نزار جاف
ذات يوم عندما يسافر الليل
ماأن يسدل الليل بدجاه ولايبقي للنهار من أثر، فإن في هذا الدجى الذي يتهادى مثل مور هادئ يداعب سواحله بقبلات من أمواجه المتراقصة في کنف هدأة وسکون يضاهي سکون النساك والزاهدين، فإن تلك القلوب التي عانت الامرين من ضياء النهار بکظم فيض نبضها المتلهف للقاء ترنو له على أحر من الجمر، تتهافت في مروج وأفانين دجى الليل العذب.
الليل، ذلك الموال الذي لولاه لما کان هناك من معنى وقيمة وإعتبار للنهار، ظلام الليل ودجاه الآسر هو الذي أضفى على الدنيا ومافيها فتنة ليس من بعدها فتنة، أجمل الغزل وأروعه بالحبيبة کان في أحضان الليل ودجاه، وألذ القبلات وأشهاها کان في غياهب سدف أشبه مايکون بطلسم لايمکن فك أسراره.
الليل، لايقرع الابواب ولايقتحم النوافذ کما يفعل النهار، وإنما يهل کملك وکحورية قادمة من السماء فينهي ضجيج وصخب النهار بيواقيت دجاه التي في صمتها وسکونها ألف کلام وحديث وتعبير وجداني، في النهار يصرخ العالم ويرفع صوته بسبب أو دون سبب، أما في الليل، فإن العيون والشفاه تتحدث بلغة الوجد التي تأبى الاصوات وترفضها.
الليل، الذي کان ملاذ العشاق والشعراء وکل المتيمين بأسرار الوجود والحياة والکون بحذافيره، لأن کلهم يعلمون إن السواد کان الاصل وليس الضياء ولله درها ماأجمل العيون السود، وإن ظلام الليل أتاح لأعذب وأجمل قصص العشق أن تعبر وتفرض نفسها کأساطير خالدة على التأريخ الانساني المتخم بالمجازر والدماء المراقة مع ضياء النهار.
الليل، الذي جعل العشاق يثملون بخمر دجاه ويغرقون في بحار من تيه لذيذ لامثيل له، هذا الليل هو الصدر والحضن والقلب الحنون الذي يضم إليه کل من له سر أو في طريقه لکي يکون له سرا، وماأتعس حياة من ليس له سر أو أکثر من سر عميق أو حتى شفاف!
الليل، لايغني لکنه الغناء، الليل لايقول شعرا لکنه الشعر، الليل لاينسج أسرارا لکنه أکبر سر، الليل لايعرف العشق غير إنه أکبر عاشق، هذا الليل الذي تهجع في الاغلبية الى نوم وتبقى فيه أقلية تتماهى وجدا وشوقا بين ثنايا دجى الليل وتتحدى النهار وضيائه، فإن هذه الاقلية هي التي تفقه وتعي ماهو الانسان وماهو سره بل وماهو الوجود وماهو السماء والکون وأسرارهما.
ذات يوم وعندما ننهض ونجد إن النهار يصر على البقاء ولايسدل الليل بدجاه في هدأته المعهودة، وعندما نعلم بأن الليل قد بات سافر من جراء قلة سماره، عندئذ، لاعشق ولاشعر ولاغناء ولاأسرار ولاطلاسم ولا ألغاز وأحجية نرتکن إليها عندما نجد أنفسنا في ضائقة أو في ضياع وتيه أشبه بالضياع والتيه الذي تغرق فيه الدنيا حاليا!
1657 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع