفر بأقرب فرصة والالتحاق بعائلته بعد أن فرّج الله كربه وهمّه من محنة ساقها الصبر والإيمان.
بعد أيام قليلة قصدَ نجدة، المكان نفسه والمكتب نفسه الذي اُجتلبَ إليه قبل سنتين متوجّسًا مرتعبًا، ولكن هذه المرة ذهب مرتاحًا منشرحًا ليبارك، لصديقه القديم منصبه الجديد، ويستلم جواز سفره الحبيس، وفي الوقت ذاته يودّعه على أمل أن يلتقيه مرة أخرى في وضعٍ أفضل ...!
غادر نجدة، بغداد ووصل مطار لندن سالمًا حُرًّا، وكان في استقباله هناك زوجته وأولاده الثلاثة ومحبيه، فقُرّت عيونهم، وابتهجت أفئدتهم، ولَهَجت ألسنتهم بهذا اللقاء، بعد غياب قسري طويل. ومرّت الأيام وبدأ الدم يتدفق في عروقه من جديد والحركة بركة-كما يقال-لكنه لم يلتق، بذلك (الرجل المشكلة) أو يعاتبه فأبى أن ينزلق إلى هوّة عميقة، ونأى بنفسه عن أي تأنيب أو تعنيف له، وكأن شيئًا لم يكن وظلَّ هكذا حتى أخر يوم من حياته.
وبعد أشهر قليلة من عودة الأب نجدة إلى أحضان عائلته في لندن؛ نُقل ذلك الإعلامي من منصبه وأُعيد إلى بغداد، وأُخرج من جهاز المخابرات ليلتحقَ بالجيش ويَخدم العَلم خلال الحرب العراقية-الإيرانية كأي جندي، وتمضي السنين وحال الرجل تغيّرَ كثيرًا وارتقى مناصب أعلى ثمَّ هوى مرة أخرى وهرب إلى الخارج وبات مطلوبًا للسلطة. وفي عام 2003 عاد إلى بغداد، وحدث ما حدث للعراق بما لا يسرّ، لكن لم يصدر منه أي شعور بالندم أو اعتراف بالخطيئة، ولا حتى اعتذار عن هذا العمل المبتسر...!
وفي 19/12/2013 انتقل نجدة إلى رحاب الله، في العاصمة الأردنية عمّان ووري الثرى في مدافنها وبقيت أعماله خالدة، وظلَّ تاريخه ناصعًا، وتلقت عائلته أحر التعازي وخالص المواساة من كل حدب وصوب، ومن المشارب والاتجاهات المختلفة، إلا من ذلك الإعلامي الذي لم ينبس ببنت شفة تجاه عائلة المرحوم، لا من قريب ولا من بعيد ولا حتى برسالة عزاء خجولة أو كلمة نعي مقتضبة.
على الرغم من أن تلك الحقبة كانت بالنسبة نجدة فتحي صفوة (رحمه الله)، أيام ضنك وشقاء قضاها وحيدًا في بغداد، لم يُلحَظُ منها خيرًا. إلا أنه وبعد مرور ثلاثة عقود لم يكتب تفاصيل تلك المحنة في أي صحيفة أو مجلة محلية أو عربية، ولا دوّنها في مذكراته التي نشرها شقيقه السيد نجيد عام 2017، وبعد وفاته كجزء من تاريخه الطويل كإنسان وأديب ودبلوماسي، ولم يؤرّخها حتى في قصاصة ورقية احتفظ بها لنفسه في مكتبته، مفضّلًا أن يرويها شفهيًّا للمقرّبين جدًا ومنهم مدوّن هذه السطور، وها أنا اليوم أوثّقها بعد سنوات من وفاته، لكن بلا شك سيظل يتذكرها الفقيد وهو في لحدهِ، ويردد مع نفسه قول الشاعر:
صحَبتُ أناسًا ما مرامَهمْ من
مرامي ولا أطماعهم من مطامعي
مُستل من كتابي من ذاكرة الأيام والأزمان
1285 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع