د. أكرم عبدالرزاق المشهداني
مستشار قانوني جنائي
بصمة الصوت ودورها وقيمتها في الإثبات الجنائي
الاساس العلمي لبصمة الصوت:
تعد تقنية التسجيل الصوتي من الوسائل التقنية الحديثة التي انتشرت في أوساط الناس من خلال أجهزة متنوعة ومختلفة في حجمها ودقتها وطبيعة عملها. وتقوم (بصمة الصوت) على حقيقة علمية مفادها أن لكل إنسان نبرة صوت تميّزه عن الآخرين إذ لا يوجد شخصين متطابقين تماماً في الأمواج الصوتية التي تنبعث منهما، والحقيقة الأخرى أن لكل إنسان نظامًا عصبيًّا فريداً يتحكم في الجهاز الصوتي، وأنه كما أنّ هنالك بصمة لأصابع اليدين وبصمة للعينين فإن هنالك ما يُعرف ببصمة الصوت التي من خلالها يمكن تمييز شخص ما عن أشخاص آخرين. واليوم صار الصوت وسيلة في كثير من اجهزة الموبايل لتشخيص صاحب الجهاز والسماح بدخوله وتشخيصه لهوية الشخص من خلال صوته فضلا عن التشخيص بواسطة صورة وملامح وتفاصيل الوجه أو من خلال التوقيع.
بصمة الصوت والصورة:
يستخدم الكثيرون منا اليوم الهاتف المحمول للحصول على معلومات شخصية وسرية للغاية عند الاضطرار للتسوق عبر الإنترنت أو للاستفسار عن الرصيد البنكي، أو القيام بتسديد بعض الفواتير الحكومية مثل فواتير الكهرباء أو الهاتف، أو حتى تحويل الأموال من حساب لآخر، وبعد جهود عظيمة قام بها الباحثون في مجال البصمات توصلوا لما يسمى ببصمة الصوت، وذلك للتغلب على الاحتيال واستغلال بعض المواقع المفبركة لأرقام سرية وخطيرة للغاية، فابتكروا جهازًا يتم من خلاله تسجيل نبرة وطبقة الصوت للشخص المستخدم، فهذه التقنية تعتمد على الحبال الصوتية وتجويف الأنف والفم، ويسجل الذبذبات الترددية للصوت بسرعة 1/1000 من الثانية، فكل بصمة صوت تحتوي أكثر من مئة عنصر يمكن التعرف عليها وتسجيلها باستخدام معادلات حسابية عالية الدقة، وبذلك استغل مهندسو الصوت والمصممون ذلك في ابتكار هواتف محمولة لا تعمل إلا باستخدام نبرة صوت حاملها كون الصوت عبارة عن شكل ديناميكي من القياس الحيوي وليس شيئًا جامداً كبصمة اليد فيصعب عمل نسخ رقمية منه.
ما يميز البصمة الصوتية عن غيرها من البصمات
1) أنها لا تحتاج إلى أجهزة متخصصة لالتقاط البيانات الحيوية من الشخص مثل بصمة الأصبع وبصمة العين، فسماعة الهاتف أو لاقط الصوت المرفق مع أجهزة الحاسوب يقوم بالمهمة.
2) إمكانية التعرف والتحقق من هوية الشخص عن بعد.
3) ساعدت التقنية الأشخاص الذين يعانون من عدم حفظ الأرقام السرية.
4) سرّعت إجراءات التحقق من الهوية؛ فالتطبيقات المبنية على البصمة الصوتية لا تحتاج لموظف خاص لاستقبالها فالجهاز وحده كفيل بذلك.
5) تعتبر البصمة الصوتية طريقة آمنة لمتابعة المُستخدِم في جميع العمليات والتحقق بأنه الشخص نفسه الذي يحق له استخدام هذه العمليات، بخلاف ما يحدث في كلمات المرور السرية التي تسمح للمستخدم كامل الصلاحيات لعمل أي عملية أو الدخول إلى النظام بمجرد معرفة كلمة المرور.
طرق تحليل الصوت:
في الميدان الجنائي هناك ثلاث طرق مستخدمة لدراسة التسجيلات الصوتية ومقارنتها بصوت من نسبت إليه، وتتلخص هذه الطرق في الآتي:
الطريقة الأولى: الطريقة السمعية (العادية)، وذلك من خلال قيام أشخاص مختصين بالاستماع إلى تسجيلات صوتية بغية الربط بين صوت معين وفرد معين تماما كما تقارن التوقيعات المشبوهة مع نماذج توقيعات سابقة لتقرير المطابقة عن الاختلاف.
الطريقة الثانية: الطريقة الآلية، وتتضمن استخدام وسائل آلية أو نصف آلية غالباً ما تعمل على الحاسوب للربط بين الصوت وصاحبه، حيث يتم تزويد أجهزة الحاسوب ببرامج من شأنها تحليل الصوت البشري ومطابقته مع أصوات أخرى يتم إدخالها عند الحاجة، وعليه يمكن اعتبار الطريقة الآلية أكثر موضوعية من الطريقة السمعية؛ لتحررها إلى حد كبير من احتمالية التحيز البشري في اتخاذ القرار.
الطريقة الثالثة: الطريقة الفيزيائية المرئية وتقوم على صور ورسوم ينتجها المخطط المرئي للصوت (جهاز السبكتروغراف لتحليل الاصوات ومطابقتها Spectograph ) حيث تقدم هذه الصور والرسوم تحليلاً لكل صوت تظهر من خلاله عناصر (فيزيائية الصوت) كمقدار الذبذبة، وحِدّةُ الصوت، ونبراته.. إلخ، ثم يقوم متخصصون في علم الصوتيات بدراسة هذه الرسوم وتحليلها.
ويرى المختصون أن الطريقة الثالثة هي الأدق؛ لقيامها على قواعد وضوابط حددها أهل الاختصاص وقرروها في (بصمة الصوت)، وتبين هناك أن المطابقة لا تعد قرينة قوية في الإثبات ولا يمكن الاعتماد عليها لوحدها، وإذا كان هذا في الطريقة المرئية مع دقتها فغيرها من باب أولى.
مشروعية وحجية تسجيل بصمة الصوت:
ترى ماذا لو تم سماع شخص من خلال التسجيل يُقرّ بدَين لآخر، أو سُمِعَ وهو يُهدد غيره بالقتل ونحو ذلك، فهل يمكن اعتبار هذا التسجيل في الإثبات ومن ثم يحكم بترتب الآثار الشرعية على من نسب إليه التسجيل وهل يمكن اعتبار هذا التسجيل قرينة قوية يثبت بها ما تضمنه الشريط من إقرار ونحوه؟
ما زال الإثبات الجنائي يشهد جدلاً مستمراً حول حجية التسجيل الصوتي في إثبات الجرائم ونسبتها الى المتهمين في ارتكابها، وأول العقبات التي تواجه مشروعية الإثبات بالنسبة للتسجيل الصوتي هو ما يذهب إليه الفقهاء الذين يعارضون الإثبات من خلال التسجيل الصوتي، إذ يرون أن تسجيل صوت الأشخاص دون علمهم يعتبر خرقاً واضحاً لحقهم في الخصوصية وشكل فاضحاً من أشكال التلصص على سرية أحاديثهم سيما حين تجري التسجيلات من دون علمهم.
حجج المعارضين للاعتداد بالاصوات:
ذهب بعض الباحثين لعدم الاعتداد بالتسجيل الصوتي في الإثبات، وأنه لا يعد قرينة قوية يُحكم بموجبها، وقد عللوا ذلك بما يأتي:
أولاً: أن بعض الأصوات تتشابه في الظاهر، فقد تسمع صوتاً فتظنه لفلان وهو ليس كذلك، مع أن المتحدث لم يقصد تقليد صوت الآخر ومحاكاته.
ثانياً: أنه يمكن للشخص أن يُقلد صوت شخص آخر فيوهم السامع بأن المتكلم فلان والحقيقة أن المتكلم غيره، وهذا ما يشاهد ويسمع في كثير من الأحوال، فبعض الأشخاص عنده المقدرة على تقليد أصوات الرجال والنساء والأطفال، ويُخيّل للسامع أن حواراً يجري بين مجموعة كثيرة، والواقع أنها صادرة من شخص واحد.
ثالثاً: ما يشوب التسجيل من النواحي الفنية فقد أصبح من الممكن فنياً وببساطة – ولو من شخص قليل الخبرة – إدخال تبديل، أو تغيير، وتقديم كلام، وتأخير آخر، وهذا ما يسمى عند أهل الاختصاص بعملية (المونتاج) وبذلك أصبح من الميسور تغيير مضمون التسجيل، فيتغير التسجيل من إنكار للتهمة إلى اعتراف بها.
رابعاً: عموما فأن التسجيل لا يتم إلا بهتك الأستار المنهي عنه شرعاً، فهو اعتداء على الناس، واستراق للسمع، فلا ينبغي اعتبار نتائجه ردعاً للمعتدين.
خامساً: أن عدم اعتبار التسجيل حجة لا يعني استبعاد التسجيل وعدم الالتفات إليه، بل لا بأس من الاستفادة منه في مجال التحقيق والبحث في القضية، كما أن عرض هذا التسجيل على المدعى عليه قد يكون سبباً في اعترافه طواعية بمضمونه فيؤخذ عندها بإقراره.
حجج المؤيدين للاعتداد بالأصوات في الاثبات الجنائي:
يرى اتجاه آخر من الفقهاء أن حماية أمن المجتمع والتوصل الى مرتكبي الجرائم أولى من حماية خصوصية الأفراد وأن حرية الفرد يجب أن تنحني أمام المصلحة العامة، وطالما أن المجرمين طوَّروا من أساليب ارتكاب جرائمهم فيجب أن يواكب ذلك تطوراً في استخدام وسائل الإثبات، ولا ضير في اللجوء الى التسجيلات الصوتية كوسيلة من وسائل الإثبات.
إن بصمة الصوت باتت اليوم دليلاً علمياً يقوم على أسس علمية دقيقة لا يمكن نقضها إلا بوسائل علمية، ولا تزال تخضع لمبدأ الاقتناع القضائي؛ فتستبعد إذا لم تقتنع بها محكمة الموضوع، وتأتي التوصية بأن يكون هناك تعزيز لدور بصمة الصوت في الإثبات الجنائي، خصوصاً أننا نسير نحو تقدم علمي سريع، نحتاج إلى مواكبته قدر المستطاع دون أن يكون هناك إهدار للعدالة أو إغفال للحقائق العلمية.
ولكن من اهم الضوابط والمعايير العلمية المحددة لأسس قبول بصمة الصوت باعتبارها دليلاً في العملية القضائية، هو أن تكون التسجيلات قد ضبطت وفق الأصول والضوابط العلمية والقانونية. وأن الدليل المستمد من مقارنة الأصوات يمكن اعتباره مجرد قرينة يخضع تقدير قوتها الإثباتية لتقدير القاضي.
ان الواقع العملي في العراق يميل الى أن محاكم الجزاء تستند في إثبات الجرائم التي تنظرها الى ما يقدم أمامها من تسجيلات صوتية لأصوات سُجلت بناءً على قرارات مسبقة صادرة منها أو ما يقدم أمامها من ذوي العلاقة بحسب الأحوال، إلا أن الإثبات من خلال التسجيل الصوتي في العراق يخضع لمجموعة ضوابط قانونية وأخرى فنية، فالضوابط القانونية تقتضي أن يكون التسجيل قد جرى بأمر قضائي من المحكمة، كذلك أن لا يكون التسجيل قد تم باستخدام أي وسيلة من وسائل الإكراه، أما الضوابط الفنية فأهمها أن يكون المقطع الصوتي خالياً من التلاعب والإضافة وأن يثبت عائديته لشخص المتهم من خلال إرسال المتهم مع التسجيل الصوتي إلى خبراء الأدلة الجنائية لإجراء المضاهاة والمطابقة الصوتية ومن ثم تحديد عائدية الصوت بموجب تقرير فني معد من قبل خبراء مختصين.
وينبغي الإشارة الى ان الاستناد للتسجيلات الصوتية وإفراغ محتواها بموجب محاضر أصولية هو إجراء ينضوي ضمن إجراءات التفتيش التي نص عليها قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي بحثاً عن أدلة الجريمة في المادة 74 التي أجازت لقاضي التحقيق أن يطلب من أي شخص تقديم ما لديه من أشياء أو أوراق إذا كانت تفيد التحقيق، والمادة 75 التي أجازت لقاضي التحقيق تفتيش الأشخاص والأشياء والأماكن بحثاً عن أدلة الجريمة.
1024 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع