لماذا تنعدم ثقافة الاستقالة في وطننا العربي.. وفي العراق بالذات؟ وما هو دور المجتمع في ذلك؟

                                                  

                        د. سعد ناجي جواد


لماذا تنعدم ثقافة الاستقالة في وطننا العربي.. وفي العراق بالذات؟ وما هو دور المجتمع في ذلك؟

يوم امس شهدت بريطانيا هزة سياسية ليست بالهينة ولكنها ليست بالغريبة، تمثلت في اقدام رئيس وزرائها المنتخب على الاستقالة، ورغم انه نجح قبل اسابيع قليلة في ان ينجو من تصويت على سحب الثقة من وزارته. علما بانه لم يتم اثارة اية اعتراضات على شرعية بقاءه في السلطة، لانه حقيقة وصل للحكم بانتخابات عامة ديمقراطية حصل من خلالها على اغلبية مريحة، ومع ذلك فانه فضَّل التنحي بعد سلسلة استقالات تقدم بها وزراء من حكومته كان هو من اختارهم بنفسه، بالاضافة الى انتقادات شعبية لسياساته.

كل هذه الامور اجبرته في النهاية على ان يعيد النظر في مسألة تمسكه بالسلطة ويعلن استقالته. وهذه ليست المرة الاولى التي يستقيل فيها رئيس وزراء بريطاني منتخب بعد ان شعر بانه فشل في تمثيل مصالح ناخبيه او انه اخطأ في اتخاذ قرار ما. لا بل ان التاريخ يعطينا نموذجا اوربيا انصع على هذه الثقافة من تجربة حكم الرئيس الفرنسي الاسبق شارل ديغول. فهذا الرجل (الذي قاد حرب تحرير فرنسا من الاحتلال النازي)، جابه معارضة لافكاره الاصلاحية بعد التحرير في بداية الخمسينيات، فقرر الانسحاب من اي دور رسمي في الدولة وقال مقولته الشهيرة انا ذاهب الى بيتي اذا ما احتجتوني تعلمون اين تجدوني.
وبالفعل ذهب له رئيس الدولة عام 1958 وطلب منه تشكيل حكومة جديدة، وفعل ذلك. وطرح دستورا جديدا واصبح رئيسا للدولة، ونجح في جعل فرنسا قوة اوربية مرة ثانية. في عام 1968 طرح جملة اصلاحات جوبهت بمعارضة طلابية جديدة قرر بسببها ان يعرضها على استفتاء عام، وجاءت النتيجة مؤيدة لاصلاحاته، لكنه قال ان نسبة الموافقة كانت قليلة وليست كما كان يأمل فقرر الاستقالة، وذهب الى بيته حتى توفاه الله. هذه نماذج قليلة لقادة حرصوا على سمعتهم وتاريخهم قبل حرصهم على مصالح اوطانهم.
في العودة للحديث عن الحدث البريطاني فان ماجرى يوم امس لابد وان يثير مرة اخرى تساؤلا مشروعا ومهما مفاده لماذا يقدم المسؤول في الديمقراطيات العالمية، سواء كان رئيسا للوزراء او وزيرا او نائبا، على الاستقالة بمجرد ما يشعر ان الثقة به قد اهتزت، حقا او باطلا، بينما يصر المسؤولون العرب على البقاء في مناصبهم ويرفضون الاستقالة حتى وان فشلوا فشلا ذريعا في اداء واجبهم الوظيفي او خرجت ضدهم تظاهرات كبيرة تشكو فسادهم، (باستثناء حالتين نادرتين استقالة خالد الذكر الرئيس جمال عبد الناصر اعترافا بفشل سياسته حتى تلك اللحظة، ثم اصرت الجماهير على اعادته، والنموذج الثاني الذي اعطى المثل الاكبر في احترام الكلمة، الرئيس السوداني عبد الرحمن سوار الذهب). وربما يكون النموذج العراقي في هذه الايام هو الاسوا في هذا المجال. لا بل النموذج العراقي يظهر حالة غريبة نجد فيها ان السياسي الذي فشل في كل شيء يصر على العودة للسلطة بكل الوسائل حتى وان كانت غير مشروعة او قد تسيل بسببها دماء كثيرة.
في محاولة سريعة لتفسير هذه الظاهرة يمكن القول ان السبب الاول يكمن في، او يرتبط ارتباطا وثيقا بالتنشئة السياسية والاجتماعية وبالتقاليد المستحدثة التي جاءت نتيجة لتفشي ثقافة البداوة والتجهيل والتخلف واستخدام الدين لاغراض معينة من ناحية، ومن ناحية اخرى سيادة ثقافة الحرص على المنصب، التي تخلق الاعتقاد عند الفاشلين بانه يضفي على صاحبه اهمية واحترام كاذب حتى وان كان لا يستحقه. والاكثر فانها مرتبطة بالشعور بالنقص الذي يصور للمسؤول ان المنصب هو الذي يضفي عليه الاحترام، بينما ينظر الى الاستقالة على انها هزيمة وفشل له وليس حالة ديمقراطية، ولذلك فهو يتصور انه مهما فشل في اداء مهامه فانه يبقى افضل واجدر من غيره في شغل ذلك المنصب. وهناك سبب اخر هو انه يخشى اذا ما اطيح به فان المحاسبة والسجن سيكونان في انتظاره ولهذا يحاول ان يحمي نفسه لاطول مدة ممكنة، او حتى يتمكن من الهروب خارج البلد.
في الديمقراطيات العالمية يسارع الوزير والمسؤول الكبير الى الاستقالة اذا ما ظهر اي خلل في قيام وزارته باداء واجبها بالصورة المطلوبة، لانه تربى على ان ينظر الى هذا الامر على اساس انه فشل شخصي يضر بسمعته وسمعة عائلته ويمكن ان يظل يلاحقه طوال حياته، وانه باستقالته وانزواءه عن العمل العام انما يكون قد اعتذر لمن انتخبه عن الخطأ الذي ارتكبه، او اعتراف بانه قصر في متابعة عمل دائرته بشكل سليم، حتى وان كان الخطأ قد اتى من اطراف اخرى في دائرته. بينما المسؤول العراقي اليوم يحاول جاهدا ان يجد كبش فداء من بين موظفيه، او من الذين يعملون تحت امرته، لكي يرمي عليهم شبهة التقصير ويبقى هو جالس في منصبه، والسبب الاخر في هذا التفكير هو ان المنصب بالنسبة مسؤولي اليوم هو ليس تكليفا لخدمة عامة وانما تشريفا ونفوذا، والاهم فانه يمثل بابا واسعا للسحت الحرام، خاصة في حالة انعدام تقليد او ثقافة محاسبة الفاسد، واستشراء الفساد في كل مفاصل الدولة من اعلى مسؤول فيها مرورا بالنواب (المنتخبين) وصولا الى المدراء العامين.
هل سمعتم في العراق منذ عام 2003 ان رئيسا للوزراء او وزيرا او نائبا في البرلمان قد احيل للمحاكم لفساده؟ وهل سمعتم ان حكومة من الحكومات ساءلت احد من هولاء عن تضخم ثروته او كيف تحول من شخص معدم الى ثري من الاثرياء؟ او هل بحثت حكومة من الحكومات عن اسباب تبخر مئات المليارات من الدولارات، والتي كان يمكن ان تبني عراقا نموذجا في التطور والتقدم؟ لكن العالم كله سمع عن وزراء ومحافظين ومدراء عامين تم توجيه تهم فساد كبيرة لهم هربوا الى الخارج بما سرقوه، وقسم منهم تم القاء القبض عليهم من قبل الشرطة الدولية وتسليمهم العراق، الا ان مسؤولين كبار في الدولة قاموا باطلاق سراحهم وتهريبهم خارج العراق مرة ثانية. وفي حالات كثيرة نقلت الفضائيات والصحف مقابلات مع موظفين او مواطنين وجهوا اتهامات مباشرة، وفي بعض الاحيان بالوثائق، الى مسؤولين كبار في الدولة، بل وكبار جدا، ولم يقم النائب العام باتخاذ ما يحتمه عليه منصبه من اعتبار هذه الاتهامات بلاغا له كي يحقق في الامر، والاهم لم يقدم اغلب المسؤولين الذين وجهت له مثل هذه الاتهامات اي دليل يثبت براءتهم، اي انه مازالوا متهمين.
المشكلة الاخطر في هذه الظاهرة هي ان المجتمع بصورة عامة اصبح لا يلفظ الفاسد ولا ينبذه، بل على العكس اصبحت غالبية واضحة تحيط الفاسد والسارق والقاتل صاحب النفوذ بكل انواع الاحترام والتقدير الذي لا يستحقه، لانه امتلك ثروة نتيجة سرقاته ولانه يشغل منصبا يستطيع من خلاله ان يفعل ما يشاء.
في العراق القديم كانت تسجل حالات فساد على مسؤولين، وعندما كانت تظهر مثل هذه الحالات كان المجتمع ينظر لاصحابها نظرة احتقار، وهذه النظرة كانت تمتد الى الاولاد وتقف حجر عثرة في طريق بنائهم لمستقبلهم. وكان الذين يعملون في الدول يحرصون على يوصفوا بانهم نظيفي اليد وطاهري الذيل، هاتان الصفتان اللتان انعدمتا تقريبا في هذه الايام. من الحوادث الطريفة التي اذكرها في هذا الخصوص ان صديقا احب فتاة زميلة له، واراد ان يقترن بها، ووافق والديه على الفكرة، وعندما اخبر والده باقي افراد العائلة بنية تزويج ابنهم من تلك الفتاة فوجيء بحضور شقيقه من محافظة اخرى في اليوم التالي، ودخل عليه غاضبا ورافضا لهذا الاختيار، واعتراض العم لم يكن على سلوك الفتاة، ولم يكن لديه اية ملاحظة على سمعتها الشخصية، وانما رفضه كان (لان احد اعمامها قد اتُهِم بتلقي رشوة اثناء قيامه بعمله الوظيفي البسيط وحصل على عقوبة ادارية!!!).
لكن مع مرور الزمن وتدهور القيم الاجتماعية والاخلاقية بصورة عامة ومع غياب المراقبة والعقاب، انقلبت المعايير، واصبحت الغالبية تنظر باعجاب الى (شطارة) الفاسد في جمع ثروته، وبغض النظر عن الطريقة التي جمع فيها تلك الثروة، اما اذا كانت هذه الثروة مقترنة بامتلاك صاحبها لنفوذ سياسي ومليشيا مسلحة، فان التزلف له يصبح ظاهرة يومية. وما يثير السخرية المُرة ان الكثير من المتزلفين يمتلكون شهادات عليا وثروات اكبر بكثير مما لدى المسؤول الفاسد حديث النعمة.
خلاصة الكلام ان هذه الظواهر، المتمثلة بعدم استقالة المسؤول الفاشل والاحتفاء بالشخص الفاسد، لن تنتهي الا بوضع الاسس الصحيحة لثورة اصلاحية اخلاقية تعيد تثبيت القيم الصحيحة في المجتمع من جديد، وهذا الامر لن يتم الا اذا كان على راس الهرم اشخاص يضربون المثل الاعلى في احترام النفس والنزاهة وحب الوطن والحرص على ثرواته والخوف على تاريخهم وسمعتهم وسمعة عوائلهم. لا يوجد في الافق ما يدلل على امكانية حدوث مثل هكذا ثورة في المستقبل القريب. ومن اراد ان يسعى لها فعليه ان يستوعب ثم ينشر الثقافة المبنية على موعظتين عظيمتين: الاولى الاية الكريمة الدالة، بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّ اللَّـهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم).
والثانية قول الرسول الاعظم ﷺ (من خاف على عقبه وعقب عقبه فليتقي الله).
*كاتب واكاديمي عراقي

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

528 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع