أحمد العبدالله
المخادعة في معركة (رمضان المبارك)
تعتبر معركة تحرير الفاو من قبل جيش العراق الباسل في 17- 18 نيسان 1988, من معارك العرب والمسلمين الخالدة والفاصلة, والتي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه, وهي لا تقل أهمية عن معارك؛ عمورية وحطين وعين جالوت. وسيقتصر حديثي على جانب من المخادعة التي مارسها الإيرانيون عندما احتلوها في شباط 1986, وكذلك التي فعلها العراقيون وأبدعوا فيها عند تحريرها من رجسهم.
و(المخادعة)؛ من مبادئ الحرب في الفكر العسكري. وورد في الحديث النبوي الشريف؛(الحرب خدعة), وكان الرسول الكريم محمد(صلى الله عليه وسلم)؛لا يقدم على غزوة إلا ورّى بغيرها. وأجاز الإسلام الكذب في الحرب مع الأعداء, ومن حِكَم العرب؛(رب حيلة أنفع من قبيلة). والتورية والخديعة والمكيدة والحيلة؛ هي مصطلحات بمعنى متقارب, وتدل على الدهاء والمكر, وتستخدم في الحروب على الأغلب.
وتوجد تعاريف عديدة للمخادعة, ولكن التعريف الذي خطّه الرئيس صدام حسين, هو أبلغ وأدق وأشمل تعريف اطلعت عليه, ومؤداه؛ هي: (القول أو التصرف الذي إذا ما اطلع عليه العدو, يدخله اليقين بأن هذا القول مقصود لذاته, وإن هذا التصرف متوقع أكثر من غيره, وبذلك ينطلي عليه اكتشاف نوايانا الحقيقية المخطط لها من قبلنا فعلا, في وقت مبكر).
عند بدء الهجوم الإيراني على الفاو ليلة 9-10 شباط 1986, لم تقتنع القيادة العسكرية العراقية بأن الفاو هي الهدف الرئيسي للإيرانيين إلاّ بعد خمسة أيام على بدء اكتساحهم للمدينة. ويقول الفريق نزار الخزرجي في كتابه؛ الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988 مذكرات مقاتل؛(إن المخادعة التي تعرضت لها قواتنا في الفاو كانت من العيار الثقيل ونُفذت على مستوى دولي، ساهمت معلومات وخرائط الاستخبارات الأميركية المسربة في تحقيقه).
ويذكر الفريق رعد الحمداني في كتابه؛(قبل أن يغادرنا التاريخ)؛ إن القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية كانت لا تزال تظن أن الهجوم على الفاو كان للخداع فقط، مما أدى بالنتيجة وفي ليلة 12-13 شباط, لسقوط مقر الفرقة 26 التي كانت متمركزة في منطقة المملحة.
ولكن الرئيس صدام حسين كانت له نظرة ثاقبة ودقيقة عن النوايا الإيرانية, وطالب أعضاء القيادة العامة المترددين بين أن يكون الهجوم الإيراني على الفاو هو الهجوم الرئيسي, أو ذلك الذي وقع على شرق البصرة بالتزامن معه, طالبهم بالإسراع بنقل القطعات العسكرية لقاطع الفاو لإيقاف واحتواء الهجوم الإيراني والحيلولة دون توسعه شمالا نحو البصرة وغربا باتجاه ميناء أم قصر, تمهيدا لبدء الهجوم المقابل, وخاطبهم قائلا؛ ماذا تنتظرون ؟!!.. الهجوم الإيراني على الفاو هو محور الهجوم الرئيسي للعدو, وليس الثانوي.
وقد استشعر الرئيس صدام حسين خطورة الوضع, لذلك زجَّ في اليوم الثاني للهجوم الإيراني, بـ(إحتياط القائد العام), وهو الحرس الجمهوري الخاص, حيث تم دفع ثلاثة أفواج قتالية منه, هي؛ الثالث والرابع وفوج آخر جرى تجميعه على عجل من أفواج الحرس الجمهوري الخاص المتبقية, والتي كانت تتألف,حينها, من خمسة أفواج فقط, والتحمت فور وصولها بمعركة ضروس مع القوات الغازية المعتدية.
كان الرئيس صدام حسين في غرفة الحركات بحضور عدد من أعضاء القيادة العامة للقوات المسلحة, في اليوم الثاني لاحتلال الفاو, حين تلقى اتصالا هاتفيا من الدكتور فاضل البراك مدير جهاز المخابرات, يبلغه فيه إن معلومات المخابرات تشير إلى أن الهجوم الإيراني على البصرة هو الهجوم الرئيس, وإن هجومهم على الفاو هو لغرض المخادعة. فردَّ عليه الرئيس صدام, غاضباً؛ (إن الذي عبّر لك هذا الكلام؛ عميل وخائن, وإن كان أجنبيا فهو يريد أن يخدعك).
وفي الساعة 630, من فجر يوم السابع عشر من نيسان 1988, وفي غرة شهر رمضان المبارك, شرع الحرس الجمهوري والفيلق السابع بهجوم ساحق وماحق وصاعق لتحرير الفاو من رجس الفرس المجوس, سبقته استحضارات كثيرة, وتمكن العراق من خداع الإيرانيين هذه المرة بتدابير مدروسة ومتقنة, والذين أُخذوا على حين غَرّة، ومما شملته خطة المخادعة العراقية, إرسال قطعات عسكرية متعبة أو مموهة إلى الشمال باتجاه منطقة الحدود العراقية الإيرانية في محافظة السليمانية لإيهام الإيرانيين بقرب شن هجوم في هذا القاطع. كما تم تبليغ عدد من الصحافيين والإعلاميين العراقيين قبيل المعركة بالتهيؤ لتغطية عملية عسكرية عراقية دون تحديد مكانها, لكن مع التأكيد عليهم بارتداء(ملابس شتائية ثقيلة)!!, للإيحاء لهم بأن العملية في الشمال.
كما طلب الرئيس صدام حسين إدخال الأمريكان ضمن خطة المخادعة العراقية حتى لا يسرّبوا معلومات للإيرانيين, كما حصل لاحقا في معركة توكلنا على الله الثانية عندما أذاع راديو صوت أمريكا تقريرا قبل الهجوم العراقي بأيام عن عملية عسكرية عراقية قريبة, محددا مكانها. وضمن خطة المخادعة أيضا, قام التلفزيون العراقي عشية يوم تحرير الفاو بعرض وإبراز تقرير مصور ظهر فيه الفريق عدنان خيرالله وزير الدفاع يرافقه عدد من أعضاء القيادة العامة للقوات المسلحة, يقومون بزيارة تفقدية للقطعات العراقية في القاطع الشمالي لإيهام الإيرانيين بأن شيئا ما يجري هناك.
كانت معركة تحرير الفاو, والتي أطلق عليها الإسم الرمزي؛(رمضان المبارك),عملية سريعة ونموذجية, شاركت فيها كافة الأسلحة والصنوف وتم فيها تداخل الصفحات, ولم تستغرق سوى 35 ساعة فقط، وانتهت بانتصار مؤزر للعراق واندحار مريع للقوات الإيرانية المعتدية, التي أصابها الذهول تحت هول الصدمة, ولم تستفق منها أبدا حتى النهاية البائسة لأطماعهم, والتي انتهت بالنصر العراقي العظيم وتجرّع دجالهم الهالك (خميني) كأس السم. وكانت فعلا؛(بوابة النصر العظيم), كما وصفها الرئيس صدام حسين.
وبقدر ما كان احتلالها غصّة في قلب كل عراقي شريف, فقد كان يوم تحريرها, من أجمل وأسعد الأيام في تاريخنا. وتقرر جعل يوم 17 نيسان عطلة رسمية ومناسبة وطنية يتم الاحتفال بها واستذكار وقائعها وأبطالها لغاية الاحتلال الغاشم للعراق في 2003, إذ قامت حثالات إيران التي سلّمها الغزاة مقدرات البلاد, بإلغاء تلك المناسبة ومحاولة مسحها من ذاكرة الشعب, ولكن؛ هيهات..هيهات.
2239 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع