د .صباح عقراوي*
سلسلة مقالات عن الفساد وانعكاساتها الاخلاقية
سحقتم المستضعفين، رفقا ببقايا الاخلاق، يا اهل الفساد.
حينما توجت الدنيا بكل مغرياتها للامام علي (رضي الله عنه) بالمباهج والمفاتن اتى الجواب: ( يا دنيا غري غيري)
لا يختلف اثنان، ان من يتوكلون مسؤولية الرعية عليهم ان يرتقون الى مستويات فكرية وعقلية يكون بمقدورهم التفاعل مع المتطلبات والحاجات والامال النابعة من وحي الشعب بالاستفادة من تجارب العالم والشعوب القريبة بما يستطيعون فيه ارضاء ضميرهم ومن هم في ذمة مسؤوليتهم.
وفي حالات الحرص الاكبر والمنظورالاوسع والاعمق عليهم البحث عن خطط وبرامج ومشاريع تنموية اكثر شمولية بابعاد اجتماعية واقتصادية ونفسية ذات التصاق، بمصالح الكادحين والمعوزين والطبقات المسحوقة.
وفي جميع الاحوال عليهم ان يجعلون اولا: من مدى القدرة على خلق وتعميم (الانتماء المجتمعي) الموحد، وثانيا: في بعث الشعور بالرضا. العاملين اعلاه يمثلان - الباروميتر- الذي من خلاله يستطيع المراقب من تقدير مدى النجاح في تقديم الخدمة الصحيحة للمجتمع المعني.
رقي الامم:
تقاس رقي الامم بمدى تجذر الاخلاق الايجابية وقوة الضميرالحي فيها من خلال قدرتها في تقديم الاعانة والرعاية لأكثر الطبقات وهنا وبؤسا. بينما لو غيرت وجهتها لانتهاج استغلال الفقراء من اجل راحة وجشع الاثرياء فانها تقترف اسلوب التخلف القيمي والركود الاخلاقي والاجتماعي قبل الاقتصادي. أما لواستغلت جميع الامة بؤسائها وكادحيها في سبيل شلة اشخاص وعوائلهم فلاشك ان الانحدار المالي والاجتماعي والخلقي والروحي تبلغ اوج درجات التخلف.
مستوى السلطويين في المنطقة:
يؤسف ان من تولى شؤون العامة في المنطقة لم يكن بالمستوى لاستيعاب تلك العلاقات والمفاهيم، قد يكون عدم النضوج النضالي والثقافي والاخلاقي وخلفيات النكوص وتراكم العقد النفسية من اسبابها. هنا تتغلب الاغراءات الدنيوية دون هوادة وتتطايرالمبادىء
٢
والادعاءات كما تتطاير قشور البصل امام الرياح العاتية، لتتضح النهايات المجحفة ليست على الشعوب المستغيثة وطبقاتها المسحوقة فحسب وانما ايضا على المقترفين انفسهم، الذين سيعانون ،دون شك من غلبة العزل والخجل، المرافقين بالقلق والتوجس حول مستقبلهم ومستقبل اولادهم و الاموال التي اكتنزوها من استحقاقات جموع الشعب.
ما يعنيه الفساد:
قد لايكون من حقنا اطلاق الكلمات السوقية النابعة من ارصفة الشوارع جزافا، لكن حين التمعن في وضع القسوة واللامبالاة واستمرارية الاجحاف في سحق الفئات الواطئة، دون الاكتراث لسيل الشكاوي وصراخ الاستغاثات ونداءات الويلات يستحق هؤلاء، من خلال اي من المقاييس والمعايير الاجتماعية والاخلاقية ادنى الالقاب الوضيعةالتي تطلق من كل صوب العامة ومن بينها مصطلح ( الفساد).
الجزء. ٣
العقد النفسية وقيادة الشعوب:
تعدالعقد النفسية مجموعة من المشاعر والخبرات والانفعالات المخزونة سابقا في العقل الباطن والناجمة من تعرض الفرد منذ الطفولة الى الضغوط من صدمات وخوف وحرمان والكرب والاحراجات، التي تنسى عادة ،ولكن ترسب نوعا من الطبائع والسلوكيات التي ينتهجها المعنيون تحت ظروف معينة ، بالاخص تلك الظروف المشابهة لما تعرض له سابقا. يبقى تفكير هؤلاء منحصرا في اطار عقدهم فيقفل تركيزهم على انفسهم اكثر من جموع الشعب، وان ارادوا شيئا لا يستطيعون الصبر عليها ولا يسهل عليهم التعلم من العبر والدروس، وقد لا يستسيغون الحوار أو النصائح ولا يتمتعون بمعاني الحب والاخوة. يعد قائمة العقدواسماءالمشاهير الذين عانوا منها طويلة، لكن نركز هنا على تلك التي تعمل على اعاقة التفكير الذي يحتاجه فهم مسار العمل السياسي، وماهية القناعة بالاتجاهات لموقف للقرار، ولا بفهم المعادلة الحاسمة،هل ان الموقع السياسي هو لتسخير الشعب وموارده وتاريخه وامانيه لخدمة النفس ام هو تسخير الافكاروالطاقات والخبرات وتوجيه الاتباع لخدمة عامة الشعب ابتداء من الطبقات المسحوقة والضعاف ومنهم الاطفال والمعوقين وكبار العمر.
يعد تراكم العقد النفسية عائقا امام قدرة الفرد للاستنتاج في فرز محصلة المعادلة وفي اداء الخدمة الصحيحة حين يتبوء السلطة و الخدمة العامة، بل بسبب تغلب الانانية ووجود الاغراءات يعد متهافتا على الاهتمامات التي تخصه اكثر مما تخص الشأن العام، وان لم يتخلص من تلك العقد فيعد النجاح مستحيلا في تقديم
٣
الرعاية لعامة الناس. ومن العقد الشائعة في هذا الحقل، (النرجسية) و(السادية) و(الخنوع) و( مركب النقص) و(النكوص) و(التثبيت في الاحقاد والطائفية) و(وسوسة الجوع) و(الاقتداء الخاطيء) و(عقدة الاوديب) و(عقدة الغيرة).
ميزة اصحاب العقد:
يعلم الكل، ان من امتلأت جيوبهم وبطونهم و حساباتهم الشخصية
كانوا في زمن ماض، لا يملكون مايزيد على القوت اليومي.
ولو تركنا المسببات الاساسية، فان هذه الطفرة في وضعهم لوحدها تتسبب ان يكون أصاحبها ملىء بالعقد والتصرفات والسلوكيات الشاذة ولحجم هائل من التبعات والحواجز السلبية، الاخلاقية منها والاجتماعية،التي تترسب اثارها على اديم الحياة اليومية وعلاقاتهم بابناء الشعب، فالمقت والنبذ هما نصيبهم من العامة، مما ينجم عنها،ان من يبتلون بالعقدالنفسية الاضافية التي لا يستطيعون خلالها الاعتراف بها مع انفسهم ولا امام المجتمع ، فيلجئون الى الانسحاب والعزل وتطويق انفسهم بطبقة من المتزلفين الفاسدين الثانويين، ليكونوا واجهتهم مع المجتمع..
وباستثناء عوائلهم وهؤلاء الذيلين فان جميع ابناء المجتمع يعانون من مفرزات قسوة سلوكهم الشائن،بما فيه العوز والالام والويلات، وتظهر جليا لدى من هم على حافة الوضع الاقتصادي ومن استنفذت تماما قوتهم اليومي من الثكالى واليتامى والمعوزين.
القول والفعل :
يعلم الجميع، لولا ادعاءاتهم في الحرص على خدمة الشعب، بل وبا لتعهد با لالتزام بالقسم الذي ادوها أو ما يلوحون من تحذيرات لتفادي الاخطرالقادم لما كان بمقدور هؤلاءالتمادي في شفط السحت بشتى الوسائل والظروف، ولماملىء الجيوب والقاصات والبنوك ولما تمكنوا اسكات البؤساء وفرض الصمت للتسليم بالقدر في تبديد حقوق الابرياء ومستحقات عوائلهم ولما اقحموا المجتمع نحوالجهل و التفتت والتخلف والتراجع الحضاري.
٤
رآي علماء الاجتماع:
يقول الباحث علي الوردي: باتفاق المفكرين المعاصرين لاتنهض امة حديثة ان تفشت فيهما العورتان (الفقر المدقع والغنى الفاحش). وحسب العلاقة السائدة،لا نجد فقيرا في الطرقات الا ان غنيا كسولا قداستحوذ على ماله، واؤكد هنا بان زيادة الفوارق المعيشية بين الطبقات تعد من اهم اسباب نمو الكره والبغض والصراع والتصادم والانحطاط الاخلاقي وما ستفرز من عدم الاستقرار واندحار الوضع نحو انهيار المجتمعات.
لماذايتمعن الفاسدون في افقار البائسين؟
يعرف الفاسدون جيدا ان نمو الطبقة المتوسطة وتقويتها يعد عنصر التوازن الاخلاقي والاجتماعي والاقتصادي في المجتمعات، وبوجودهم تقل الصراعات وينتعش الاقتصاد وتقوى التنمية وتتقدم المجتمعات. ولكن خوفا من بروز طبقة سياسية متينة وبوجود العقد النفسية وبغياب تفكيرالرعاية الابوية لدى من يتبوء منهم المسؤولية وبتغليب الجشع والعديد من الدوافع اللاشعورية تتسلط على اهتماماتهم المغالاة وحي الذات وتتوجه نوازعهم وسلوكهم بعيدا عن المنطق والحكمة.
ولتوضيح تلك الدوافع نسرد مايلي:
١. وكما نرى هواة تسلق الارتفاعات الشاهقة يتفاخرون ببلوغ الدرجات القياسية، ومع الفارق، فان عقدالنقص لدى الفاسدين تجعل احساسهم بالنشوة والمتعة اكبر كلما وجودا الفارق شاسعا بين وضعهم المالي ووضع الطبقات المسحوقة، وكذلك في ايجاد فرص الجود بكسرة من رغيف يقدمون لهم يريحون ذاتهم من الاثار المستأصلة فيهم.
٢. كما ان بازدياد الكادحين يتوسع المصدر الذي يوفر لهم الخدمة والعاملين والحراس والمدافعين والمشجعين وصفوف القطيع المشلولة التي لا حراك فيهم غير السمع والطاعة للرموز.
٣. يعد الطبقة المسحوقة الميدان الاستهلاكي لبضائع هؤلاء وتديم لهم
٥
تدفق سيل الارباح إلى جيوبهم وبالتالي ضمان الاستمرار في الاستغلال .
النتائج الاجتماعية والأخلاقية:
اصبحت الصورة السائدة بزيادة نسبة البطالة الى درجات مخيفة ٤٠ ٪. واقحام الملايين في وضع الرهق المالي وعيش الكفاف وبلوغ بعضهاحافات العدم.
تطفح كيل المعاناة على كاهل المجتمع وتستفحل غليان الظواهر باطرها الثقيلة، لتجثم على الافئدة وتهشم امال الثكالى، وبرزت ترسبات العيش العسير وساد الوضع المزري لتملئ بصراخ الويلات وتكثيف الاهات.
اثارالكرب والحيف:
في خضم الوضع المالي والاجتماعي المستفحل غطت الوجوه اثار الامعان بالضيم وحوافر الحرمان وطفت الاحراجات على العلاقات العائلية وعمت تبعيات الخجل والاستحياءعلى وجوه لا تغيب عنهم الشعوربالمسؤولية تجاه بعضهم وامام العوائل والمعوزين من الاهل والاطفال القاصرين.
يلجأ البعض للتغافل أو اللابالية او للايتاء بكلمات توحي على سد ابواب الرحمة أو الى وعود وعهود واعذار وتبريرات واسقاطاتات.
يتعلق البعض بثنايا تلميحات انفراج تراودهم بين فينة واخرى، نابعة من تسهيل نحو فسحة تفاؤل أو من فحوى تأملات وتصورات بمستقبل يجلب بقدرة قادر ليبهجون زوايا من ذواتهم لبعض الوقت او لاقناع من يعيلونهم باجل معسول.
اخرون يرفضون ان يكونوا جزأ من مجتمع او اصحاب وطن يأن تحت توجيه اناس ملىء بالفساد.
جوانب أخلاقية تلوح في الافق :
تشبيها بالسدود على الانهار، تعد المنظومات الاخلاقية جبهات متراصة، فلو بني سدا بطول كيلومترين، دون اكمال ١٠أمتار، فسيتعطل عمل السد
٦
تماما، وهنا فعدم الالتزام باي مفردة او اجزاء خلقية ستفرغ المفردات الاخرى تماما من محتواها.
ومن هنا فان عدم الالتزام بتطبيق بعض الجوانب الخلقية ستنهي جوهر المنظومة كلها وستستمر لتتواردالاعتى والاخطر في الافق الابعد. والذي لم ينال منها البعض يصادفها الاخرين او سيظهر له في المرحلة اللاحقة بهيئة اثار لظواهر اكثر غرابة واوسع تاثيرا وابلغ تدميرا.
الفعل اليومي للفاسدين:
لقد افرز الفساد، بشخوصها ومتملقيها ومسانديها وحلقاتها المتسلسلة، بانتهاجهم الانعزال والانغلاق وغياب الشفافية واتباع ما يشبه القدسية (المزيفة)،نماذج للقدوات السيئة للعديد من الشرائح، يتهربون من بالنقد و الاعتراف بالخطا، ناهيك عن القدرة على الاعتذار. بذلك تولد حالة من التماييز والطبقية والانبهار الاجتماعي وفرض الفرقة والنفور ونشرالحسد والشرخ المالي والتمهيد للالتجاء للنزعة الدينية والقبلية التي كثيرا ما تتسبب بالمشاحنات ووقوع ضحايا.
من المفرزات اليومية المستمرة:
اصبح شائعا ان اولاد العامة يذوقون ذرعا وحنكا على ما يقتنوه ويتباهى به (فراخ) الفاسدين وكم من معوز و محتاج للقوت اليومي يرى الحيف في فقدان التقيم الحقيقي والعدالة والاعتدال في موارد العيش الكريم وكم منهم قد عانى الضنا في طلب العلم او الكفاح الجماهيري يجد نفسه مغبونا لعدم الاقتدار في ترضية ضميره اتجاه ابناءه. وكم من ردود افعال مباشرة ولدت التشهير بالخصوصيات الاحداث، مما عمت ميدان النقد اسلوب العمل السوقي
غياب الاهتمام بالوضع:
يعد تزوير التأريخ وتزيف الاحداث والانشغال عن مآسي عامة الشعب والنأي في الاعتماد على اصحاب الخبرة وعلى من يتحسس بالام عامة الشعب وجها اخرا للفساد. تستفحل التعقيدات فيها بما يولد من تكثيف
٧
النفور ويحفز تراكم العقد والاحراجات بين الفئات والشرائح و يزيد من هدر كرامة الفرد واذلال اهل العلم والتربية من معلمين واساتذة، الذين يعد اضاعة حقوقهم واهمال قدراتهم وتحاشي مايليق بمقامهم، والتغاضي عن رسالتهم السامية اوج درجات الفساد لماتصب في تحكم الجهل وتخلف المجتمع.
الاثار الخطرة للتمادي في الفساد:
يتصرف الفرد العادي في تعامله مع الحياة بالمنطق والتفاعل ضمن اطر الحقائق الملموسة، بينما الشخص المصاب بالجنون وبسبب المعاناة من النرجسية وعدم تقيم الحقائق وتغليب الاوهام والسقوط في الهلاوس والاندهاش والتشوش الفكري، لا يتمكن من الايتاء بالاعمال وفق الحكمة والمنطق. يقابله في السياسة الرجل الفاسد، فتتحول بصيرته ونظرته للحياة ومفاهيمه وادراكاته وتوجهاته ومبرراته للامور من منطلق ذاتي بحت يقابل ما يعانيه المصاب بالجنون .
تكمن الخطورة في بروزهم في الاعلام وانتشار تصرفاتهم للملأ وتمسكهم بالخيوط الرئيسية لمعيشة الاخرين وقدرتهم, بسبب التقليد والاقتداء، في التأثير على العقل الجمعي ومفاهيم العامة، مما يتسبب بسريان التسريبات الخلقية المشوهة في المجتمع لتسود فيه السلوكيات الشاذة وما يؤدي اليه من اعوجاج خلقي ناجم من تغيير مغزى القيم الاصيلة بعيدا عن معانيها.
علامات التحذير:
ان هذا الوضع لينذر بمحاذير مرعبة ومخاطر محدقة حول مستقبل شعوب المنطقة. نراها احدى اوجهها بالملموس، في الانغماس في الاعتقاد، التي تبى على الخرافةوالاسس الخاوية وكذلك في ادعاء الفاسدين بتبني كشف الفاسدين ومحو الفساد، وتصريحات السارقين بالقاء القبض على اللصوص واعلان المتحايلين بالعمل لمحو اثار التحايل والاعيب المتحاييلين.
٨
ومن العلامة الاكثر وقاحة هي في حرق اثار ما اقرفوه دون وضع اي اعتبار للعواقب.
الاخلاق وتعليمات الخالق:
لاشك ان المسؤولية الأخلاقية الثابتة تخص سمو تعليمات الخالق واحكام الضمير لذا تعدالأوسع والاشمل والاعلى في المستوى عن احكام القوانين الوضعية، لانها تنير المسارات السامية لسلوك الانسان نحو الانسان وتهدي المشرعين حين مخاولة التخطيط لوضع القوانين وترسم الاطر للسلطة التنفيذية .
لكن اليوم، خلافا للحدية الخلقية، واقتناعا بالامرالواقع اصبحت السرقة والتزوير مشاريع شراكات توازنية، يتعامل اصحابها بالاخذ والعطاء لتتوازن بين ما يقترفه اي منهم وبين علمه اليقيني مما يقترفه الشركاء، دون القدرة بالتحرك ولو بهمسة للتنويه عن مخالفات قرائنهم او الحلقات التي تدور بفلكهم .
الضم والتستر المتبادل:
ان افعال هؤلاء البعض وادعاءاتهم الفارغة ،من جهة تظهر فيهم معدن النفاق ومن جهة اخرى تفرغ الوعود من جوهرها.
يعد تفادي الفعل الاسترجاعي الدافع الاساسي في توخي حالة التوازن المطمئن،لان هؤلاء البعض يحاولون تفادي الانفضاح بالابتعاد من تشخيص الفاسدين الاخرين . فاصبح الكل في قناعة مستقرة، بطرا أو اضطرارا بما ارتزقوا من السحت وفقا للقواسم المشتركة التي تجمعهم في الستر على انفسهم من خلال التستر على الاخرين في ميادين الارتباطات والسرقات والتزوير و حتى في اقتراف الاغتيالات .
ان ذلك النوع من الطمأنة واستغلال اللذات والشهوات ولدت الانعكاس على الوضع الخلقي لعامة الناس واربكت تماما المنظومة الخلقية في المجتمع.
مفرزات الصمت والسكوت:
من المفارقات العجيبة بين ملة الفساد، هو ما نجد فيهم من التشبث بكل السبل، بمشروعية وغير
مشروعية، لاخذ مواقع المسؤولية، دون ان يعلمون او يعملون ب( كلكم راع وكلكم مسؤول عن
٩
رعيته) ودون الاخذ بنظر الاعتبار ان موقع المسؤولية يعني تولي (خدمة العامة). فيبقى همهم
محصورا بالدرجة الاولى بالذات والشهوات، وان توسع اكثر يصل الى الاهتمام بالعائلة والاحفاد، وان كان له القدرة الاكثر فتتوسع بؤرة الاهتمام بالناس في الحلقات المرتبطة بهم مصلحيا. ونادرا يستطيع من توسيعها ليشمل هيكل الاتجاه السياسي الذي استند اليه . ويندر جدا ان يستطيع البعض القليل من شمول عامة الشعب والمعوزين في الاهتمام.
العلاقات الشائعة كنتاج للسلوك اللاابالي:
كتحصيل حاصل لتلك الحالة المشبعة باللامسؤولية والانغماس بالفساد الاداري والمالي والسياسي فقد اهمل امر الشعب والوطن ومستقبل الاجيال تماما، فتراجع العلم والادارة وتخلفت الخدمات العامة واهملت التربية والتعليم وتسربت الفئوية ودب التسيب بين الحاضنات الاجتماعية والثقافية وفقدت مؤسسات التربية والوجهاء ورؤساء العوائل السيطرة على التوجيه الا ماندر.
السلوكيات الفردية الناجمة:
نتيجة لتراجع الشعور بالمسوولية والعناية والرعاية والبرامج الخدمية والتربوية، فقد فرضت التبدلات لمفاهيم المنظومة الخلقية باوجهها المتعددة من الدينية والواقعية والحدسية والانفعالية والطبيعية. وتراجعت الاهتمامات الى الشهوانيات اللاقيمية واللاانساية وتقوت الميول الى الماديات عوضا عن العلاقات الروحية، التي فرغت تماما من محتواها. وبنتيجة ذلك لم تتفش الرذيلة والذميمة بانواعها فحسب وانما ايضا جرت العادة الى اللجوء الى الاعذار التي تستبيح وجودها واستمراريتها.
الاخلاق والمنظومة الخلقية:
هناك وثيقة غير مكتوبه، منذ الازل، تحوي طاقما من المعاير الاجتماعية للسلوك الانساني يتخذها المجاميع السكانية لنفسها لفرز الصالح من الطالح. قد تخضع عبر الزمن الى تأثير الافكار والمعتقدات والاحداث الاجتماعية والاقتصادية ولكن تبقى بعضها عامة وثابتة يلتزم بها كل البشرية وقد تتغير البعض الاخر نسبيا او جذريا حسب الظروف والافكار الجديدة ومعتقدات المجتمعات، وقد تتفرع بعضها لتلائم المحيط او المهنة المطلوبة. ان رقي تلك القيم والمثل هي التي تقرر مدى رقي المجتمع المعني ، وجوهرها تعتمد على مدى رعايتها للصالح العام وحفظ كرامة الفرد والضعفاء.
تطور المنظومة الخلقية عبر التاريخ:
حسب المدونات القديمة فقد اهتم الانسان الفلاسفة اليونانيون ابتدأ من سقراط وافلاطون والابيقورييون والرواقيون بتلك المعاير، كان افلاطون اكثرهم اهتماما بالالتزام ب(الخير) لغرض غائي وهو بلوغ (الشخصية الفاضلة) بالتحلى ب (الاخلاق المثالية).
١٠
اما ارسطو فهو الذي استخدم مصطلح (اتكس) للاخلاق. وكان يركز كثيرا على التأمل و العدل والاعتدال والحذر والشجاعة ولكن الابيقوريين وبسبب الاضطرابات الاجتماعية اتجهوا الى ابراز( لذة العقل)، بينما ركز الرواقيون على ( راحة البال) وكانوا يعدونها
اكثرها سموا بالتوحد مع ( الذات الالاهي) باعتباره يجمع فيه معشر كل البشرية.
تأثير اليهودية على هيكلية المنظومة الخلقية:
شدد شريعة (موسى) عليه السلم على الاخلاق خلال ثلاثة مجموعة من الوصايا، منها توحيد الله وعدم الحلف به باطلا واحترام يوم السبت والثانيه الكرم اتجاه ذوي القربى والثالثة حول المجتمع بتحريم القتل والسرقة والزنا وشهادة الزور وعدم اشتهاءامرأة الغير وأملاكه وعوائده.
المسيحية و القيم:
وقد سارت المسيحية اضافة لتعاليم السيد المسيح في الصفح والمحبة على ذلك الاساس ، اضيف اليها تعاليم (القديس اوغسطين) الذي حفز نحو الاخلاق الحسنة بالتقرب من الباري، وتعاليم القديس (توماالاكويني) الذي كان متأثرا ب (ارسطو) وشدد على الايمان والامل والاحسان.
•
• وبالرغم من تأكيدات الاديان السماوية على ترسيخ القيم وتمتين هيكلية المنظومة الخلقية الى ان البعض من الموجهين في حقبات زمنية مختلفة قداخفقوا في الحفاظ على الاستمرار بالنهج الذي يخدم الانسانية، بل تسببت في العديد منها الى ادخالها في انفاق مظلمة، كلفت البشرية الكثير من الضحايا. مما تعرض لها المفكرون التنويريون في العصر الحديث بالتعديل والتهذيب لتتوالم مع كرامة الفرد وما يصب في خير البشرية وما يوافق مع الحياة العصرية، بعيدا عن النفور والنزاعات والاحقاد ، والتي لا يسمح بتجاوزها لا في التربية ولا القوانين أو الاعراف.
• التوجهات الاخلاقية في العصر الحديث:
• تبلورت المنظومة الاخلاقية على ايادي العديد من المفكرين . منهم (باروخ سبينوزا) من هولندافي القرن السابع عشر، الذي انتقد ديكارت على المنطق الثنائي للعقل والجسد وانتقد البشر الذين يسعون وراء الأهداف النوازعية ومنها:( الثروة والشهرة والمتعة) لاعتقادهم الخاطيء، أن هذه الأشياء سوف تجلب لهم السعادة. ولكن لا يحصلون على السعادة ولاالفضيلة ولا الحياة الكريمة. واوضح ان الفضيلة تنبع فقط من تنوير الفكر والعقل، فالوسيلة لا تكون مجدية الا حينما تكون من طبيعة الهدف.
• وكذلك فان (عمانوئيل كنط) من المانيا في نهاية القرن السابع عشر، فانه ناقش الاخلاق وعلاقة الانسان مع الله ومع الانسان، واستنتج ان إن على الانسان ان يجد واجبا على نفسه مثلما يحافظ على حياته وتأمين سعادته، بان يحب الجار ويحسن الى الغير حتى لو كان عدوا.
وفي استرساله في النقاش يسرد مثالا عن الناس الذين يعيشون برغد وترف ويمتنعون عن مساعدة اخوتهم بالمال اوبالوقوف بجانبهم اثناء الشدائد فيصفهم بالمتناقضين مع انفسهم.
*دكتوراه في الطب النفسي
1137 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع