أحمد بن قريش
قصة نسغ و شدو
-فَ اَلدُّنْيَا هَاذِي لَازَمَ عَلَيْك دِيمَا تَعْرِف وَاشٍ دَيْر ْ، قالها إبراهيم لزوجته.
ثم صمت قليلا.
كانت حشرة تصر داخل الغرفة تحت قطعة أثاث فاستمع إليها إبراهيم أكثر مما ينبغي.
-كمثل هذه الحشرة، كان علينا ألا نترك الباب مفتوحا، والآن يجب إخراجها من هنا.
السكون من جديد. بالخارج كان الليل البهيم يغلق بالقفل أبواب القرية.
شهقت امرأته مرتين قرب الباب حيث كانت تجلس القرفصاء غير بعيد من مجمرة فأدرك أنها لم تكن قد فكرت جيدا بما حثته عليه خلال الأيام القليلة الماضية.
-والآن بعد ما بدأت تتجسد اتصالات بيني وبين الإخوة، قال وكأنه يصارح نفسه.
شهقت مرة أخرى المرأة شهقتين وبسرعة.
-أظن أنهم يقبلونني بين صفوفهم... وربما سأتخلى عن هذه المغامرة... من يعرف...
-يجب... يجب... عليك بالذهاب، تباكت عزيزة.
-ولماذا البكاء إذا، تذمر إبراهيم.
-أخشى.. أخشى إبراهيم... قد مات أخوك فبل مغادرة القرية...
نظر إبراهيم في وجه زوجته. كانت عيناها محمرتين.
-ما قام به أخي هو حماقة لا غير... إغراء الشيطان... مفخرة في يومه الأول... الإخوة عمرهم ما طلبوا من أي كان ومهما كانت شجاعته أن يقوم بهجوم ولوحده علي ثكنة... والشيء كان ممكنا لو استعمل قليلا من الحيلة... ثم ليس هو المخطئ... فالمذنب هو هذا العجوز البغل.
-خفض صوتك، صرخت عزيزة وهي تروح بمهواتها على المجمرة، إنه يستمع إلينا في غرفته...
وجاء إلي مسامعهم من الغرفة الأخرى سعال ممتزج ببحة فاشتعل إبراهيم.
... -لن اسكت لن اسكت
ثم بدأ يقلد صوت أبيه: ميلود، إن كنت حقا ابني، فاقتل هذا المستعمر الأبله... ميلود، اقتله بكرة، إن كنت حقا ابني... ميلود أعرف جيدا المستعمرين، بالصفعات يمكنك نزع سلاح كاتبة بكاملها... أنا أقول لك... قد شاركتهم حروبهم القذرة... إني أتوسل إليك، فافعل إن كنت ابني حقا...
-اسكت... اسكت... عوت عزيزة، أظنه يسترق السمع إلينا...
سكت إبراهيم. كان يجلس القرفصاء وسط سريره وهو يدخن سيجارة خفيفة مليئة نسغ وشدو.
وتمضي السنوات. الواحدة أطول وأعرض من الأخريات. لم يتمكن إبراهيم من اتخاذ قراره الحاسم بالذهاب إلى الحرب. كان يلزمه بعض كسر بين ذاته، بعض فصال، لكن لا شيء يحدث. بعد السنة الثانية مات أبوه حزنا ومعه كلبه، نفس اليوم، قد قيل. بعد السنة الثالثة جنت أمه وكانت تجول بين الشوارع من الصباح إلى المساء وهي تصرخ في الناس، أتركوه يذهب... أتركوه يذهب... لازمة يزداد بها الصوت ضخامة بعد ساعة العصر، وقت خروج الجند من ثكنتهم لنزهتهم المسائية، هي يا من كانت تسمعه مقررا الصعود إلى الجبل ليلا وتجده منزويا بزاوية من زوايا الغرف صباحا...
استمر العالم يهذي حول موضوع ذهاب إبراهيم إلى الحرب طيلة خمس سنوات. في الشوارع كان الأطفال يحيونه ويساعدونه على حمل قففه عندما يعود من السوق وهذا حتى مسكنه. وكان في المقاهي الرجال بما فيهم المشوربون والمرد يتسابقون لدفع حسابه وهم يربتون على كتفيه. المستعمرون الذين كان يلتقي بهم في الطريق يتجنبون نظراته ومنهم من يفر صراحة عبر الدروب الضيقة تفاديا لتعرضه من أي مكروه. حتى المستعمر الأبله الذي مص دماء أبيه حتى مخ العظام أصبح يزوده يوميا بصناديق الخضرة وكان يناديه سيدي إبراهيم. وحتى النسوة. لما يمشي متبخترا بين الأحياء كانت تولولن وتمجدن الشهداء. هكذا أصبح يكنى بالوطني.
الوطني- السنوات السبع التي مرت بسرعة لم تكن كافية لدفع شخصا من طينة إبراهيم للذهاب إلى الحرب- طيلة أشهر الاستقلال الأولى طلي كل الجدران بنعم كبير بلون محمر، نظم استقبال المحاربين النازلين من الجبال، تصور تصويرا شمسيا مع معظمهم حيث يظهر رافعا بندقيتين تشيران للنجاح، مشى طولا وعرضا بين أزقة القرية على رأس عدة رتل أطفال طويلة وهو يغني الأناشيد الوطنية إلى حد قطع أوتاره الصوتية...
مرت سنوات. سنة ماطرة. أخرى جافة. عشرية أولى. ثانية. ثالثة...
قد شاخ إبراهيمنا. ها هو الآن يلف سيجارة خفيفة مليئة نسغ وشدو. وبرأسه تدور أفكار سخيفة.
-فَ الدَّنْيَا هَاذِي لاَزَمْ عْلِيكْ دِيمَا تَعْرَفْ وَاشْ حَابْ دِير ْ، باح إبراهيم لعجوزه.
من تحت بعض أثاث، داخل الشقة، تصر الحشرة المسنة. فيستمع إليها إبراهيم أكثر مما ينبغي.
1227 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع