أحمد العبدالله
صدّام حسين؛(ودّع البزون شحمة)!!
رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على الواقعة, ولكن لا زلت أشعر بالدهشة والإستغراب, وأسأل نفسي؛ كيف يمكن للرئيس صدام حسين أن يأمن غدر الفرس المجوس وخياناتهم عبر تاريخ طويل ممتد لخمسة آلاف سنة من الصراع العنيف معهم, وهو الذي خبرهم وكان دائم التحذير للعراقيين من غدرهم وخسّتهم, ويذكّرهم بقوله؛ إياكم أن تغمضوا عيونكم أو تنصرف أذهانكم عن الذئب الفارسي الغدّار. فإذا به يرسل أثمن طائراته وسلاحه الضارب إلى جارة السوء, والتي دخل معها في حرب ضروس لثماني سنين متواصلة, حتى انتهت بنصر عراقي باهر, ولكنه لم يُستثمر سياسيا. فكيف جرى الذي جرى ؟.
بُعيد اجتياح الكويت, أراد صدام حسين أن يؤمّن ظهره وهو مقبل على حرب مع تحالف دولي بدأ يتشكل سريعا, هو الأضخم من نوعه منذ الحرب العالمية الثانية, وكمحاولة يائسة من قِبَله لكسب إيران لصفه, بعد أن ظن إن الكويت صارت في جيبه, ولا بأس في التضحية بنصف شط العرب. وبشخطة قلم فرّط بحقوق العراق التاريخية والتضحيات الغالية لشعب العراق وجيشه في أطول حروب القرن العشرين معها, فأعلن مبادرة 15-8-1990, وأطلق سراح جميع الأسرى الإيرانيين بدون أن يشترط عليهم المقابلة بالمثل, وقبِل بالتنازل عن نصف شط العرب والعودة لمعاهدة 1975, والتي اشتعلت الحرب بسبب تنصّل إيران من الالتزام بها. وخاطب الرئيس الإيراني؛رفسنجاني برسالة مفتوحة, قائلا له؛(لقد أعطيناكم كلَّ ما طلبتموه)*!!.
في الثامن من شهر كانون الثاني 1991, وقبيل أيام قليلة من بدء العدوان الثلاثيني, توجّه نائب رئيس مجلس قيادة الثورة؛ عزت الدوري على رأس وفد رسمي, حاملاً رسالة الرئيس صدام حسين للقيادة الإيرانية يطالب فيها بوقوف إيران إلى جانب العراق في معركته مع(الشيطان الأكبر), والقول للإيرانيين؛ (إن شعاراتكم الثورية تُرفع الآن في بغداد)!!. وخلال الزيارة تم الاتفاق على إيداع قسم من طائرات الخطوط الجوية العراقية في إيران للحفاظ عليها من التدمير. ويُلاحظ إن تشكيلة الوفد لا تناسب هكذا مهمة, فعزت الدوري لا يملك الخبرة والدهاء الذي يمكنه من مجاراة الإيرانيين, كما إنه فشل في مهمات سابقة كُلّف بها, مثل مؤتمر جدة وزيارته للسعودية بعد احتلال الكويت, وكانت هذه الزيارة لطهران هي (ثالثة الأثافي)**!!.
خلال الزيارة انفرد رفسنجاني بعزت الدوري في لقاء مغلق محاولاً فيه استدراجه للبوح بنوايا العراق فيما يخص الإنسحاب من الكويت من عدمه, والإيحاء له بأن إيران تقف مع العراق, ولكنهم لا يريدون المجاهرة بهذا الموقف تجنبا للحرج, كما حثَّه على التمسك بالكويت وعدم الإنسحاب منها, في خطة خبيثة لزيادة تورط العراق والغطس أكثر في الرمال الكويتية, ويبدو إن الدوري قد ابتلع الطُعم. فرفسنجاني يعتبر أكثر المسؤولين الإيرانيين خُبثا ودهاءاً, وهو ثعلب السياسة الإيرانية الماكر, التي تتسم بالباطنية وتستند على (التقيّة) والمراوغة.
ولأن الغريق يتشبث ولو بقشة, فيبدو إن الخدعة الإيرانية لم تنطلِ على عزت الدوري فقط, بل انطلت على صدام حسين أيضا, عندما سمع كلاما من نائبه يفيد بوقوف الإيرانيين معهم (في خندق واحد)!!. وهو كلام أقرب للأماني منه للواقع. وتم التصرف لاحقا واتخاذ القرارات على ضوء هذا الوهم, أو التصوّر الخاطئ. فالفرس لم ينسوا ثأرهم مع العرب المسلمين الذين قوّضوا امبراطوريتهم منذ 1400 سنة, فكيف يمكن الاعتقاد ولو للحظة واحدة إنهم يمكن أن ينسوا هزيمتهم المرّة وتجرّع دجالهم خميني كأس السم, ولما يمضِ عليها سوى أشهر قلائل, والحرب بينهما لم تضع أوزارها بعد, من الناحية الرسمية ؟!!.
وقبيل بدء العدوان, أُرسلت الطائرات المدنية إلى إيران ومن ضمنها طائرة الإنذار المبكر؛(عدنان 1), وفي الإسبوع الثاني من الحرب, وبعد أن اتضح إن سلاح الجو العراقي لا يمكن أن يواجه آلاف الطائرات المتطورة للتحالف, تم الإيعاز للطائرات العراقية المقاتلة بالتسلل والهرب إلى إيران, فوصل قسم منها وأسقط بعضها من قبل طائرات التحالف خلال هروبها. ورغم إن المذكرة الموقعة مع الإيرانيين أشارت فقط للجوء الطائرات المدنية, على أساس إن الطائرات الحربية ستكون ضمن خطة القتال, ولكن تم الإستناد على المذكرة تلك, وتهريب الطائرات المقاتلة أيضا, بالرهان على(كلمة شرف)!! من عديمي الشرف, أو (حُسن النيّة) مع قوم يُعدُّ النفاق حجر الزاوية في دينهم المجوسي, بحيث إن إبليس يغدو تلميذاً صغيراً مقارنة بهم.
وكانت النتيجة؛ أكثر من(150) طائرة من أحدث الأنواع, والتي تم اقتطاع أثمانها الباهضة من قوت الشعب المسكين, وقعت غنيمة باردة بمخالب الذئب الإيراني الخؤون الغدّار, ورفض الفرس المجوس إعادتها للعراق حتى يومنا هذا, واعتبروها جزءاً من (تعويضات الحرب)!! التي يطالبون العراق بدفعها لهم. وأعادوا طلائها وأدخلوها في الخدمة في سلاحهم الجوي, وبعضها باعوه لحكومة المالكي بمبالغ كبيرة خلال الحرب على داعش في 2014. وهذا التصرف ليس غريبا على هؤلاء القوم, فهم جُبلوا على الغدر والخيانة ونقض العهود, وهي جزء لا يتجزأ من طباعهم, وممتزجة بالشخصية الفارسية عبر التاريخ. ولكن العتب على (قيادتنا الرشيدة)!!, التي صدّقت بأقوالهم, فكانت كالذي يؤمّن غنمه عند ذئب, أو كمن؛(ودّع البزون شحمة)!!.
وتحدّث الطيارون الذين قادوا طائراتهم إلى المطارات الإيرانية, إن الإيرانيين تعاملوا معهم بخشونة, ووضعوهم في سيارات وجالوا بهم على الأهداف التي ضربتها الطائرات العراقية خلال حربنا الدفاعية معهم, والتي لم يتم إعمارها بعد, وقالوا لهم؛ هذا ما جنته أيديكم!!, وبعد ذلك تركوهم عند الحدود. ومن المؤكد إنه لولا المهابة التي لا زالت في قلوب الإيرانيين تجاه العراق والعراقيين, وإن الحرب مع التحالف لم تكن قد حُسمت بعد, لكانوا قد احتجزوهم, بل ولنفذوا فيهم حكم الإعدام في جزيرة خرج***, انتقاماً منهم, وكما فعلوا ذلك لاحقا بعد احتلال العراق.
ويروي الفريق نزار الخزرجي إنه حين التقى بالرئيس صدام حسين في أواخر شباط 1991, في أحد المقرات البديلة في بغداد, عندما استدعاه وكلّفه بقيادة ستة فيالق لمواجهة الغزو الأمريكي المحتمل من جهة جنوب غرب الفرات, فعاتب الخزرجي صدام بمرارة قائلا له؛ يا سيدي كيف أرسلتَ طائراتنا إلى إيران, والبارحة كنّا في حرب معهم, أما كان الأجدى إخفائها في أماكن حصينة أو مموّهة داخل العراق؟!!. فنظر إليه الرئيس بأسى وأجابه متأثراً؛ لم يقل لي أحد مثل هذا الكلام!!. وهكذا خسرنا ثروة غالية, ودرع الوطن الحصين وذراعه الضاربة في الملمات, بقرار إرتجالي متسرّع وغير مدروس, وهو مزيج من السذاجة وسوء التقدير والتفرّد وقصر النظر. ولا أريد أن أستخدم كلمات أقسى من ذلك.
................................................
* يروي الكاتب وعميد الأسرى العراقيين؛ الأستاذ نزار السامرائي, والذي أمضى 20 سنة في أقفاص الأسر الخمينية, إنهم لما سمعوا قول الرئيس هذا لـ(رفسنجوني), انخرطوا في بكاء مرير, وأدركوا إن تضحياتهم قد ذهبت سدىً!!.
** يذكر سعد البزاز في كتابه؛ الجنرالات آخر من يعلم, إنه خلال التهيئة لكتابه الأول؛حرب تلد أخرى, تقدم بمذكرة تحريرية لمقابلة عزت الدوري, وكان في نيته أن يسأله عن تلك المهمات الفاشلة. ويبدو إن الدوري قد فطن لذلك, فاعتذر عن لقاء البزاز, وعلّق على أصل الطلب؛(لا لقاء ولا تصريح حتى تضع أم المعارك أوزارها)!!.
*** بعد الإحتلال الغاشم, صبَّ الفرس المجوس نار حقدهم المتأججة على طياري العراق الذين جرّعوه مُرّ الهزيمة, فقتلوا غدراً بواسطة ميليشياتهم الإجرامية, أكثر من (182) طياراً وفق إحصاءات موثقة. وكانوا يتركون قصاصة ورقية على جثث بعضهم مكتوباً عليها؛ هذا جزاء من قصف جزيرة خرج!!.
2970 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع