د. سعد ناجي جواد
في وداع شيخ المعلقين الرياضيين مؤيد البدري.. ذكريات لا تنسى
قدر العراق ان تتهاوى قامات كبيرة ومحترمة من ابناءه الاوفياء في غربة لم يختاروها وانما فرضت عليهم فرضا، وان يواري اجسادهم الطاهرة تراب غير تربة العراق الطاهرة. وقدر العراق ان تعيش القامات التي خدمت العراق باخلاص لعقود في غربة تنتظر الموت البطيء وهي تتحسر على ماء وهواء وارض العراق.
والفقيد العزيز مؤبد البدري هو احد هذه القامات، فهو يمثل، بالاضافة الى اخلاقه العالية ودماثته، ذاكرة جيل كامل عاش مع صوته الخفيف على القلب والسمع وهو يعلق على المباريات الكروية بحرقة وطنية نادرة وانفعال يحمل غيرة عراقية اصيلة على سمعة الوطن، يصرخ بفرح عند الفوز وينكسر صوته عند الخسارة. ومن طرائف الامور في تلك الفترة، الستينيات، والتي كنا فيها مولعين بمتابعة مباريات كرة القدم ونحرص على الذهاب للملاعب لمشاهدة مباريات المنتخبات العراقية، ومولعين بنفس المستوى بتعليق مؤيد البدري، اننا كنا نحمل معنا راديو ترانسيستور كي نسمع تعليقه ونحن نشاهد مباراة حية ومباشرة. والاكثر من ذلك اننا كنا وغالبية العراقيين ننتظر مساء كل يوم ثلاثاء لنتجمع حول شاشات تلفزيون العراق لنشاهد ونتابع برنامجه المشوق والمحايد والمليء بالمعلومات الرياضية الجديدة (الرياضة في اسبوع). كان يشدنا باسلوبه الرشيق وبمعلوماته الغزيرة في كل ما يتعلق بالاحداث الرياضية. وكان يبهرنا اكثر حرصه على توفير كل ماهو جديد في مجال الرياضة على الرغم الامكانيات المحدودة في تلك الفترة. ثم علمت فيما بعد انه كان يحرص على التواصل مع سفاراتنا في عواصم اوربية مختلفة كي تزوده بافلام لكل حدث رياضي جديد. وهذا ما جعل برنامجه مميزا واستمر لعقود محافظا على شعبيته. ولا عجب في ذلك فانه كان من اوائل الذين حصلوا على درجة الماجستير في موضوع التربية الرياضية من الولايات المتحدة، وانه كان محبا ومتفانيا في عمله شانه شان الرواد من جيله.
عندما عاد البدري الى العراق التحق مدرسا في المعهد الذي حمل اسم المعهد العالي للتربية البدنية في منتصف الستينات، ثم تحول الى كلية التربية الرياضية التي اصبحت من الكليات المرموقة في جامعة بغداد.
وفاة الاخ والزميل والصديق مؤيد البدري اعادة الى ذهني ذكريات مرحلة جميلة ومليئة بالذكريات العطرة التي لا تنسى، يقف على راسها، بل واهمها اننا عشنا، نحن طلبة وخريجي جامعة بغداد انذاك، مع نخبة رائعة من جيل المرحوم البدري، (منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بداوا تبديلا). ففي منتصف ستينيات القرن الماضي عندما التَحقتُ، والاصدقاء من جيلي، بكليات جامعة بغداد كل حسب اختياره، شعرنا باننا محظوظين بان تم في تلك الفترة تنسيب خريجين شباب من المعهد العالي للتربية البدنية، ليكونوا مشرفين على الحركة الرياضية في كلياتنا، بعد ان تم منحهم شهادة البكالوريوس في هذا المجال، (في تلك الفترة كان البدري احد المدرسين في المعهد لانه يحمل شهادة عليا، ماجستير). وسرعان ما شعرنا بان هذه النخبة كانت قريبة منا، اولا بسبب الفارق العمري القليل بيننا، فهم كانوا يكبروننا باربع او خمس سنوات فقط، وثانيا لان بساطتهم وشعبيتهم وحسن اخلاقهم وتواضعهم ذوبت الفوراق بيننا. ومن ناحيتنا، فاننا كسبنا محبتهم بسبب حبنا الشديد للرياضة وتعاملنا معهم كاخوة كبار وكاصدقاء. ورغم كل العلاقة الوثيقة التي ربطت بيننا الا اننا تعاملنا معهم بكل احترام يليق بمكانتهم التدريسية. واستطيع ان اقول ان هذه كانت حالة نادرة في تلك الفترة. ولهذا ومهما مرت السنين فاننا، انا وجيلي، لا يمكن ان ننسى تلك الاسماء العزيزة على القلب من امثال المرحوم الدكتور ماجد الكحلة (كلية الطب)، والاخوة الاعزاء سامي الزهاوي (كلية الهندسة) احمد السامرائي (كلية الصيدلة) وضياء العزاوي (كلية الاقتصاد والعلوم السياسية) التي كنت احد طلبتها. ربما يكون الاستثناء الوحيد، والذي لا يمكن لخريجي كلية الحقوق (القانون فيما بعد) ان ينسوه، هو الاستاذ المخضرم، الذي عاصر اجيال من طلبتها، المرحوم محمود المولى، (البغدادي الشهم والطيب والقريب للقلب، عاصرته طالبا وزاملته عندما عدت استاذا الى كلية القانون والسياسة). وكنا نلجا لهولاء الاساتذة الشباب عندما تصادفنا اية مشكلة، وبدورهم فانهم لم يبخلوا علينا باية مساعدة. وكنا نذهب معهم في سفرات جميلة داخل وخارج العراق، وكل هذه الصداقة القوية التي امتدت لعقود، تحولت الى صداقات عائلية وحتى فرقتنا الظروف، لم تجعلنا نتجاوز في التعامل معهم او نعصي لهم امرا. واستطيع ان اقول بكل ثقة ان اخلاقهم وطريقة تعاملهم معنا اعطت للحركة الرياضية في كليات جامعة بغداد نكهة وروح جديدة وافرزت طاقات شبابية كبيرة في البطولات المحلية والعربية.
في العودة الى المرحوم مؤيد البدري فيمكن القول انه، ونتيجة لشعبية برنامجه وتعليقاته اصبح شخصية رياضية لا يمكن تغافلها في العراق ونادرة لم تكرر، بل استطيع ان اجزم بانه، ومعه او ياتي قبله المرحوم اللاعب والمدرب الكبير عمو بابا، اصبحا نجما الكرة والحركة الرياضية (من غير اللاعبين) وبدون منازع. والسبب الاهم في هذه المكانة التي اكتسباها يعود الى احترامهم لانفسهم ولمهنتهم ولدورهم الذي اوكل اليهم. واذكر انه في احدى المباريات الخارجية افتقدنا نحن المشاهدين مشاركة احد اللاعبين الشباب الواعدين، وعندما عاد الوفد سالنا البدري عن سبب عدم مشاركته، فقال ان هذا الشاب الذي يوجد امامه مستقبلا كبيرا اساء التصرف في الفندق الذي كان يأوي الفريق في العاصمة الاجنبية، فما كان منا انا وعمو بابا الا ان سلمناه مع جواز سفره الى السفارة العراقية في ذلك البلد واعدناه العراق لكي نحافظ على سمعة العراق، التي هي اهم بكثير من نتيجة المباراة، ولكي يكون ذلك درسا له ولزملائه في مسيرتهم الرياضية. المثال الاخر والاهم على احترام البدري لمهنته هو انه عندما كان يقدم برنامج الرياضة في اسبوع ظهرت في بداية السبعينيات ظاهرة المصارع عدنان القيسي، والتي يتذكرها العراقيون من ذلك الجيل جيدا، وخلاصتها ان القيسي كان مقيما في الولايات المتحدة الامريكية ويحمل جنسيتها، وبسبب ضخامة بنيته دخل في مجال المصارعة الاستعراضية، والتي يطغى عليها الجانب الاعلامي، ( بكلمة اخرى الحركات التمثيلية المصطنعة). والمباريات من هذا النوع كانت ترتب لجذب الجمهور، ولكنها مع ذلك اكتسبت، ولا تزال تكتسب، مشاهدات واسعة. ولا احد يدري هل ان حكومة حزب البعث في بداية وصولها للحكم وجدت في هذه الفعالية طريقة لالهاء الناس وابعادهم عن الانشغال بالسياسة، كما يتهمها خصومها، ام انها حقيقة صدقت ان القيسي بطلا عالميا ومن اصول عراقية، وارادت ان تفتخر به، المهم ان الحكومة انذاك قررت اعادته الى العراق واغدقت عليه الامتيازات، بالاضافة الى انها رتبت له مباريات عديدة يتم فيها دعوة مصارعين اجانب لملاقاته، طبعا بترشيح من القيسي نفسه، وكانت هذه الجولات تقام في ملاعب لكرة القدم لكثرة الحضور، وتبث بصورة مباشرة من على شاشات التلفاز. وكانت جميعها تنتهي بفوز القيسي. ويبدو ان المرحوم البدري قد ادرك مبكرا ان ظاهرة وفعاليات القيسي كانت ضحكا على الذقون، وتاكد من ذلك بعد استضافه في احدى حلقات برنامجه ومن اجوبته السطحية. وهكذا بدأ بالابتعاد عن الحديث عنه في برنامجه، بل وحتى التعليق على النزالات التي كان يجريها. هذا الاهمال والاغفال ازعج القيسي والجهات التي كانت تتبناه وتروج لمبارياته، ويبدو ان القيسي اشتكى من ذلك لولاة الامور، لانه شعر ان البدري هو الاقدر على فضح (تمثيلياته) المعدة مسبقا. خاصة بعد ان تحدث البدري في احد برامجه عن هذا الموضوع بصراحة عندما سئل عن سبب اهماله لفعاليات القيسي وقال ان نتائجها مرتبة وانها ليست رياضة وانما فعاليات استعراضية. وعندما رفض البدري التراجع عن موقفه ذلك تم تعليق برنامجه الاسبوعي المحبب الرياضة في اسبوع لفترة لا باس بها. ومن حسن حظ البدري ان امر القيسي قد افتضح بعد فترة قصيرة وانتهز (القيسي) اول فرصة لمغادرة العراق بعد ان حول ما جناه من اموال الى خارج البلاد، ولم يعد بعدها. والمضحك في الامر ان اجهزة اعلام امريكية يفترض بها ان تكون مرموقة ورصينة استضافت القيسي في الايام الاولى للاحتلال ليروي قصصه الخيالية المفبركة عن كيف ان النظام البعثي (وصدام حسين بالذات) اضطهداه بسبب (مواقفه السياسيه المعارضة) وانه هرب خوفا على حياته!!
بعد ان عدت للعمل في جامعة بغداد في نهاية السبعينات، دعاني الصديق المرحوم الدكتور ماجد الكحلة لزيارته في كلية التربية الرياضية لحضور مهرجانا رياضيا، وكم كانت فرحتي كبيرة عندما وجدت معظم ابناء الجيل من الاساتذة الشباب الذين تحدثت عنهم، وعلى راسهم المرحوم مؤيد البدري يشكلون الكادر التدريسي في تلك الكلية. ثم توالت لقاءاتنا بحكم عملنا في نفس الجامعة واهتمامنا بالحركة الرياضية. الشي المهم هو انني وجدتهم جميعا يتمتعون بنفس الروحية التي تطمح الى ان تقدم المزيد للعراق، حتى وان اختلفوا مع بعض السياسات. وهذا هو الاساس والفارق بين الوطني المحب لوطنه وبين المتلون والخائن الذي يفضل مصلحة اطراف خارجية اخرى على مصلحة بلده.
سيبقى مؤيد البدري وجيله من الاخوة الاعزاء سواءا من رحل منهم او من بقي على قيد الحياة، خالدين في الذاكرة، وعلامة فارقة في الحركة الرياضية العراقية وفي النهوض بالحركة الرياضية الجامعية الى اعلى المستويات، والاهم بالتمسك بالثوابت الوطنية وبحب العراق.
رحم الله الاستاذ المرحوم مؤيد ابو زيدون وغفر له وجعل مثواه الجنة وإنا لله وإنا اليه راجعون.
2181 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع