اسماعيل مصطفى
العودة إلى الذات
هناك حكمة تقول "إن الإنسان يكون أقرب إلى ذاته إذا كان صامتا"؛ أي بمعنى أنه يكون أكثر هدوءاً واطمئناناً إذا كان ساكتاً ولا يقوم بأي فعل أو ردّ فعل يؤدي إلى انشغاله بأمور خارج نفسه.
لتوضيح هذه المقولة الثمينة لابدّ لنا أولاً أن نعرف ما يشغل عقل الإنسان وفكره وقلبه والذي يؤدي به إلى أن يبتعد عن روحه واحساسه وشعوره بالاستقرار النفسي طالما كان منشغلاً بقول أو فعل أو أي شغل فكري وعقلي شعورياً أو لا شعورياً قد يصاحبه في يقظته أو في منامه، ومن هذه الشواغل التفكير بتدبير الأمور المعيشية والحياتية أو بتحصيل العلوم في أي اختصاص مهما كان نوعه والعمل ضمن إطار يتطلب منه بذل جهود عضلية أو فكرية أو نفسية.
من خلال هذه المقدمة نستطيع القول أن أيّ إنسان ولكي يحافظ على تماسكه الداخلي لابدّ له من تخصيص وقت بين الحين والآخر للتفرغ إلى نفسه بعيداً عن أيّة معكرات لمزاجه ولضمان صفاء داخله من أي نوازع قد تقوده إلى الدخول بمعترك من معتركات الحياة في مجالاتها المختلفة السياسة والاقتصادية والعلمية والاجتماعية وغير ذلك.
إذن لابدّ من أن يخصص الإنسان وقتاً محدداً للرجوع إلى ذاته، ولا يحصل هذا ما لم يكن بعيداً عن ايّة منغصات ويلتزم الصمت بشكل كبير عملاً بالحديث الذي يقول "إن العافية عشرة أجزاء تسعة منها بالصمت والعزلة".
هذا الأمر "تهيئة الجوّ النفسي المستقر" يبدو أكثر الحاحاً في زماننا المعاصر الذي تزدحم فيه الأفكار والنشاطات بمختلف أشكالها والتي بدت تستهلك طاقة الإنسان وتدعه عرضة لشتى الأمراض والمصاعب النفسية والمتاعب الفكرية والجسدية، وهذا الأمر يبدو جلياً لنا جميعاً في مناسبات مختلفة والدليل على ذلك هو حاجتنا من حين إلى آخر لتحصيل الخلوة مع أنفسنا وعدم ممارسة أي مجهود فكري أو جسدي وذلك من أجل استعادة النشاط الذهني والحيوية التي نفتقدها تكراراً بسبب الانهماك بتفاصيل الحياة التي تجمعها صفتا الكثرة والتزاحم وجملة من الأمور بينها الاحتياجات والضرورات الملحة والصعوبة في تحديد الأولويات ومدى القدرة على حسم المهم ووجوب تقديم الأهم عليه، وكل ذلك يستلزم توفر قدر كبير من المعرفة والتجربة وهو ما لا يمكن الحصول عليه إلّا بخوض غمار الحياة ومشقاتها لما لها من أهمية بالغة في تحديد مسار الشخص وبلورته باتجاه الخير أو الشر وصيرورته في نطاق الصح أو الخطأ وما شابه ذلك.
ولتعزيز المفهوم القائل "إن الإنسان يكون أقرب إلى ذاته إذا كان صامتا" ينبغي تطبيق هذه المقولة وترجمتها على أرض الواقع لنرى كم هي ضرورية محطات الخلوة مع النفس وذلك من أجل التخلص من ضغوطات الحياة وما يتفرع عنها من أزمات لا يمكن حصرها في مجال دون آخر، ولهذا نرى حتى المشتغلين في مجال الطب النفسي يصابون بالتعب والقلق والارهاق وربما الأرق أيضاً وقد تراهم أحوج من غيرهم للخلوة مع النفس في فترات متعددة، وربّ قائل يقول بأن التفرغ والابتعاد عن مشاغل الحياة غير ممكن عملياً وفيه ضريبة مكلفة تتمثل بتراكم الأعمال من جهة وفقدان فرص التقدم من جهة أخرى، نقول إن هذا الكلام صحيح جداً لكن الخلوة مع النفس لها فوائد لا تقل عن فوائد مزاولة الأعمال المتعددة، والأصح من ذلك إن هذه الخلوة تعتبر مقدمة ضرورية لإنجاز الاعمال المراد تنفيذها، فضلاً عن الفرصة التي ستهيؤها لاستعادة صفاء الروح وتوفير أجواء هادئة لشحذ الذهن والانطلاق لبدء حياة أكثر برمجة وهدفية وانتاجاً والشواهد على ذلك كثيرة وإن كانت تختلف من شخص إلى آخر حسب الظروف ووفق المتقتضات الزمكانية التي يمر بها الإنسان من حين إلى آخر.
1723 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع