أحمد العبدالله
محطات في قطار العمر؛ سنوات التهجير في أربيل(٥-٥)
وصلتُ أربيل في التاسع من تموز 2014, الموافق للحادي عشر من رمضان, وسبقتني عائلتي قبلي بعشرة أيام. كان الوصول إلى مبتغاي صعبا بسبب قلة السيارات وعوائق الطريق, فرحلتي التي ابتدأت فجراً, استغرقت ثماني ساعات للوصول إلى أربيل وعلى مرحلتين؛ المرحلة الأولى السفر إلى كركوك, ثم الانطلاق منها إلى أربيل, والتي وصلتها بعد الظهر وقد استبدَّ بي العطش, إذ بقيت صائماً ولم آخذ برخصة السفر.
كان الزحام الشديد الذي شهدته مداخل أربيل خلال الأيام الأخيرة قد خفَّ كثيرا, بسبب الأعداد الهائلة من الهاربين من القصف الجوي الحكومي الذي انصبَّ على بيوت المواطنين بشكل خاص, بينما سيارات (الدواعش) المميّزة كانت (تمشي الهوينا)!!, وترابط هنا وهناك, دون أن تستهدفها الطائرات الحكومية وكأن الطرفين؛(داعش) و(جحش), قد اتفقا على تدمير المدن والحواضر السُنيّة وتهجير أهلها, كلٌّ بطريقته.
عند السيطرة الجنوبية التي تُنظّم الدخول إلى أربيل من جهة كركوك, استقبلتني زوجتي وولدي عمر, وفق التعليمات التي تقتضي بأن من يروم الدخول إلى أربيل وحيدا بدون عائلته, يجب أن يكون ذووه داخلها لينضم إليهم ويسمحوا له بالدخول. وبعد إجراءات إعتيادية لم تطل كثيرا, تم استخراج ورقة الإقامة لمدة اسبوعين فقط, وعليَّ بعد انقضائها مراجعة دائرة (الأسايش), لتمديدها بشكل شهري.
أربيل؛ المدينة الزاهية التي أراها للمرة الأولى في حياتي, إذ لم يسبق لي زيارتها قبلاً؛ مساجد كثيرة عامرة بأهلها, شوارع فسيحة, وبنايات وعمارات شاهقة, ومحلات عامرة بالبضائع, وأسواق عصرية مترامية الأطراف, ومطاعم نظيفة, وحدائق ومتنزهات خضراء ممتدة تسرُّ الناظرين, ذلك وغيره أثار إعجابي. وكان السؤال الأول الذي تبادر إلى ذهني؛ لِمَ لا يحصل مثل ذلك, بل وأدنى من ذلك, في محافظات الوسط والجنوب ؟!, والتي غدت بعد 2003, أطلال مدن تنعق فيها الغربان, وتفتقر للحد الأدنى من الخدمات والأمن والنظام, وتحولت تلك المدن الى مزابل ومكبات للنفايات والقمامة. وبلا شك إن الجواب معروف, وهو؛ إن الأمر قد وُسّد لغير أهله.
كانت عائلتي المكونة من عشرة أفراد قد استأجروا غرفتين في أحد فنادق وسط أربيل القريبة من قلعتها التاريخية, مع أقارب لنا, وفي ظنّنا إن الإقامة لن تطول سوى لأسابيع قليلة ثم العودة إلى الديار, ولكن الفترة امتدت لسنوات طوال وثقال. وكانت التعليمات تمنع على الوافدين المهجّرين من استئجار البيوت, وكان الخيار المتاح هو الفنادق, والتي التهبت أسعارها, وصار ثمن إيجار الغرفة الواحدة بحدود الـ50 دولارا في اليوم الواحد. وبعد أشهر سمحت الجهات الرسمية في أربيل للنازحين باستئجار البيوت, بعد أن استنزفت الفنادق معظم ما كنّا ندخره من نقود.
في الأول من آب 2014, وبعد انقضاء أيام عيد الفطر الذي مرَّ حزيناً, انتقلنا لقضاء شقلاوة بحثا عن ملاذ يتناسب ماديا مع ميزانيتنا المحدودة, وبمواجهة مجهول زمني بدأت ملامحه تتوضح بأن فترة التهجير ستطول, مع حصول متغيّرين مهمّين, الأول؛ إن تنظيم داعش قد (تبسمرت) أقدامه عند حدود العاصمة بغداد, وكأن هناك اتفاقا ضمنيا مع القوى التي تسيّره, مفاده؛(راوح مكانك)!!, فالهدف هو إثارة (وكر الدبابير السامة), وليس القضاء عليها. وعلى الفور صدرت (فتوى) السيستاني بـ(الجهاد الكفائي), وتحت رايتها, وبذريعة داعش, تمت استباحة المناطق السُنيّة وتدمير وتشريد أهلها بالملايين, أو قتلهم أو تغييبهم, وتطبيق سياسة؛(الأرض المحروقة). وتعاملت القوات الميليشياوية الشيعية الطائفية الإيرانية مع أبناء تلك المناطق بأنهم(دواعش), أو حواضن لهم!!.
أما المتغيّر الآخر الأخطر, فهو شروع تنظيم داعش بتعرّض كبير على أربيل من جهة مخمور, في خطوة لا تؤكد تخبط التنظيم وجهله فقط, بل سوء نواياه المشبوهة وأهدافه المبطنة. فبأيِّ منطق يترك جبهته الأساسية وهدفه الذي حدده بتطهير؛(بغداد الرشيد من الروافض), كما أعلن زعيمه البغدادي في خطبته من على منبر الجامع النوري في الموصل, ويستدير 180 درجة, ليفتعل معركة مع طرف لا يشكل تهديداً له, ويترك هدفه الحيوي المهم؟!!.
كانت شقلاوة تمور بالمهجّرين, وخاصة مهجّري الفلوجة الذين سبقونا ببضعة أشهر. ولذلك أطلق عليها البعض تندّراً؛(شقلوجة)!!.وكانت محطتنا الأولى؛(بيتا) استأجرته بمليون وثمنمائة ألف دينار في الشهر, يقع قرب فندق(بسمة السفير), وهو عبارة عن غرفة واحدة وصالة تم قطعها بحاجز لاستحداث غرفة أخرى, وأثاثه متهرئ وغير نظيف. كان سكناً غير مريح ولا يتناسب أبدا مع سعره المرتفع. وتزامن وجودنا فيه مع الأنباء التي بدأت تردنا بأن(القرامطة الجدد) قد اجتاحوا قريتنا, ودنّسوا بيوتنا وسرقوا أثاثها, وشرعوا بأعمال حرق وتدمير واسعة فيها, تنفيساً عن أحقاد وضغائن تضطرم في نفوس أصحابها عبر أكثر من ألف عام, وأتتها الفرصة المناسبة لإفراغ مكنوناتها.
كما بدأت ترد لعدد من النازحين مكالمات هاتفية من أرقام مجهولة, تبتدأ بفاصل من بذيء الكلام وشتائم لا تصدر حتى من أحقر البشر وأكثرهم سفالة ودونية وانحطاطاً, تستهدف أصحاب النبيِّ الكريم الأخيار وأمهات المؤمنين الطاهرات المطّهرات(رضي الله عنهم جميعا). وقد تبيّن بأن هؤلاء الأوباش الأوغاد من حثالة الحثالات قد وجدوا أرقام الهواتف داخل البيوت التي دنّسوها. وكان ولدي(عمر) قد اتصل به أحد هؤلاء السفلة الوسخين, إذ كان رقم هاتفه مثبتا على ثلاجة بيته التي كانت لدى المصلّح والذي كتب إسمه ورقمه عليها لكي يبلغه بالمجيء لأخذها بعد تصليحها. وفي تلك الأيام السوداء أغلقتُ هاتفي لأشهر ولا أردُّ على المكالمات المجهولة, كي لا ألّوث سمعي بفحيح الأفاعي.
في نهاية شهر آب, رجوت الوسيط؛(كاكا مصلح),أن يخفّض مبلغ الإيجار الشهري قليلا, ولكنه أبى تنزيله عن المليون و800 ألف دينار, فاستأجرت بيتا غيره بمليون دينار, يقع على أحد مرتفعات شقلاوة تحيطه الأشجار والبساتين الجميلة, وقد قيل لنا إن إيجاره الشهري قبل التهجير, كان لا يزيد على مئتي ألف دينار فقط, ولكن تجار الأزمات والحروب الذين يستغلون الظروف الصعبة لآخرين, موجودون في كل مكان وزمان. وعندما رغبت بتجديد العقد لشهر آخر, رفض صاحبه ذلك, فالجشع والشراهة استبدّت بالكثيرين, إلاّ ما رحم ربي. فغادرته لمجمع فندقي قريب ومكثت فيه شهرين وبالسعر نفسه, حتى لسعنا برد شقلاوة القارص الذي يدقّ العظم, وهربنا منه بعد انتهاء المدة لعدم قيام صاحب المجمع بتشغيل أجهزة التكييف إلاّ في ساعات قليلة. واستقرينا خلال أشهر الشتاء الثلاثة في فندق نظيف ومكيّف, حيث تكتسي شقلاوة بالرداء الأبيض الجميل.
بقينا في الفندق المذكور حتى مطلع شهر آذار, ثم غادرناه إلى (شاري زيرين), ومعناه؛(الحي الذهبي)!!, والذي يقع على طريق المصيف ويبعد عشرة كيلومترات تقريبا عن مركز أربيل, حيث استأجرت بيتا بمبلغ نصف مليون دينار. ولكن لا علاقة لهذا الحي بإسمه, فالشركة الإيرانية التي نفذت المشروع خالفت الكثير من فقرات العقد, فبيوته بائسة ورطبة, وشوارعه مكسرة, والمساحات الخضراء تُركت دون تشجير, والماء والكهرباء شحيحان,...الخ. وأحسن ما فيه هو مسجده الجميل والفسيح, والذي بناه أحد المحسنين من إخواننا الأكراد, وتزامن افتتاحه مع وصولنا.
طالت إقامتنا في هذا الحي لخمس سنوات تقريبا, متنقلين بين خمسة من بيوته. كما بدأت بدلات الإيجار, والتي أثقلت كاهلنا في السنين الماضيات, بالنزول التدريجي حتى استقرت عند حدود الربع مليون دينار. وبعد أن كان تجديد(الإقامة) يتم كل شهر, صار بعد ذلك بشكل سنوي. وتعايشنا مع الواقع الجديد على مضض, وهانت علينا الأمور بعض الشيء. ولكن الغصّة التي في قلوبنا بمفارقة ديارنا وتدنيسها وتدميرها من قبل (قرامطة العصر), لم ولن تُمحى من ذاكرتنا أبدا.
وفي خاتمة هذه المحطات؛ واجب عليَّ أن أتقدم بالشكر الجزيل والإمتنان والعرفان لأشقائنا في الدّين والوطن في إقليم كردستان, وفي أربيل(أميرة المدن)؛ العزيزة الشامخة الجميلة, على وجه الخصوص؛ قيادة وشعبا, وفي مقدمتهم الأخ الكبير الرئيس مسعود البرزاني وإخوانه في حكومة الإقليم, الذين فتحوا أبوابهم أمام من اضطرتهم الظروف للفرار من ديارهم المستباحة من قطعان مغول العصر, يوم سكّرت بغداد؛ الأسيرة بحراب حثالات إيران, أبوابها بوجوههم. وسيبقى هذا الموقف الإنساني النبيل, دَيناً في عنق كل مهجّر, سيحكي للأجيال القادمة فصول هذه المأساة.
ولله الأمر من قبل ومن بعد, وبه نستعين.
للراغبين الأطلاع على الجزء الرابع:
https://algardenia.com/maqalat/54574-2022-07-03-11-33-37.html
2920 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع