المحامي المستشار
محي الدين محمد يونس
مفارقات من الحياة (٢) ـــ رب صدفة خير من ألف ميعاد
في ليلة أحد أيام ربيع عام 2005 وكنت حينها اشغل منصباً رفيعاً على ملاك وزارة الداخلية في بغداد ومتمتعاً بإجازتي الدورية في محافظتي أربيل حيث كنت ومجموعة طيبة من أصدقائي نتجاذب أطراف الحديث عن النظام الدكتاتوري السابق والنظام العشوائي الحالي الذي حل في عام 2003 وكان النقاش محتدماً بين الجالسين الذين انقسموا إلى فئتين، فئة من اتباع النظام السابق وتكيل له المديح وتصفه بالنظام المثالي دون التطرق إلى مساوئه العديدة وما حل بالشعب العراقي من وضع مزري بسبب أخطاء رأس النظام (صدام حسين) وتصرفاته الفردية التي تفتقر إلى ضوابط الفهم الصحيح للوضع الدولي ومصادر القوة العسكرية والاقتصادية في العالم وتجنب الدخول في صراعات سياسية وعسكرية واقتصادية خاسرة وفق كل المؤشرات العلمية والعملية الظاهرة للعيان. وعلى العكس منهم الفئة الأخرى وهم من الموالين للنظام الحالي والذي يصفونه بصفات إيجابية تحقق الأمن والخير الوفير والحرية لأغلب فئات الشعب العراقي في ظله وكان موقفي في هذا النقاش الحاد وسطياً وألا نتجاهل حسنات وسيئات النظامين كل على حدة فانبرى لي أحد الأخوة وهو يتساءل ما هي حسنات النظام السابق؟ أجبته هناك حسنات كثيرة لذلك النظام منها كون العراق من الدول التي كان يشار اليه بالبنان في نظافته من آفة العصر (المخدرات) بالإضافة إلى توفر خدمات الماء والكهرباء ومجانية حاجات المواطنين في جوانب التعليم والخدمات الصحية يجب ان لا نتغافل عما كان يتمتع به العراق من مكانة ووزن على الصعيد الدولي ويحسب له حساب وفي نهاية حديثي عن حسنات النظام السابق انبرى صديق آخر مستفسراً اذن وما هي حسنات النظام الحالي؟ أجبته هذا الهاتف النقال (الموبايل) كما واترك جهاز الساتلايت لأنهما كانا في ظل النظام السابق من المحرمات ولم يكن يسمح باقتنائهما بحجة ضررها على الضوابط الأخلاقية وهذه السيارة التي تمتلكها تنازل عنها ايضاً حيث كان الحصول على سيارة صعباً جداً من قبل المواطن العادي ومن قبل ذوي الدخل المحدود بالإضافة إلى سيطرة الدولة على سوق السيارات (استيرادها) من قبل الشركة العامة للسيارات وصعوبة الحصول عليها بعد التسجيل عليها ولفترات طويلة حيث استمر انتظار آخر وجبة من المسجلين على السيارات مدة تقارب خمسة عشر عاماً وأخيراً وليس آخراً يجب ان لا تتحدث عن النظام الحالي بسوء وأنت ما خذ حريتك بالحجي والذم وهذا ما كان مقبول في ظل النظام السابق حيث كنت ستتعرض لأقسى العقوبات وفي المقدمة منها الإعدام. كما ولابد أن أشير إلى أهم مكسب تحقق في ظل النظام الحالي هو نجاة الشباب العراقي من السوق إلى الخدمة العسكرية الإلزامية لفترات طويلة غير مقبولة وزجهم في الحروب العبثية وقتل وجرح وفقدان الألاف منهم والتداعيات الخطيرة والمؤلمة عليهم وعلى عوائلهم.
على كل حال هذه الإحاطة بحسنات ومساوئ النظامين لا يمكن الإحاطة بهما بهذه السهولة وهذا الإيجاز عند التطرق إلى لتفاصيلها في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكان النقاش بين الطرفين يحتدم ويصل إلى مرحلة التقاطع والنفور واتدخل بين الطرفين وأذكرهم بالمقولة التي فحواها إن الاختلاف في الراي لا يفسد للود قضية وأطرح عليهم الحكمة المثالية المليئة بالعبر والتي نصها:
صدام حسين وبعض أركان نظامه
( لا تخسر أحداً من اجل نقاش حول السياسة (اللعبة القذرة) فأنت وهو لن تغير شيئاً والقرار بيد آخرين وإذا ما أتفقوا لن يهتموا لرأيك أو لرأيه. حافظ على أصدقائك وزملائك فهم أقرب من الذي تدافع عنه أو تتعصب له).
ومقولة الأديب الفرنسي بول فاليري:" الحرب هي مجزرة بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض من أجل أناس يعرفون بعضهم البعض لكن لا يقبلون بعضهم البعض".
المهم في هذه الجلسة ونحن نقترب من نهاية النقاش فيه وإذا بمنبه هاتفي النقال يرن برقم أجهله وسمعت صوتاً هاتفاً لأنثى انساب إلى أذني رقيق كرقة خبز الرقاق الكردي وحلو كحلاوة الدهين النجفي قائلاً:
- عيني هذا مو تلفون نوال.
- لا عيني غلط.
- العفو اخوية.
- ماكو داعي للعفو ما صار شي.
وبعد ثواني معدودات جاءتني رسالة من نفس الرقم (اعتذر عن الخطأ) أجبتها على الفور (يرجى تكرار الخطأ)، ولم تخيب آمالي واتصلت بي مباشرة وهي غارقة في الضحك المتواصل وهي تردد (هاي كلش قوية) وجعلتني أنسى خضم النقاش السابق وحسنات وسيئات النظامين السابق واللاحق ودخلت معها في دردشة.
هذا النداء كان سبباً في نجاتي من المداخلة والتحكيم بين طرفي هذا النقاش الذي يتكرر كثيراً في مجالس العراقيين على طول البلاد وعرضها ولن تكون له نهاية مع بقاء الوضع السياسي المعقد والمتنوع الولاء على حاله دون تغيير إلا بمجيئ نظام حكم جديد يهدف إلى تحقيق الصالح العام من خلال إقامة نظام اقتصادي متوازن ونظام اجتماعي عادل يكون سبباً في أرساء قواعد نظام سياسي قوي قادر على تحقيق التنمية والتقدم والازدهار وعندها يمكن أن تقييم النظامين (نظام صدام حسين وما بعده) بشكل صحيح من كافة الأوجه والجوانب السلبية فيهما بعد معايشة النظام السياسي الجديد والمتغيرات الإيجابية التي تحصل في ظله ويشعر
بعض أركان النظام الحالي
بها المواطن العراقي ويتحسس الفوارق والمتغيرات في حياته كفرد والمجتمع وحينها يمكنه رصد المساوئ التي عاناها الشعب العراقي طيلة هذه الفترة الطويلة.
نعود إلى المكالمة الهاتفية التي تشعبت في مختلف أمور الحياة ومنها السؤال عن تكهناتي عن عمرها ولون بشرتها وطولها أجبتها بالاستناد إلى خبرتي المتراكمة في هذا المجال ومن نبرات صوتها:
انت بين سن الثالثة والعشرون والخامسة والعشرون من العمر. أنت حنطية اللون... أنت لست قصيرة ولا طويلة. أنت بدينة. أجابت: "الله... الله كل توقعاتك صحيحة عفية عليك" وبعدها انصرفنا للحديث عن الفن والفنانين وأي مطرب محل أعجابي وتعلقي بأغانيه؟ قلت: كاظم الساهر. وأي أغنية من أغانيه تعجبك؟ قلت: وين آخذك وين أنهزم بيك.. ردت (يبوو) وأحسن مقطع من الأغنية؟ قلت: أمك جابتك وآني أبتلي بيك.
الحوار معها استمر وكنا حريصين على ألا نقع في حالة الانسداد العاطفي وهذا ما حصل.
وأخيراً لا أريد أن أطيل عليكم بعد ان سردت لكم ما يجول بذاكرتي وترسخ فيها ورغبتي أن تشاركوني الاطلاع عليها عسى أن تدخل البهجة والسرور والتفاؤل في نفوسكم في هذا الزمن الشحيح في إيجابياته الوفير بسلبياته... ومن الله القدير الرأفة والسلامة.
2765 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع