د.صلاح الصالحي
العزل لمنع انتشار العدوى في العراق القديم
تميمة عليها رسم الشيطان لامشتو، ذكرت في أساطير بلاد الرافدين، فقد كانت لامشتو (dLa-maš-tu) أنثى شيطان، أو وحش، أو إلهة خبيثة تهدد النساء أثناء الولادة، وتقوم باختطاف أطفالهم وهم يرضعون، وكانت تقضم عظامهم وتمص دمائهم، بالإضافة إلى اتهامها بعدد من الأعمال الشريرة الأخرى ومنها الامراض المعدية، وكانت لامشتو ابنة إله السماء آنو (Anu).
كان لدى المجتمع في بلاد الرافدين القديم فكرة عن العدوى، على الرغم من أنه لم يكن متجذرا بعد في الفهم الطبي الحديث للـعدوى، فهناك عدة أمثلة وردت في سلسلة من الرسائل حوالي عام (1775) ق.م عثر عليها خلال التنقيبات الاثرية في القصر الملكي في مدينة ماري (Mari) (تل الحريري غرب سوريا على نهر الفرات، وترتبط حضاريا بثقافة العراق القديم)، ففي إحدى الرسائل كتب زمري ليم (Zimri-Lim) ملك ماري إلى الملكة شبتوم (Shibtum)عن امرأة في البلاط أصيبت بالمرض، ومع هذا استمرت في الاختلاط بالنساء الأخريات في القصر، فكانت التعليمات واضحة، وأمر الملك بالتباعد الاجتماعي والعزلة: (سمعت بأن السيدة نانامه (Nana-ma) قد أصابها مرض، وذلك لاتصالها جنسيا مرات متعددة مع ساكني القصر، وأنها التقت مع عدة نساء في محل سكناها، ولهذا أعطيت الأوامر الصارمة لأي شخص بعدم الشرب من الكأس نفسه الذي تستعمله هذه السيدة، وعدم الجلوس على المقعد الذي تجلس عليه، وعدم النوم على الفراش الذي تنام عليه، وعليها قطع الاتصال مع النساء القصر في محل مسكنها، فمرضها شر معد).
وراء هذا التفكير تكمن تجربة أساسية حول انتقال المرض من خلال العلاقة الحميمة الجسدية أو عن طريق استعمال الامتعة الشخصية، وينطبق هذا أيضا على أنواع أخرى من المعاناة المرضية التي لم تكن معدية بالمعنى الطبي الحديث.
هناك عزل مدن بأكملها وحتى الجنود
نحن نعلم من عدة مصادر عن ممارسات طقوسية خارج المدن المتضررة للتخلص من الوباء، بل إن بعض التعاويذ تشير إلى أنه من الممكن منع (حالات الوفاة) في المدينة بأكملها عن طريق استخدام الطقوس التي تتوج بحرق كومة من الاغصان، وسواء كان هذا الحرق هو إحدى وسائل التعامل مع أعداد كبيرة من جثث الضحايا المصابين أو كان عملا من أعمال التبخير لغرض التطهير، أو لاسباب لا تزال غير معروفة،
فلدينا رسالة تعود إلى (1800) ق.م، أمر الملك الآشوري شمشي- أدد (Shamshi-Adad) ابنه يسمح-ادد (Yasmah-Addu) ملك اكيلاتوم (Ekallatum) (تقع في شمال العراق على الضفة اليسرى لنهر دجلة جنوب مدينة اشور) بعزل وحبس مجموعة من الجنود المرضى وحرق دروعهم في المعبد في مدينة إكالاتوم بشمال العراق، والغرض من هذا الاجراء التخلص من الامتعة الملوثه وعزل الجنود المصابين.
وفي فترات لاحقة، يبدو أن سكان بلاد الرافدين استخدموا التبخير أيضا كإجراء ضد العدوى، وهذه الطريقة من الإجراءات المعروفة عند علاج الفرد المصاب، فقد عثر على الكثير من المباخر الصغيرة والكبيرة بعضها يستخدم في المعابد لحرق البخور والعطريات، وبعضها الاخر (المباخر الصغيرة) يحملها الكاهن يطلق عليه الاشب (الواصف) (wasipu) (ašipu)، وهو كاهن التعزيم أو التعويذه ودورة مهم في ممارسة الطقوس والتعاويذ وطرد الأرواح الشريرة والشياطين عن طريق التبخير، وحتما مثل هذه المبادرات كانت موجودة أيضا لحماية مدينة أو ربما حتى دولة بكاملها، ربما هي نتيجة للتجارب السابقة، فهناك عدد من التمائم المختلفة تحتوي على حكمة تتعلق بتفشي الأمراض، فعلى سبيل المثال تنبؤ بحدوث نذير شؤم (سيكون هناك خطر شديد بتفشي وباء ولن يدخل الاخ بيت اخية الاخر)، وفي الحالة الفرد لابد من الصلاة (صلو Salu أو صليتو Salitu) لإبعاد الشر، ويعزم المريض لطرد الشياطين التي تولد الأمراض كما في الفقرات التي ترجع إلى العصر البابلي القديم والتي استعملت لطرد الأرواح الشريرة: (... إنه ذلك الشيطان الذي اقترب من بيتي، يختفي وأنا في فراشي، إنه يمزقني ويرسل عليه الكابوس في الليل، فعسى أن يسلموه إلى الإله حارس بوابة العالم السفلي بأمر من ننورتا حاكم العالم السفلي، وبأمر من مردوخ الذي يقيم في معبد ايساكيلا في بابل، وعسى أن تعرف الباب والمزلاج التي بحماية هذين السيدين) هذا التعزيم هدفه طرد الأرواح الشريرة وتعمل على إبطال السحر وإعاقة عمل السحرة، ويحمي المريض من السحر الأسود، فمن إحدى الأساليب السحرية عمل دمية بشرية تشبه شخصا مقصودا، ومن ثم كسر يدها أو إتلاف عينها سيؤدي هذا إلى إلحاق نفس الأضرار بالشخص الحقيقي أو تؤخذ جزءا من حاجات الإنسان كخصلة من شعرة أو قلامة ظفره أو ردائه وإخضاعها لطقوس سحرية من اجل إلحاق الأذى بذلك الشخص، ولذلك يعزز الكاهن (الاشب) عمله بمعرفة جيدة بالأبراج السماوية ولابد له من زيارة المريض حتى يعرف إذا كان غضب الآلهة سبب المرض أم الأرواح الشريرة، وإذا كانت هذه الطقوس تقام للفرد فلابد ايضا تقام عند تفشي الوباء في المدينة أو الجنود خلال تواجدهم في ثكناتهم أو مسيرتهم إلى المعارك.
(الإله اصاب خرافي)
من المحتمل أن الحيوانات عبر التاريخ كان لها نصيب في انتشار وتطوير الفيروسات والبكتيريا المعدية، والتي يمكن أن تنتقل من الحيوانات إلى الإنسان وخاصة الأمراض التي تصيب الحيوانات، فقد عاش الناس في بلاد الرافدين قديما جنبا إلى جنب مع الحيوانات، وبعض الحيوانات مثل الأبقار كان لها أسماء بشرية لشدة ارتباطها بالانسان الرافديني، وكانت الاغنام والمواشي تتواجد في المناطق المزدحمة بالسكان، ولذلك كان الناس يعيشون جنبا إلى جنب مع الخيول والحيوانات الأخرى في مساكن مغلقة، واليوم نحن نعرف سلسلة من مصطلحات الأمراض التي تصيب الحيوان وكانت مستعملة قديما في بلاد الرافدين، والعديد منها تشبه أسماء الأمراض المعروفة لدى الإنسان، وعلى ما يبدو تعرفوا عليها وعلى أعراضها وخصائصها المرضية، والتي ظهرت في الحيوانات والبشر على حد سواء، وشكلت الأساس لربط هذه الأمراض ببعضها البعض.
من وقت لآخر، كانت قطعان كاملة من الحيوانات تصيبها الأمراض، ربما لأنهم كانوا على اتصال وثيق بها، ففي رسالة تعود إلى عام (1745) ق.م، كتب نقمي-ادد (Niqmi-Adad) ابن موتيجا (Mutija) (واحيانا يدعي بانه الاخ الصغير لتل ابنو (Till-Abnu) إلى الوصي على عرش تل ابنو (مدينة شيخنة (Shekhna) في شمال العراق) بخصوص قطيع من الغنم الذي كان عليه أن يقودها إلى مدينة أخرى، إلا أنه عندما كان على وشك أن يقود الاغنام في الطريق كما يقول في رسالته: (اصاب الإله اغنامي) (أي مرضوا) واستطاع ان ينقذ الاغنام بتحسين علاقته مع الإله! ويقول في رسالته (أنا اعود والخراف معي)، نحن نجهل كيف حسن علاقته مع الإله لكن ما نعرفة ان العراقي القديم كان يضحي ببعض الاغنام للآلهة طلبا لرضاها وابعاد غضبها عنه، فحتما قدم بعض الاغنام كقرابين، وحتما ايضا انه ذبح الخراف المصابة كنوع من العزل، فالإله يتقبل الاغنام الصحيحة والمصابة ما دامت القرابين خصصت للحصول على رضاه.
1790 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع