أ.د. ضياء نافع
شئ عن غوركي وكتابه القديم واوكرانيا
صدر هذا الكتاب عام 1963 في موسكو , اي قبل تسع وخمسين سنة باكملها , ويقع في (570) صفحة من القطع المتوسط , وقد اهداني اياه أحد زملائي القدامى ( كان طالبا معي في جامعة موسكو قبل اكثر من نصف قرن) , وقال لي وهو يبتسم , ان الكتاب لا يعتق مثل الانسان , شكرته طبعا , وقلت له , ان ملاحظتك جميلة ودقيقة و صحيحة , فالانسان هو الذي يصبح عجوزا بمرور الزمن ولكن الكتاب يبقى حيويا ومتفاعلا مع الحياة رغم الزمن , وقلت لزميلي الروسي ايضا , ان الاحداث العاصفة حولنا ( ونحن في اواسط آذار2022 ) تعرقلني عن قراءة هذا الكتاب القديم في الوقت الحاضر , فقال لي , لكن بعض صفحات هذا الكتاب تتحدث عن مشاكل عالمنا المعاصر اليوم , وقد سألته رأسا عن تلك الصفحات , فأجابني وهو يبتسم – حاول ان تجدها انت بنفسك , مثلما فعلت أنا . أثارتني كلمات زميلي الروسي فعلا , ودفعتني رأسا الى قراءة هذا الكتاب القديم , كي اكتشف تلك الصفحات اولا , وكي أتأكّد ثانيا من صحة رأي زميلي ...
مؤلف الكتاب مكسيم غوركي , والذي توفي عام 1936 , ومن الواضح ان هذا الكتاب تمّ اعداده بموسكو في الستينيات , وقام المعدّون بتجميع مقالات عديدة كتبها غوركي هنا وهناك ونشرها ضمن ما نشر في الصحف والمجلات الروسية آنذاك . الترجمة الحرفية لعنوان الكتاب – بورتريتات ( جمع كلمة بورتريه ) , اي صور قلمية لشخصيات محددة مرسومة من قبل غوركي بالكلمات , وعددهم 28 شخصية بالتمام والكمال . صور بعض تلك الشخصيات مطبوعة على غلاف الكتاب , وقد عرفت بعضهم فقط مثل لينين وتشيخوف و تولستوي وكورولينكو ( وقلت بيني وبين نفسي , انني اعرف ما كتبه غوركي عنهم , ومن المؤكد ان زميلي لم يقصد تلك المقالات ) , ولكنني لم استطع معرفة الصور الاخرى المطبوعة على الغلاف المذكور , وعدم معرفتي لتلك الصور أثارت رغبتي اكثرللاطلاع على ما كتبه غوركي عن هؤلاء الذين لا أعرفهم , اذ ربما هي التي أشار زميلي الى انها تتحدث عن مشاكل عالمنا المعاصر اليوم . و بدأت اتوقف عند تلك الاسماء المجهولة من قبلي , وأقرأ مقالات غوركي عنهم , وابحث – طبعا - ما بين السطور عن ( احداث عصرنا !) .
وهكذا وصلت الى مقالة غوركي عن كوتسيوبينسكي , الذي لا اعرف عنه اي شئ نهائيا , بل ولم اسمع باسمه بتاتا , ولكني انتبهت الى جملة جميلة وغريبة لغوركي عنه , حيث يقول – (ان كوتسيوبينسكي يحب ان يتكلم عن اربعة مواضيع , وهي – الانسانية والجمال والشعب واوكرانيا) , فاستنتجدت رأسا انه اوكراني , ورجعت الى قائمة الملاحظات الموجودة في نهاية الكتاب حول تلك المقالات , وعرفت ان غوركي كتب هذه المقالة عام 1913 , اي قبل قيام الاتحاد السوفيتي وثورة اكتوبر ( 1917), وحتى قبل الحرب العالمية الاولى ( 1914) , وأخذت ملامح رأي زميلي حول مشاكل عالمنا المعاصر تتوضح تدريجيا امامي , فمقالة غوركي هذه , اذن , عن شخصية اوكرانية , ومن المؤكد ان زميلي وجد فيها بعض آراء غوركي حول اوكرانيا , وربط بين تلك الآراء وما يجري اليوم من احداث عسكرية عاصفة ورهيبة ومؤلمة جدا بين روسيا واوكرانيا , او واقعيا , بين شعبين شقيقين عاشا طوال حياتهما معا (ولم نكن نستطيع – نحن العراقيين– حتى التمييز بينهما عندما كنّا طلبة في الجامعات السوفيتية بستينيات القرن العشرين) . وهكذا بدأت أقرأ- بامعان وانتباه - مقالة غوركي عن ميخائيل ميخائيلوفيتش كوتسيوبينسكي ( 1864 -1913 ) .
وعرفت من مقالة غوركي هذه , ان كوتسيوبينسكي كاتب اوكراني كبير كتب نتاجاته من شعر ونثر باللغة الاوكرانية طوال حياته - منذ بداية طريقه الابداعي عام 1890 الى نهايته عام 1913 , اي ان نشاطه الابداعي من بدايته الى نهايته كان في الامبراطورية الروسية وباللغة الاوكرانية حصرا , وهذه هي النقطة الحيوية والاساسيّة في هذا الربط العضوي بين الماضي الذي يسجّله غوركي بدقّة وابداع في مقالته تلك عن الكاتب الاوكراني كوتسيوبينسكي وبين الحاضر الذي يذكّرني بمقطع من قصيدة بابلو نيرودا الخالد –
...تعالوا انظروا
كيف يسيل الدم
في الشوارع ...
اتصلت بزميلي , وقلت له ضاحكا , لقد اكتشفت ( مشاكل عصرنا ) في الكتاب العتيق كما قلت لي , وحدثته عن مقالة غوركي تلك , والتي تؤكد لنا بوضوح , ان اللغة الاوكرانية وآدابها قائمة ومزدهرة في ارجاء اوكرانيا منذ الامبراطورية الروسية . ضحك زميلي ايضا وهو يستمع اليّ , وقال لي – كلانا نضحك , ولكنه (ضحك عبر الدموع) , وسألني , هل تذكر هذا التعبير , الذي درسناه في الكليّة عن غوغول ؟ , فقلت له , طبعا أتذكره , وهل يمكن لي ان أنسى غوغول ؟ , وأضفت قائلا له - يوجد شاعر في تراثنا العربي , وهو المتنبي , قال قبل الف سنه من غوغول , انه ( ضحك كالبكا ) , فأجاب زميلي الروسي – نعم , نعم , أعرف ان تراثكم عظيم .....
990 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع