د.علي محمد فخرو
سلوك قلق جديد
المتابع للنقاشات التى تدور عبر شبكات التواصل الاجتماعى العربية سيلاحظ فى الحال أن أغلبية المتناقشين يتصرفون وكأنهم خبراء ضليعون فى الموضوع الذى يجرى النقاش بشأنه. إنهم يؤكدون انتشار وترسخ ظاهرة يتحدث عنها الغرب بقلق متزايد: ظاهرة موت الخبير، موت العالم المتمكن من المعرفة، إذ أصبح الكثيرون فى الغرب، من بين الناس العاديين، لا يثقون فى العالم الخبير، وإنما فى قدراتهم وفهمهم وتجاربهم الشخصية.
وقد بدأ خبراء الطب والقانون والعلوم النفسية وغيرها من حقول المعرفة يشيرون إلى ظاهرة عدم استماع الناس العاديين لآرائهم العلمية ونصائحهم، ويفعلون ما يرونه صحيحا اعتمادا على إشاعات أو ثرثرات أو مصادر مشكوك فى كل محتوياتها.
ولذلك فأنت لا تسمع على شبكات التواصل أسئلة تستفسر، ولا تراجعا أو شكوكا فيما قاله المتحدث، وإنما تسمع فقط وثوقا تاما لا يتزحزح فى ما يقوله المتحدث. وهذا يحدث على الأخص عند مناقشة المواقف السياسية أو العقائد المذهبية أو محاولة فهم الأوضاع الجارية. والنتيجة هى أن تصبح المناقشات غير منضبطة ولا معتمدة على معلومات علمية، وتنتهى بصراخ وقطيعة ودون أى حسم معقول لموضوع المناقشة.
سل الأطباء وسيخبرك بعضهم بأن مرضاهم أصبحوا يخالفونهم الرأى والنصح، وسيحيلون الطبيب إلى مصدر قرأوه على شبكة الإنترنت وليس إلى مقال فى مجلة طبية محكمة. وسل علماء النفس بشأن لجاجات بعض الآباء والأمهات تجاه تشخيصهم لأمراض أطفالهم أو لسلوكيات أحفادهم، إذ إنهم أدرى بأحوال أطفالهم وأحفادهم من طبيب أو عالم النفس. وأصبح كل من هب ودب له آراؤه وقناعاته حول الأغذية الضارة وحول مياه الشرب والنوم ونوع وكمية الرياضة.
ما الذى حدث؟ أغلب الظن هو الانفجار المعرفى السطحى والمستعمل بانتهازية فى الشبكات الإلكترونية والتواصلية، وأنه أيضا نشر المقولة الشعبية بأن المعرفة قابلة لأن يفهمها ويستعملها كل البشر وأنها ما عادت حكما على أحد. الجميع متساوون فى الفهم وفى الاستفادة، وأنه أيضا كرد فعل لفضائح بعض الخبراء والعلماء العلمية والأخلاقية والضميرية، بل قد يكون أيضا بسبب فقدان الكثيرين ثقتهم فى السياسيين ومؤسسات الحكم ومراكز البحوث ومؤسسات الإعلام وحتى مؤسسات الدين ليصبح الشك وعدم الثقة فى كل شىء أحد أبرز سمات العصر الذى نعيش. دعنا نذكر بالذين شككوا فى وجود فيروس كورونا ــ 19 وأكدوا أنها ليست إلا مؤامرة، وبالذين كتبوا وقالوا بأن اللقاحات ضد كورونا ليست إلا حبكة استغلالية لزيادة ثروات شركات الأدوية، ورجوعا إلى الوراء نذكر بالذين شككوا فى وجود فيروس الإيدز. نحن هنا لا نتحدث عن الألوف وإنما نتحدث عن الملايين من بشر العصر الذى نعيش.
نحن الآن فى عصر الانتشار الهائل للمعلومات، المتناثرة والمتناقضة والمثيرة لأنواع لا حصر لها من العواطف والأفكار البدائية الخاطئة، التى لا تؤدى إلى المعرفة العقلانية المتوازنة المتواضعة. أما الحكمة فى الحياة العامة وحياة الجماعات فقد أصبحت من النوادر.
لا أحد ينكر أن العلماء والخبراء يمكن أن يرتكبوا الأخطاء. لكن ذلك لا يبرر المكانة التى يريد البعض أن يوصلهم إليها من خلال الاعتقاد الأعمى بالتطورات الهائلة فى المعلومات وفى وسائل انتشارها وجعلها تقترب من أن تكون من المقدسات الشعبية العامة.
مقاومة هذا المرض الجديد، مرض علاقة البشر العاديين بالخبراء والعلماء وشعور البعض بأن تطورات العصر المعلوماتية والتكنولوجية ستغنى عن الحاجة للآخرين، يحتاج أن يتعامل معه من خلال الوقاية، وهذه يجب أن تصبح من مهام المدرسة والجامعة لتضاف إلى مهامهم الكلاسيكية السابقة. التعامل بالمعلومات لئلا ينقلب إلى سلوكيات مضحكة أو مضرة يحتاج أن يكون فى قائمة مسئوليات هذا العصر الذى لا يتعب من توليد المشاكل.
1115 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع