مع الزهاوي جميل صدقي – ٤

                                             

             الدكتور المهندس عبد يونس لافي


مع الزهاوي جميل صدقي – ٤

في الصفحةِ الأولى من مخطوطتِه "المُجْمَلُ مما أرى" يقول لك الزهاوي (1863 - 1936) أنَّ آراءَه كثيرةٌ، وقد انْفردَ بها، وما أوْردَه فيها يمثِّلُ المُهِمَّ من تلك الآراءِ، وكان لها من المُجْمِلين، وهكذا جاء العنوان.

   

ومما تحدث فيه، مسألةُ اختلافِ العناصر. ويُخبِرُكَ أنَّ سببَ اخْتلافِ العناصر، نوعًا ووزنًا، هو أنها كانت مدفونةً في بطون الارض بدرجاتٍ مختلفة، فترى جواهرَ الأعمقِ من هذه العناصر، تحتوي على الكتروناتٍ أخَذَتْها من الاثير الضاغطِ عليها اكثرَ من غيرها. لاحظ غرامَ الرجلِ بالأثير، يذكرُهُ قائمًا او قاعدا!


هنا يُطلِقُ الزهاوي كلمةَ الجواهرِ على الذرات، ويعزو كلَّ شيئٍ الى الالكترونات، ولم يذكر بخيرٍ او ضدِّهِ ايَّ شيئٍ عن نَوى الذرات، ولا أظن انه اطَّلع على نماذج الذرة التي تقدم بها علماءُ الذرة آنذاك، وان كانت في بداياتها، ولو حصل له ذلك لَما تَوانى عن الذكرِ، لذلك اعتقدُ انه حينما ذكر الالكترونات، انما قصد الالكترونات المدارِيَّة.

كما قلت في مقالاتٍ سابقة، انا لا أريد أن أُحَمِّلَ الرجلَ ما لا ينبغي أن نُحَمِّلَّهُ إيّاه، كما أني لست بصدد التعرُّض لهذا الموضوع علميًّا، إذ كما هو معلومٌ الآن لدى ايِّ مبتدئٍ في دراسة مكونات الذرة، أنَّها تتكونُ من الكتروناتٍ ذاتِ شحنةٍ سالبةٍ تَسْبَحُ كسُحُبٍ في مداراتٍ تبعدُ وتقرُبُ من النواة ذاتِ الشحنةِ الموجبةِ، وكأنها تُسَبِّحُ الله على طريقتها الخاصة، وإنْ كنا لا نفقهُ تسبيحَها، اما النواةُ الموجبةُ فيتركَّزُ فيها وزن الذرة اذ انها تحتوي على (بروتوناتٍ موجبةٍ ونيوتروناتٍ متعادلةٍ تُمْسِكُها قوةٌ نوويَّةٌ هائلةٌ رابطة).


وأما بدايةَ تكوُّنِ العناصر، فقد كانت قبل نشأةِ الارضِ أصلاً، فحسب نظرية الانفجار الكبير، انَّ الكونَ عقب ذلك الانفجار قد بَرَدَ الى درجةٍ مكَّنت من تكوُّنِ الجُسَيْمات الابتدائيةِ من بروتوناتٍ ونيوتروناتٍ والكتروناتٍ، ومن ثَمَّ تكوُّنِ ذرات الهيدروجين ثم الهيليوم نتيجة تصادم البروتونات والنيوترونات، وتحكُّمِ القوةِ النوويةِ الرابطةِ بين مكونات النواة. وحين عملت الجاذبيةُ، والزهاوي ليس من أنصارالجاذبية، على سَحْبِ العناصر الاولية هذه، تشكَّلتْ سُحُبٌ عظيمةٌ أدَّت الى تكوُّنِ المَجَرّاتِ وسائرِ النجوم والكواكبِ بما فيها من عناصرَ أثقلَ تبعًا لمكونات نَواها والكتروناتها، جرّاءَ التصادماتِ المتتاليةِ على مدى أزمان ٍسحيقة تحت تاثيرالضغط والحرارة الشديدين.

ثم يقول لك الزهاوي: أنَّ كلَّ العناصرِ تَشِعُّ الكتروناتٍ إلّا أنَّ معظمَها يكون بطيئًا في اشعاعه لذا فلا يكون اشعاعُها محسوسًا كما هو في إشعاع الراديوم. نقول ليس كلُّ العناصر مُشِعَّةً فما كان منها مستقرًّا فلا يَشِعُّ، وحتى المُشِعَّةُ بعد ان تبعثَ بإشعاعاتِها، تؤولُ بعد عمليات من التحلُّلِ النَّووِيِّ الى الحالةِ المُستقِرَّةِ فيتوقَّفُ عندها الإشعاع.

ثم ان الاشعاعات مصدرُها النواة، فتكون إمّا إشعاعات بيتا او ألفا او كاما ولكلِّ واحدةٍ منها خواصُّها. فأشعة بيتا هي (اما الكترونات او بوزيترونات عالية الطاقةِ والسرعةِ لها نفس الكتلة لكنها مختلفة الشحنة) ويكون مصدرها النواة وليس الالكترونات المدارية حيث ينتج الالكترون عن طريق تحول النيوترون الى الكترون وبروتون، فيبقى البروتون في النواة فيزيد من عددها الذري وأما الإلكترون فينبعث عن النواة فيقبر بسرعة نتيجة اصطدامه مع الذرات الأخرى حيث يفقد طاقته. أما أشعة الفا وكاما فهي ايونات الهليوم وفوتونات لاداعي للإستغراق في وصفها هنا.

انا اذكر هذا دون أن أُوغِلَ لأنَّ الغايةَ هي التعريفُ بما كان يفكر به الرجل، وكيف كان ينتقل ببراعةٍ من شخصٍ:
- مهمومٍ بالدعوةِ الى تحرير المرأة، والحثِّ على طلب العلم واللحاق بالعالم المتقدم،
- مُنشغلٍ في مقاومة الاستبداد،
- مُنهمكٍ في تدريس طلبة القانون، وأعباء مجلسِ النواب ومجلسِ الأعيان في العهد الملكي،
- محترفٍ مهنةَ المحاماة،
- مُكثِرٍ من النشر في مصرَ وبيروت وبغداد،
- مشاركٍ في فعاليات المجتمع المتنوعة،
الى شخصٍ يُعْنى بالتفكير عميقًا بأمورٍ لا يتحدث فيها اناس من جيله وبيئته،
وتلك لعمري مأثرةٌ تُحسَبُ له، فخِصلةٌ كهذه لا تتوافر إلاّ عند النخبة النادرة، وهكذا كان شاعرنا الكبير.

دعني الآن أبتعد قليلًا لأُخْبرَك – سَلِمْتَ - أنَّ شاعرَنا المفكِّرَ هذا هو ابْنُ محمد فيضي بن الملا أحمد بابان الزهاوي، مفتي بغداد. وهو كرديٌّ من عائلةٍ مخزوميةٍ كريمةٍ معروفةٍ في السليمانية شمال العراق، إلّا أنَّه لم يكن ملتزمًا دينيًّا وإن بدأ بدراسةِ علومِ الدين في طفولته، ولكني لا اظن أنَّه كان ملحدًا.

لقد شعرت أنَّي قريبٌ من الزهاوي على الرغم من البعد الزمني الكبير بيننا، اذ استطعتُ بحسّي أن أتصوَّرَ بساطةَ الرجل وبساطةَ عائلته، حين قابلت ابْنَ اخيه الشيخ امجد الزهاوي ( 1882 - 1967) شخصيًّا، وكنت حينها في مقتبل العمر. نعم لقد بلغ بيَ التحدي ان ازورَ الشيخَ دون سابقِ معرفةٍ أو طلبٍ واجلسَ معه في بيته، وكان مفتيًا للعراق انذاك، وان اكلمَه في بعض المسائل مستفسِرًا ومتعلمًا، لأستشعرَ ان هذه العائلة عائلةُ بسيطةُ متواضعةُ على الرغم من انها ركيزةٌ من ركائز العلم في العراق وفي العالم الاسلامي. استطيعُ بكلِّ قناعةٍ حينما استحضرُ جلستي مع الشيخ امجد الزهاوي ان اتصور سهولة تعامل الناس مع عمِّهِ جميل صدقي الزهاوي على الرغم من أنهما كانا في عالَمَيْنِ مختلفين.

آهٍ كم كانَ زمنًا جميلًا وحدثًا فريدًا أثارعجب الكثيرين حينها ممن هم اكثرُ مني علمًا واكبرُ مني سنًّا أن اتمكنَ من الجلوس الى الزهاوي الشيخ لوحدي، وأراهُ دون تكلُّفٍ مُجَلَّلًا بوقارِهِ الرباني. لقد حظيت بحسنِ إنصاتهِ وفرحته لحديثي معه، حيث كلَّمني وكأني احدُ طلابه. رحم الله الزهاوِيَّيْن من رأيتُ ومن لم أرَ.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1122 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع