أحمد العبدالله
(شعب الذُرى)!!؛ من الفرهود إلى الحواسم
عشيّة العدوان الأمريكي على بلادنا في العشرين من آذار 2003, كنت أقرأ في كتاب لمؤلف انكليزي لم يعد يحضرني اسمه, يتحدث فيه عن (الحملة) البريطانية لاحتلال العراق في سنة 1914, وإنه أثناء تقدم القوات الغازية من جهة الفاو نحو البصرة بمحاذاة شط العرب, كانت قوات الجيش العثماني تخوض قتالا تراجعيا مع القوات البريطانية الزاحفة والتي يؤلف الهنود والنيباليون النسبة الكبرى من جنودها, وأحيانا تنسحب بدون قتال من مناطق يصعب الدفاع عنها. وخلال ساعات الفراغ القليلة التي تسبق سيطرة القوات البريطانية على تلك المناطق, كان (السكان المحليون) يغيرون على مخافر الشرطة الخاوية على عروشها, ويخلعون أبوابها وشبابيكها, وأيّ شيء يجدوه فيها ويتمكنون من حمله, حيث لا يوجد شيء آخر ليسرقوه!!.
وتكرّرت هذه الحالة بشكل أوسع في كل انتقال أو انقلاب يحصل في السلطة, كما في(فرهود اليهود)الشهير في عام 1941, وفي سنة 1958, حيث أغارت قطعان الرعاع على قصر الرحاب وسرقوا وأحرقوا محتوياته بعد قتل العائلة المالكة الوحشي والتمثيل بجثثهم, ولم يرحموا طفلا ولا عجوزا, وكان الملك الشاب المفعم بالانسانية والتواضع؛فيصل الثاني, أحد ضحايا تلك المجزرة. وتحقق ما خشي منه جده الشريف حسين عندما قال للوفد العراقي الذي قابله عام 1921, ملتمساً منه أن يسمّي أحد أنجاله الثلاثة, ليكون ملكا على العراق, فخاطب الوفد قائلا لهم؛ أخاف أن يكون مصيره كمصير جدّه الإمام الحسين!!.
ورغم إن السرقة هي طبيعة بشرية متأصلة في نفوس كثير من الناس التي جُبلت على الجشع والطمع, ومن هنا نفهم حكمة النص القرآني الرادع بقطع يد السارق ليكون آية ناطقة لكل من تسوّل له نفسه القيام بهذا الفعل القبيح. وهي موجودة في كل المجتمعات بهذا القدر أو ذاك, بما فيها مجتمعات توصف بأنها(متحضّرة) ومكتفية ماديا, ولكنها خاوية أخلاقيا, كما يحصل من حين لأخر في أمريكا مثلا, فما أن تنطفئ الكهرباء لفترة وجيزة, حتى تتعرض المتاجر والأسواق للنهب والسلب. ولكن في العراق تبدو تلك العادة وكأنها ملازمة لدى كثرة من العراقيين لأسباب متعددة, ولذلك شاع القول لدى البعض منهم؛(هذا مال حكومة)!!. كما إن إسم؛(فرهود) هو من الأسماء الشائعة في بعض مناطق جنوب العراق تحديداً, حيث اعتادوا أن يسمّوا مواليدهم بهذا الإسم. وهو انعكاس لوضع اجتماعي قائم.
في التاسع من نيسان والأيام التي تلته, استباحت قطعان ما عُرف بـ(الحواسم) وزارات الدولة ومؤسساتها ودوائرها ومستودعاتها, وكل ما تم تشييده بجهد وعرق وتضحيات الأجداد عبر أكثر من ثمانية عقود من عُمُر العراق الحديث, بتشجيع من القوات الغازية, حيث استُبيح العراق كله في أكبر عملية (فرهود) في التاريخ, شارك فيها الملايين من (شعب الذُرى)!! حسب وصف رئيسه صدام حسين, والذي كان لحد ساعات قليلة يرقص له في الشوارع ويبايعه بـ(الروح والدم)!!, في انعطافة حادة وسريعة, ومن النقيض إلى النقيض, اعتاد عليها هذا(الشعب العظيم)*!!.
وقد حكى لي أحد أفراد حماية الرئيس صدام حسين الذي كان ضمن موكبه وهو يمر أمام أحد مخازن وزارة التجارة في منطقة كسرة وعطش شرق بغداد, بعد ظهر ذلك اليوم الأسود, حيث ابتدأت في تلك الساعات أعمال(الحوسمة), فرأى قطعان الحرامية وقد استباحت المكان وشرعت بسرقة محتوياته, فأوقف صدام حسين أحدهم وكان يحمل كرسيّاً على رأسه من(أسلاب) المؤسسة التي تحترق, فصاح به؛ ما هذا الذي تفعلونه ؟!. فما كان من صاحب الكرسي إلاّ أن أنزل كرسيّه المسروق ووضعه أرضاً, وبدأ يرقص ويهتف للرئيس!!!.
في سنة 1993, التقيتُ بأستاذي السابق في كلية الأمن القومي عالم الاجتماع؛ الدكتور ادهام الجبوري, وكان حينها يشغل منصب مدير مركز البحوث والدراسات في جهاز المخابرات, وقد أخبرني بأنه مع مساعدين له قد أجروا بحثا علميا استقصائياً عن أحداث الغوغاء التي حصلت في المحافظات الجنوبية في آذار 1991, وإنهم لغرض الدقة في النتائج, فقد دخلوا متنكرين للأماكن التي كان يُحتجز فيها الغوغائيون ومكثوا أياما بداخلها, للوقوف على الأسباب والدوافع. وممّا توصّلوا إليه؛ إن تلك الأحداث ستتكرّر بشكل أوسع في المستقبل, إذا لم تتم معالجة أسبابها وجذورها. وما توقعته الدراسة أو البحث, والذي تم رفعه لرئاسة الجمهورية, تحقق تماما, بل وزيادة في 2003!!.
ولكن الجديد هذه المرّة؛ إن(فرهود) 2003 وما بعدها, لم يقتصر على أيام معدودات كما في السابق, وإنما هو مستمر ومتصاعد منذ عشرين سنة, لأن الشراذم التي مكّنها الغزاة من مقدرات البلاد, قد انتشلوها من قاع المجتمع وتم (توضيبها) في الدهاليز المظلمة لتدمير العراق. فمن كان في السابق يستغل فترات عدم الاستقرار القصيرة التي ترافق الانقلابات ليمارس (لعبته) المفضلة, صارت بيده الآن أدوات السلطة والبطش, ولكنه بقي يعيش في عقلية المعارضة التي تربّى ونشأ عليها, ولا يجيد غيرها. فيقومون بسرقة وتهديم الدولة التي صاروا هم(مالكوها) في غفلة من الزمن, فجعلوها قاعاً صفصفا, وملقين تبعات فشلهم على آخرين. فهذا (أحدهم), يُرجع سبب عدم إعمار ضاحية (الصدر المنورة)!!, إلى؛(مؤامرة إسرائيلية)!!. و(من هالمال حمل جمال). فكل شيء متوقع من أخوة؛(جوجو دعارة), أو أبناء(أم ارحيّم) سابقا!!!.
....................................
* مغفّل جداً كل حاكم عراقي, يطمأن لهتافات الجماهير ويركن إليها. لأن تلك الجموع الهادرة نفسها, جاهزة للانقلاب على الزعيم والفتك به بمجرد ضعفه أو ازاحته عن الكرسي, وبلا سبب أحيانا, بل لمجرد تغيير حاكم بآخر, وفي الغالب يكون الحاكم الجديد أسوأ من الذي قبله. ثم يبدأون بالنواح والبكاء على الحاكم السابق, وكأن ذلك؛ مسلسل لا ينتهي!!.
1288 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع