أحمد العبدالله
حكايات وذكريات عن سرقة السيارات في زمن الحصار
كان الأمن الاجتماعي متحققا بدرجة عالية في بغداد والعراق كله خلال عقد الثمانينات وما قبله أيضا. وكان الناس ينامون مطمئنين إن أرواحهم وأموالهم مصانة, وبعهدة رجال يصلون الليل بالنهار حرصا على أمن الوطن والمواطن. فقد كانت الدولة بمؤسساتها وأجهزتها, مهابة ولا يجرؤ أصحاب الأغراض الخبيثة والنفوس الشريرة التي أعماها الطمع والجشع على ارتكاب جرائم السرقة وغيرها. ويعزز ذلك ويسنده وضع اقتصادي متوازن ولا بأس به, حتى في أصعب سنوات الحرب مع الفرس المجوس وغلق منافذ تصدير النفط وانهيار أسعاره, والتي هبطت لسبعة دولارات للبرميل عام 1986.
وأذكر في أواخر عام 1984, وكنت قد استلمت قبلها بشهور, سيارة البرازيلي المخصصة لضباط الجيش من الشركة العامة للسيارات بثمنها البالغ حينها ألفين وأربعمئة دينار بالتقسيط, وعندما كنت قادما إلى تكريت في الإجازة الدورية, اصطدمت بسيارة حمل صغيرة(تيوتا), والتي وزعتها الحكومة للفلاحين في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات. إذ دخلت سيارة الحمل فجأة إلى عرض الشارع من فرع جانبي قرب مبنى المحافظة. ورغم محاولتي أن أتفاداها بالاصطدام بالجزرة الوسطية؛(العالية نسبيا), ولكن محاولتي تلك لم تُجدِ نفعا, وأصيبت سيارتي بأضرار, فركنتها إلى جانب الشارع العام, لتعذر سحبها. وسافرت إلى بغداد بحثا عن أدوات احتياطية, لم أجدها في تكريت, لتبديل الأجزاء المتضررة منها. حتى تمكنت من إصلاحها موقعيا بعد عشرة أيام. وخلال هذه المدة, لم تمتد للسيارة يد سارق أو عابث!!.
ولكن ما بعد العام 1991, تفشّت ظاهرة السرقة بشكل عام, وخاصة سرقة السيارات, لأسباب منها؛ إن السيارات قد أصبحت سلعة نادرة وثمينة, ويصعب الحصول عليها بسبب الحصار وارتفاع أسعارها, فيسيل لعاب ذوي النفوس الضعيفة عندما يرون أمامهم في الطرقات؛(ملايين تمشي على عجلات)!!. وكذلك مما دفع هذه الظاهرة للاستشراء, هو ضعف وقلة فاعلية أجهزة الأمن الداخلي, وتسلل الفساد لبعض مفاصلها بسبب انعاكاسات الحصار من حيث قلة الرواتب وضعف القدرة الشرائية للموظفين, وذلك يؤدي بالنتيجة لضعف الدولة واهتزاز هيبتها في الشارع.
صارت السيارات بين عشية وضحاها(نقمة) بعد أن كانت(نعمة). فمن جانب غدا الحصول على الأدوات الاحتياطية, عملية شاقة ومكلفة ماديا, أصبحت السيارة من جانب آخر مبعثا للشقاء والخطر المتربص بمالكها, والمضطر للسهر وحراسة سيارته في المنزل أو الشارع على حد سواء, بمواجهة سارقين محترفين امتلكوا الجرأة والأساليب المبتكرة لسرقة السيارات وتهريبها خارج العراق عن طريق(الشمال), أو تفكيكها إلى أجزاء وبيعها داخل العراق. وكثيرا ما كانت تقترن حوادث السطو بالعنف المسلح, وقد يصل للقتل أحيانا.
في أواسط التسعينات أو بعدها بقليل, كان أحد زملائنا الضباط يسكن في بيت بمنطقة القادسية ببغداد قرب بناية الوسائل التعليمية وعلى شارع المطار مباشرة. وكان زميلنا لديه سيارة حكومية؛(سوبر بيضاء موديل 1990), لأغراض الواجب, وهذا الطراز من السيارات يمثل هدفا(دسما) للحرامية, وكان صاحبنا يقضي معظم ليله بحراسة سيارته خشية من سرقتها, كما اقتنى كلب حراسة ليعينه في (أداء واجبه)!!. ولكن كل تك التحوطات لم تنفع, فقد خرج صباح أحد الأيام للذهاب إلى دوامه فلم يجد السيارة, ووجد كلبه نافقا في مرآب الدار بفعل مادة شديدة السميّة استخدمها السراق, لكي لا(يشوّش) على فعلتهم الدنيئة.
وبعض السراق لديهم وسائل لا تخطر على بال أحد لتحقيق غاياتهم وأغراضهم. ففي أحد المرات, عاد رجل من عمله ظهرا, ليجد إن تلاً من تراب الحدائق(الزميج) غالقا المدخل الخارجي لمرآب الدار, وعند استفساره من أهل بيته عن ذلك, أخبروه إن سيارة حمل(قلاب) قد جلبته, وقال لهم سائقها؛ إن صاحب البيت قد كلفه بذلك. فظن إن لبسا قد حصل في الموضوع, ولم يقلقه الأمر كثيرا, وركن سيارته في الشارع بجوار بيته بسبب ذلك. ثم استيقظ صباحا ليجد إن سيارته لا أثر لها!!. فقد تفتق ذهن السارق عن هذه الحيلة ليسهل له عملية (اصطياد) السيارة, وكان العوض(كوم من التراب)!!.
ومن القصص التي سمعتها والتي تبدو أغرب من الخيال, إن شخصا أوقف سيارته في مكان على أحد الطرق الخارجية لاستبدال إطارها المعطوب, وبينما هو منهمك في عمله لتبديل الإطار, أحسَّ بأن السيارة بدأت ترتفع عن الأرض من الجهة الأخرى, وعندما استدار ليعرف ما الذي يجرى, فوجئ بشخص غريب قد نصب رافعة يدوية(جك) تحتها, وبدأ بتفكيك أحد الإطارات السليمة, وعندما استفسر منه- مستغرباً- عمّا يفعله, أجابه بـ(رهاوة)؛ أنا لي هذه الجهة, ولك أنت الأخرى!!. على طريقة عادل إمام في فيلم(بخيت وعديلة)؛(آني نص..وأنت نص)!!. فقد كان ظنه إن صاحب السيارة هو سارق مثله, سوّلت له نفسه سرقة إطارات السيارة المتوقفة!!.
وقد يلعب القدر لعبته الغريبة, فتكون سرقة سيارة عامل رزق وسعادة لصاحبها, لا يخطر على بال أحد. فقد روى لي صديق كان يعمل ضابطا في جهاز المخابرات, إن شخصاً قد أوقف سيارته لفترة وجيزة في أحد شوارع بغداد, وعندما عاد بعد دقيقات, لمح سيارته قد تحركت توّاً وبداخلها شخصان, وعلى الفور أوقف سيارة أجرة وطلب من سائقها ملاحقة سيارته المسروقة, وابتدأت مطاردة مثيرة بدأت في بغداد وانتهت في بعقوبة, وفيها فقد أثرها دون أن يتمكن من اللحاق والإمساك بالسارقين. فترجل من سيارة الأجرة عند أحد مطاعم بعقوبة, مهموما حزينا وتملأه الحسرة والألم, وليريح جسده المنهك, ويروي ظمأه ويقضي حاجته. وبينما هو يغادر المطعم, وإذا بسيارته(المسروقة) قد توقفت أمامه ويترجل منها رجلان, دلفا لداخل المطعم نفسه بعد أن اطمئنّا لفوزهما بـ(الغنيمة)!!. وعلى الفور خفَّ نحو سيارته وشغّلها بالمفتاح الذي كان في جيبه, وانطلق مسرعا لا يلوي على شيء عائدا إلى بغداد. وعندما بلغ منزله, ترجل ليقصَّ لأهله ما حصل له ولسيارته والتي لم يصدق إنها قد عادت إليه بإعجوبة. وكانت المفاجأة الكبرى عندما فتح الصندوق الخلفي للسيارة ليجد فيها حقيبة تحتوي على مليوني دينار عراقي(سويسري)!!. وهو مبلغ كان يعادل 4-5 أضعاف ثمن سيارته.
وصدق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز, إذ قال؛ ((وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ . فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)).
3089 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع