د. سوسن إسماعيل العسّاف
ليز تراس.. آخر رئيسة وزراء تُكلف من قبل الملكة اليزابيث الثانية.. وأول رئيسة وزراء في عهد الملك تشارلس الثالث.. هل ستتمكن من الإيفاء بوعودها.. أم أن ألأزمات الحالية والقادمة ستكون أكبر منها؟ وما هو نصيب الشرق الأوسط من سياساتها المرتقبة؟
بعد تنافس طويل شديد ومتقلب، نجحت السيدة ليز تراس، وزيرة الخارجية البريطانية في حكومة رئيس الوزراء المستقيل بوريس جونسون بالفوز بزعامة حزب المحافظين وبمنصب رئيسة الوزراء، لكي تكون المرأة الثالثة في المملكة المتحدة التي تحتل هذا المنصب، متفوقة ب 57% من الاصوات على منافسها السيد رشي سوناك، وزير المالية السابق في الحكومة ذاتها والذي حصل على 42% من اصوات اعضاء الحزب. كما أنها دخلت التاريخ بكونها آخر رئيسة وزراء تمنح حق تشكيل الوزارة من قبل الملكة اليزابيث الثانية التي رحلت يوم أمس الى مثواها الأخير. في بداية الصراع على هذا المنصب أحتلت السيدة تراس المركز الخامس ثم الرابع في تسلسل المتنافسين، ثم قفزت الى المركز الثالث، وفي آخر جولة للتصفيات تمكنت من ان تكون من ضمن آخر شخصين متنافسين. في حين ان منافسها ريشي سوناك كان المرشح الأول حتى آخر لحظة، ومع ذلك نجحت تراس في التفوق عليه في نهاية المطاف. ولقد قيل الكثير عن سبب فوز تراس، (وبعيداً عن البرامج الانتخابية التي طرح كلا المرشحين)، هناك من قال إن السبب الرئيس يعود الى ان نسبة عالية من المحافظين (53% وفق احدى استطلاعات الرأي) شعرت بأن دفع جونسون للاستقالة كان قراراً او اجراءا متسرعا وغير منصفا، وبالتالي قد يكون لجؤهم الى حلفيته تراس التي لم تتخل عنه تأكيدا لذلك. وفي السياق ذاته هناك من وضع السبب في تفضيل المحافظين تراس وتجنب انتخاب سوناك لانهم اعتبروا الأخير أحد المسؤولين عن سقوط وانهيار جونسون بعد أن فتح باب الاستقالات لإهم الوزارات السيادية فيما بعد، ولأن طعنة سوناك كانت تعبر عن عدم وفاء. وربما يكون هناك سبب غير معلن ويمكن استنتاجه من التحليلات والمقالات التي ركزت على ما يتعلق بالأصل العرقي للمرشحين واعضاء الحزب. فكما هو معروف ان سوناك، البريطاني الجنسية بالولادة، هو من أصول هندية، ومع إن هذا الأمر لم يكن له تأثير على النخبة السياسية الحاكمة، بدليل ان غالبية واضحة منهم دعمت ترشيحه كرئيس للوزراء، وقبل ذلك اثنت على ادائه كوزير للمالية، الا ان هذه النخبة لم يعد لها تاثير على الأختيار عندما أصبح الأمر او الحسم بيد أعضاء الحزب (الهيئة العامة) التي كان لها وجهة نظر اخرى. وهنا يجب الإشارة الى أن الأحصاءات المتعلقة بالأعضاء توضح ان هناك 180 الف عضوا، وهم يشكلون حوالي 0.3% من مجموع سكان بريطانيا وأن 44% من الأعضاء تزيد اعمارهم عن 65 عاما، اي ان النسبة من الشباب (في الثلاثينيات والأربعينيات) أصبحت اكبر في هذا الحزب. وربما هناك من يقول ان هذه الحقائق ليست مهمة، وان الحقيقة المهمة الأكبر هي ان 97% من الأعضاء هم من البيض، و54% من الاعضاء يعيشون في العاصمة وجنوب إنكلترا (حسب صحيفة الغارديان) وهي المناطق التي تعتبر الأكثر تعصبا للعرق الأنكليزي والحق في اختيار من يمثلهم، وقد يكون لهذه الحقيقة الاثر في تدهور حظوظ سوناك. علما بان سوناك كان قد تفوق في أغلب المناظرات نظرا لنظرته المهنية وخططه المدروسة لمعالجة المشاكل الإقتصادية التي تعاني منها بريطانيا بسبب جائحة كورونا، وما ستعانيه بسبب الحرب في أوكرانيا. ورغم ان المرشحين قد إتفقا على أمور ثانوية مثل تجريم العنف الجنسي والمنزلي والتحرش ضد النساء ودعم حرية المرأة وضرورة حماية امنها والاهتمام بالتعليم ورفع مستوى خدمات التأمين الصحي، الا ان طروحات تراس حول القضايا الرئيسية المهمة مثل ازمة المعيشة والطاقة اتجهت نحو التركيز والضرب على الأوتار العاطفية بلهجة قوية مقنعة، خصوصاً عند التحدث عن حلول سريعة قد لا تستطيع ان توفي بها، الا ان نسبة مؤيديها ظلت في الأرتفاع. ويبدو ان فريق مستشاري تراس قد ركز على إظهارها كصورة مكررة من رئيسة الوزراء الأسبق مارغريت تاتشر، التي لقبت بالمرأة الحديدية في حينها، حيث بدأت تقلدها في كل شيء تقريبا، وحتى بالملبس في بعض الأحيان. ولم يؤثر على نجاحها الإنتقادات التي وجهت اليها والتي تقول ان الظروف التي أوصلت تاتشر للحكم، والتي ساعدتها على النجاح في خططها الجريئة آنذاك هي غير موجودة الآن على الساحة البريطانية، وأن التحديات هي أكبر، وان الإنقسام العالمي هو أعمق، بكلمة أخرى ان تراس سوف لن يكون بامكانها أن تتصرف بالحرية والأندفاع والجراءة التي كانت تتمتع بها تاتشر. ومع ذلك أظهرت تراس في خطاب الفوز أنها بالفعل المرأة الحديدية الجديدة المستعدة لقيادة بريطانيا في مرحلة صعبة للغاية.
قد تكون اهم التحديات المرتقبة لرئيسة الوزراء الجديدة، التي لا خيار أمامها غير المواجهة، تبدأ بغلاء المعيشة وزيادة اسعار الفائدة المصرفية وحجم التضخم الذي وصل الى أكثر من 10%، مع ارتفاع تكلفة الطاقة وتصاعد نسبة الضرائب واجور الكهرباء والغاز، وكلها تتطلب اتخاذ قرارات صعبة من اجل التنمية الاقتصادية وحل الازمات التي ستتراكم في مجال الطاقة والغاز المستورد. وتعرضت برامجها الاقتصادية الى إنتقادات عديدة، (فقد ذكر بعض المختصين في الاقتصاد أن حلول تراس تحتاج الى ما لايقل عن 100 مليار جنيه إسترليني، وهذا رقم غير متوفر لها استنادا الى الموارد الإقتصادية البريطانية الحالية)، كما أن الاضرابات التي تخطط لها النقابات العمالية والعاملين في مجال النقل والتعليم والصحة وموظفو الخدمة المدنية وعمال البريد بحاجة الى حلول أنية تشفي غليلهم. أضف الى ذلك تحدي إعادة ترتيب وتنظيم العلاقات السياسية الداخلية للمملكة، فبالنسبة لاسكتلندا، اعلنت تراس رفضها القاطع تقديم التزام يخص اجراء استفتاء جديد للاستقلال وهو ما تعتزم حكومة اسكتلندا القيام به. ومشاكل الالتزام ببروتوكول ايرلندا الشمالية مع الاتحاد الاوروبي الذي يقضي بإبقاء ايرلندا الشمالية خاضعة لقوانين الاتحاد الاوروبي الاقتصادية لاسباب جيوبوليتكية وسياسية واستقرارية-أمنية، وظلت تراس تعلن عن نيتها بإزالة جميع تشريعات الاتحاد الاوروبي. كما كشفت تصريحات تراس المتصلبة بأنها تفكر في اتخاذ خطوة جريئة في حال فوزها برئاسة الوزراء، بتفعيل فوري للمادة 16 من هذا البروتوكول والذي سيسمح للمملكة المتحدة تعليق كل او جزء من البروتوكول من جانب واحد من اتفاقية الخروج وقبل 15/9، علما بان التخلي عن بعض جوانب هذا البروتوكول قد يفضي الى انتهاك القانون الدولي، والذي يتوقع، إن حصل، ان يؤدي الى ازمات تجارية متفاقمة وصِدام خطير بين الطرفين. (هذا مع العلم ان تراس كانت بالضد من خروج بريطانيا من الاتحاد ولكنها غيرت افكارها فيما بعد بحيث اصبحت مهاجم شرس ومن المتحمسين والمدافعين عن الخروج منه). أضف الى ذلك تحدي إعادة رسم طبيعة العلاقات بين حكومة بريطانيا وحكومة ويلز التي تذكر بعض التقاريرالانكليزية انها كانت ليست على ما يرام في فترة جونسون حتى في اصعب ايام الجائحة!! وفوق كل ذلك فإن على تراس النظر بطريقة إدارة الملف الداخلي-الدولي الانساني المتعلق بالحدود والهجرة وطلبات اللجوء، ففي الوقت الذي تؤكد فيه تراس على أهمية حقوق الانسان وضرورة احترامها، إلا أنها عادت وأيدت السياسات السابقة التي إتبعتها وزيرة الداخلية السابقة والتي كانت مبنية على التشديد في سياسة وقوانين الهجرة القسرية ورفض اللجوء الانساني. بل أنها أكدت ان هذه السياسة ستكون اكثر صرامة في المستقبل
وإذا كانت برامجها وأحاديثها عن اصلاح ومعالجة المشاكل الإقتصادية والازمات السياسية الداخلية لبريطانيا قد أكسبتها شعبية، إلا إن ما تحدثت عنه في مجال السياسة الخارجية والاعلان مبدئياً عن مواقفها الدولية ونهجها الاستراتيجي المستقبلي كانت له ردود افعال مغايرة، فمثلا، وفي سبيل الحصول على دعم اللوبي الصهيوني، أعلنت تراس في رسالة الى أصدقاء أسرائيل من المحافظين بأنها ستدرس مسألة نقل السفارة البريطانية في إسرائيل الى مدينة القدس المحتلة. هذه الرسالة اثارت عدد من المحافظين من بينهم سفراء وقناصل سابقين، الذين كتبوا لها بان قرار كهذا سيزيد من نقمة العرب ومؤيدهم على بريطانيا، هذه النقمة التي لم تنتهي منذ عام 1917 عندما اصدرت بريطانيا وعد بلفور. اعتراض مشابه صدر ضد نيتها، المتماشية بالكامل مع الموقف الأمريكي، عن الاعلان أن الصين تمثل تهديداً للأمن القومي البريطاني والذي يدعو الى اتباع تراس لنهج أكثر حزماً مع بكين لتصبح بوضع مماثل مع روسيا في خانة “تهديد خطير”. وهذا القرار المستقبلي اذا ما اتخذ فإنه يعني انه لن تكون هناك شراكات اقتصادية مع الصين وسيتطلب حسب منتقديها ان تبحث بريطانيا عن اسواق جديدة للاستثمار لمواجهة استراتيجية الصين ومبادرتها المعروفة بالحزام الاقتصادي وطريق الحرير الذي انتهجته لتوسيع امكانياتها العالمية. ومن منطلق الواقعية-البراغماتية في السياسة الدولية وصفت تراس المملكة العربية السعودية بأنها “شريك مهم للمملكة المتحدة” ودافعت عن هذه الرؤية بقولها “ان الحاجة الى مصادر الطاقة البديلة لمواجهة روسيا يجب ان تكون الاولوية… لا سيما واننا لا نتعامل مع عالم مثالي نحتاج فيه الى اتخاذ قرارات صعبة”، وهذا التوجه قد يفضي الى توقع زيارة جديدة لتراس وهي بمنصب رئيس الوزراء الى منطقة الخليج وفق هذه الاسس المصلحية. كما افصحت تراس بأنها ملتزمة بالوقوف بوجة سعي ايران لامتلاكها السلاح النووي وانها تجد في المفاوضات الحالية للعودة الى اتفاق 2015 فرصة اخيرة لايران من اجل الانضمام للاتفاق، وذكرت بهذا الصدد “اننا مصممون على العمل مع حلفائنا لمنع ايران من الحصول على أسلحة نووية”. وفي الحديث عن السلاح النووي وتصاعد خطر حدوثة بعد ازمة اوكرانيا، ابرزت تراس قوة شخصيتها التاتشرية لعهد بريطاني قيادي جديد على اتخاذ قرارات مهمة صعبة مسؤولة ركيزتها الدفاع عن المملكة، وعلقت على ذلك حينما وجه لها سؤال عن امكانية الضغط على زر استخدام الاسلحة النووية؟ كان ردها السريع وبدون اخذ وقت للتفكير: “اعتقد انه واجب مهم لرئيس الوزراء وأنا على استعداد للقيام بذلك”.
وفيما يخص العلاقات مع الولايات المتحدة الامريكية يجد المختصين من الباحثين وصناع القرار الاميركان بأن تراس وزيرة خارجية متقلبة وغير واضحة وذات مواقف متأرجحة بين رؤيتين غامضتين. ألا إن اقتدائها بمارغريت تاتشر في حملتها الانتخابية لرئاسة الوزراء هدأ من روع الديمقراطيين وكسبت من خلاله تأييد الجمهوريين وطمأن البيت الابيض في إمكانية رسم علاقة طموحة مستقبلية بين الجانبين مثلما فعل جميع المحافظين الذين سبقوها. خصوصاً وأن توقعيها اتفاقية أكواس Aukus مثلاً، مع استراليا لتزويدها بالتكنولوجيا اللازمة لبناء غواصات نووية، لغرض الوقوف مع الولايات المتحدة بالضد من روسيا والصين وتحجيم ارادتهما، كانت دلالة على سياسة الانحياز للولايات المتحدة، (حتى وان أغضب ذلك اوربا وبالذات فرنسا المتضرر الأول من هذا الإتفاق). وعززت تراس هذا الامر بدعوتها الى تعاون بريطاني أمريكي مشترك لضمان خسارة بوتين في أوكرانيا. وعلى ما يبدو ان السياسة البريطانية في عهد وزارتها ستستمر بدعم الحل العسكري في اوكرانيا مادياً وتسليحياً مع استمرارية فرض العقوبات على روسيا، كما فعل سلفها، لا سيما وانها تعهدت برفع زيادة الانفاق الحكومي الدفاعي الى 3% من الناتج القومي الاجمالي. ولكنها في نفس الوقت أكدت اذا اصبحت رئيسة للوزراء فإنها لن تنشر جنوداً بريطانيين في أوكرانيا ولا تؤيد فكرة التدخل المباشر. ولقد تسببت مواقفها المتصلبة والمتماشية مع السياسة الأمريكية الى شن جملة انتقادات ومطالبات بضرورة التفكير في إيجاد حل تفاوضي لهذه الحرب. ومع كل ذلك إلا إن الديمقراطيين المعارضين لخروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي ومنهم الرئيس بايدن وادارته التي تهتم بمسألة السلام في ايرلندا الشمالية، وكذلك رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، عبرا عن قلقهما بشأن نية الحكومة البريطانية تجاهل وتجاوز بروتوكول ايرلندا، الا ان تراس اعلنت عن انها المفاوض المسؤول ولن تذعن لاية ضغوطات. وهذا ما اثار بعض التحليلات التي استشرفت توتر وقلق بين بروكسل وبريطانيا من جهة، وبين المملكة والولايات المتحدة من جهة ثانية ناهيك عن تأثر السمعة البريطانية الدولية بعدم الالتزام بالاتفاقيات التي تعقدها.
بالتاكيد يبقى من المبكر التنبوء فيما إذا كانت السيدة تراس سوف تنجح في مهمتها، وفي الفترة القصيرة المتبقية لها في الحكم (أقل من سنتين حتى يحل موعد الإنتخابات القادمة عام 2024)، إلا أن كل الأنظار ستبقى مركزة عليها لمراقبة فيما إذا كانت قادرة على تحقيق ما تعهدت به في القضايا التي تمس الحياة اليومية للناس ومعاناتهم الإقتصادية أولاً وكيف ستوظف سياستها الدولية-الخارجية لخدمة هذا الامر ثانياً. هذا هو المحك الاساسي الذي سيقرر فيما اذا كانت هي وحزبها قادرين على الإستمرار في الحكم، او أن تجربة حزب المحافظين الحالية ستنتهي بإنتخابات مبكرة نتيجة لإضرابات لا تستطيع حكومة تراس ان تعالجها، او غلاء في الأسعار لن يكون بمقدور شرائح كثيرة من المجتمع التاقلم معها.
*أكاديمية وكاتبة عراقية
1704 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع