د. سعد ناجي جواد*
ثورة الجياع في العراق قادمة لا محالة.. وما قد يعجل بحدوثها هو قانون الامن الغذائي المزعوم
يحار الفكر والقلم فيما يكتب عن هموم العراق والعراقيين. وكل هم جديد هو اكبر من الذي قبله، ويحار العراقيون مم يشتكون، هل يشتكون من عدم تشكيل حكومة جديدة بعد مرور اكثر من سبعة اشهر على ظهور نتائج الانتخابات، (ولا يوجد امل في تشكيلها في القريب العاجل بسبب لا مبالاة غالبية المشاركين في العملية السياسية والتنافس فيما بينهم على المناصب)، وما يُزيد حالة الياس عندهم هو انهم متيقنون بان الحكومة القادمة والبرلمان الحالي سوف لن يختلفا عن من سبقهم. وعندما يتركوا هذا الامر الذي اصبح يثير الغثيان في نفوسهم يصطدمون بهموم اخرى اكبر تتمثل في صعوبات الحياة اليومية، من الغلاء الفاحش للمواد الغذائية وشحة الاساسية منها، وخاصة الدقيق والسكر والرز والزيت، اما اللحوم الحمراء فاصبح الكثيرون لا يستطيعون تناولها خوفا من وباء قاتل جديد معروف باسم (الحمى النزيفية)، والذي تفشى بسبب الاهمال وعدم مراقبة محلات الذبح التي اصبحت تفتقد لادنى شروط الصحة والنظافة والسلامة، ومن يتناول هكذا لحوم يصاب بنزيف مميت لايتوقف. ثم ياتي بعد ذلك الانقطاع شبه المتواصل للطاقة الكهربائية، التي رغم انفاق اكثر من 80 مليار دولار عليها منذ بداية الاحتلال لحد الان، (وهذا مبلغ كاف ليغطي حاجة العراق ودول الجوار من هذه الطاقة)، في اجواء تتجاوز فيها درجة الحرارة الان اكثر من 50 درجة مؤية، ووحده الله يعلم ماذا سيكون حالهم عندما تحل شهور الصيف الحقيقية في تموز وآب وترتفع الدرجات اكثر. (في عام 2011 اخبرنا احد وزراء الكهرباء ان العراق سيقوم بتصدير الفائض من الطاقة الكهربائية عام 2013، بينما كشفت التحقيقات ان اخر وزير كهرباء قبل الحالي وقع عقدا بقيمة 800 مليون دولار مع شركة عالمية، ظهر انها وهمية! وحكم على هذا الوزير بسجن لبضعة اسابيع مع وقف التنفيذ وبغرامة قدرها 700 دولار فقط!!) وهذان الوزيران شانهم شان وزراء فاسدين اخرين يعيشون خارج العراق متمتعين بما اكتنزوه من سحت حرام.
يضاف الى هذه الهموم شحة المياه الصالحة للشرب، بل وكل نوع من انواع المياه الصافية التي يفترض ان تصل الى المنازل. يضاف الى ذلك هم القلق على انهار بلدهم العظيمة دجلة والفرات وغيرها وهم يلاحظون جفافها التدريجي بسبب سياسات دول الجوار وعدم وجود سياسة مائية وطنية تحافظ عليها من اجل حياة الناس والزراعة في البلاد، وهذه الحقيقة نتج عنها تصحر بدأ يلتهم اراضي العراق التي كانت تسمى بارض السواد لكثافة الزراعة فيها، ولا يوجد اي اخبار عن اي جهد رسمي جدي من قبل اي حكومة بعد 2003 لمتابعة هذا الموضوع، حتى وصل الحديث الان عن ان الرافدين قد يجفان بحلول عام 2040. اما الطامة الاكبر المتمثلة بالفساد فحدث ولا حرج، فهذه الظاهرة ليس فقط لا تتوقف ولكنها تتصاعد بشكل رهيب، والمؤلم اكثر ان الحكومات المتعاقبة لم تعر هذه المشكلة اية اهمية تذكر، بدليل انه لم يتم احالة اي فاسد كبير الى القضاء. والمضحك المبكي ان الحكومات المتعاقبة اصبحت تتفنن في ايجاد وتشريع قوانين ومشاريع تفتح للمشاركين بالعملية السياسية ابواب فساد جديدة، بدعوى انهاء معاناة الناس، واخر دليل على ذلك هو مشروع قانون الامن الغذائي المطروح للتمرير في البرلمان، والذي اذا ما اُقِرَ فانه سيبتلع الفائض المالي الكبير الذي حصل عليه العراق بعد الزيادة الكبيرة في اسعار النفط الحالية، ومن يشكك بهذه الحقيقة فعليه ان يتذكر ان الحكومات والبرلمانات والادارات المحلية والمركزية التي تعاقبت على حكم العراق بعد الاحتلال، استطاعت ان تهدر وتسرق وتبذر ما يقرب من ترليون (الف مليار) دولار خلال السنين التسعة عشرة الماضية، ولم ينتج عن هذا الهدر والفساد والسرقة اية برامج اعمارية او تنموية تكون ذخرا للاجيال القادمة. او ان يتذكر المبالغ الكبيرة التي خصصت الى لجان دعم النازحين والمهجرين و(المناطق المحررة)، وكيف تم تحويل هذه المبالغ لجيوب المسؤولين الفاسدين الذين اوكل لهم مهمة دعم النازحين والمهجرين والمخيمات واعادة الاعمار . في حين ان هذا الامر او المشكلة (الامن الغذائي) لا يحتاج سوى الى وزير تجارة نظيف اليد مع كادر يتمتع بنفس المواصفات ومراقب، لكي يتعاقدون على مواد غذائية تغطي حاجة الشعب العراقي وبمواصفات عالية والية شفافة، وليس الى هيئات ولجان متعددة، او ان تقسم المبالغ المخصصة للامن الغذائي على عدد غير محدد من الوزارات، مثل الزراعة والصناعة، التي نهبت كل ميزانياتها في السابق من قبل وزراء لم تتم محاسبتهم ولا يزالون يتمتعون بنفوذ سياسي واسع. او على محافظات تدار من قبل محافظين تخرج التظاهرات اليومية تطالب بعزلهم لفسادهم، ومن يقرا فقرات هذا القانون سيكتشف الجهات التي ستستفيد منه والطرق التي ستهدر بها المبالغ الضخمة التي يفترض انها ستخصص لهذا البرنامج.
وما يزيد في الطين بلة هو ممارسات المجاميع المسلحة المنفلتة التي لا تجد من يردعها. ولنا ان نتصور حالة الاحباط التي يشعر بها المواطن العادي عندما يسمع تصريحات لوزراء سياديين ويترأسون وزارات مسؤولة عن امن العراق يقولون فيها بانهم لا يستطيعون تحريك قطعات يفترض انها تحت امرتهم من مكان الى اخر لحفظ الامن. ولا يستقيلون من مناصبهم احتجاجا، بحيث اصبح العراقيون يتندرون عليهم بالتساؤل هل هولاء وزراء ام (خَرَّاعات خضرة) ( فزّاعات او خيالات مآته حسب اللهجة المصرية). ولم يقم اي رئيس وزراء بعزل وزير مقصر واحد ناهيك عن احالته للمحاكمة، رغم الكوارث التي حصلت في وزارته، فالوزراء الذين يسرقون يُهربون من السجن او يتم العفو عنهم، او لا يتم محاسبتهم بالاساس، وروساء الوزارات الذين افرغوا خزينة الدولة اثناء تكليفهم بهذا المنصب، لا يزالون يمتلكون النفوذ والتاثير في تسيير العملية السياسية ويتدخلون بها ويعرقلونها وبدون اي خجل. وحتى الوزير الذي يفشل في الحفاظ على سرية الامتحانات العامة للطلبة، وتحصل في عهده فضيحة تسريب الاسئلة العامة لابناء واحفاد المسؤولين يبقى في منصبه على اساس انه غير مسؤول عن ذلك، وقبله لم يحاسب الوزير الذي تستر على عملية توزيع بسكويت منتهي الصلاحية على الطلبة الاطفال في المدارس، وغيرهم كثير. اما من نجح في تشكيل فصائل مسلحة تاتمر بامرهم فلقد اصبحوا، بالاضافة الى كونهم جهات مؤثرة في ارهاب المجتمع، قوى مؤثرة في تحديد من يعين في اي منصب عام مهم.
ربما يعتقد من هم في الحكم الان ان مهما قيل وكتب عن الحالة المزرية التي وصلت لها البلاد فان قدرتهم على تدوير انفسهم بما اكتنزوه من سحت حرام كفيل بابقائهم في السلطة الى ما لا نهاية، ولكن التاريخ وتجاربه يخبراننا غير ذلك. حيث ان اكبر واعنف الثورات جاءت على يد الجياع وبعد ان وصل الفقر والعوز درجات غير مسبوقة، والعراق اليوم نموذج واضح لذلك، فهل يعقل ان بلدا يبلغ دخله الشهري حوالي مائة مليار دولار من تصدير النفط فقط، ترتفع فيه نسبة الفقر الى 40%؟ وهل يعقل ان بلدا بهذه الموارد الضخمة لا يستطيع ان يوفر الاحتياجات اليومية الاساسية للناس؟ وهل يعقل ان يزداد ثراء الاحزاب والاشخاص المشاركين في العملية السياسية ويزداد فقر وعوز غالبية ابنا الشعب؟ ان حال كهذا لابد، عاجلا ام آجلا، ان يقود الى ثورة يفجرها الجياع الذين لم يعد لديهم اي شيء يخسرونه. فقديما قال الامام عليه السلام (عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه). هذه هي سنة الحياة طوال الدهر، وكل الثورات الكبرى والعظيمة قامت على يد الجياع وانتصرت لانها تدافع عن حقوقهم. فهل سيطهر من يتدارك الامور ويبدا اصلاحات جذرية ويوقف عجلة التدهور، ام ان ثورة الجياع تبقى هي الحل الوحيد؟
*كاتب واكاديمي عراقي
1931 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع