د.صفاء العمر
الم يحن الوقت للمراجعة الشجاعة؟؟
كل عام ، ومن سنين طويلة مضت ، نقرأ في الإعلام وجهات نظر عديدة تتعلق بالصراع بين القوى الوطنية او ما تبقى منها على أرض الواقع . البعض يحتفل بسعادة بحدث سياسي معين ، في حين يعتبره البعض الآخر في مصاف الكوارث . وكل منهما له تقييم معين ومختلف لذلك الحدث او غيره ، الا انهم يلتقون عند نقطة الاختلاف ..... وعدم اللقاء .
وتبقى فجوة الخلاف وعدم الاتفاق بينهم ، بل ومزيدا من الافتراق هي الحاكمة ، وهي المؤثرة على مستقبل الوطن . وليعلم الجميع ان حق الوطن ومستقبله اكبر واقوى من حقوقهم الحزبية او المهنية او العقائدية. هنا اتحدث عن القوى الوطنية التي كانت مؤثرة على الشارع العراقي ، ومنذ العهد الملكي . هذه القوى دخلت مع / او ضد بعضها البعض في معركة او صراع سياسي مستمر منذ تموز عام 1958 والى تاريخ اليوم. وأطلق عليه - إجتهادا ومجازا - مصطلح ( صراع اليتامى). المثقفين في وطني كانوا يعتقدون ان هذه القوى ستراجع نفسها وعملها ومواقفها بعد الاحتلال الأمريكي- الايراني للعراق وتبدأ بعملية نقد موضوعي لنضالها ومواقفها . ولكن الأسى والحزن طال قلوب وعقول كل الوطنيين العراقيين ، وليس المثقفين فقط ، لإهمال هذه القوى فكرة المراجعة ونقد الذات بهدف توحيد الصفوف ومجابهة الاحتلال بكل الوسائل الممكنة . حيث لا زال الجدل والنقاش بل تبادل الاتهامات مستمر بينها. أما توحيد الصف الوطني ، والارتفاع فوق سقف الخلافات ، ومصارحة الشعب بالأخطاء، فقد بقي حالة اعلامية عامة لها ، وذات ضرر كبير لها وللعراق ، او اصبح مادة نظرية تثقيفية داخلية فقط ، وهو أمر مؤسف حقا.
انطلق في هذا الحوار من إطروحات المفكر ميشال عفلق التاريخية حول العمل (الثوري) وممارساته ، وضرورة وضعه باستمرار تحت المجهر للمراجعة والنقد الموضوعي ( نقد الذات ونقد الآخر) ، والشجاعه المطلوبة في فعل هذا انطلاقا من المسؤولية التاريخية للقوى الوطنية (كلها، واقول كلها دون إستثناء) - احزاب ومنظمات وأفراد - امام الجماهير ، عن حال الوطن والأمة والشعب بعد ان سلمتها قيادة المرحلة ، على أمل الانتقال بها إلى الوضع الافضل.
يقول ( م .عفلق) وبتشخيص علمي لموقف الحركة الثورية : اننا (( لا يمكن ان نجد سبيلا الى عقول الجماهير وقلوبها اذا لم ننطلق من التجرد الكامل والنزاهة التامة والإرادة المؤمنة.... وان لا نتجاهل قسطنا من الخطأ ، بل نتكلم بلغة الجماهير العفوية وبنظرتها التي لا تقر الخلافات مهما كانت وجاهتها امام خطر الغزو الاستعماري الصهيوني المدمر لوجود الامة)).
و(( وليس غير هذه اللغة قادرا أن يعبر عن الحاجات العميقة بهذا الظرف )) وإن ينقل القوى الوطنية الى المناخ الثوري الحقيقي. وعندما نعلن للجماهير اخطاءنا ( سيسمعها الاعداء ) ويحاول استغلالها ، ولكن ، كما يكمل عفلق (( عندما نقرر أن نعلن أفكارنا للشعب فإننا ننطلق من الإيمان بأن الشعب يتفاعل مع هذا الفكر ويتمكن من ضرب الاعداء ويفوت عليهم استغلالهم ومؤامراتهم)) . (( والحركة الثورية الأصيلة تستطيع أن تصحح الأخطاء مهما كبرت . ولكن التصحيح لن يأتي صادقا وجديا الا بضمانة من وعي الجماهير ومراقبتها ومسؤوليتها)). ويستمر بالقول ((.... في الأحداث المصيرية التي بها أمتنا الآن بعد انكشاف النواقص والأمراض ، تنهار جملة اشياء من بينها الشرعية الشكلية التي تتناقض بشكل فاضح مع ارادة الجماهير ومصلحتها)).
من هذه الافكار أسجل الملاحظات التالية لمناسبة الجدل المحتدم والمتبادل والمتواصل اعلاميا بين البعثيين والشيوعين الحقيقين ( لا شيوعيي الاحتلال الامريكي والاصطفاف الطائفي ) ، والقوى القومية ومشاركة النخب السياسية المستقلة حول أحداث الفترة منذ العام 1958 الى عام احتلال العراق في 2003 . هذا الجدل ومعه تبادل الاتهامات المستمر بينهم ( مع الأسف) بعد 16 عاما من احتلال العراق وسيطرة قوى الفساد والعمالة للاجنبي على مقدرات هذا البلد ، وبعد التضحيات البشرية والمادية والمعنوية التي قدمها الشعب وفي المقدمة القوى الوطنية كلها على (مذبح) النضال. وعقب انهيار الاستقلال ( بكل اشكاله) بعد 80 عام من العمل للحفاظ عليه .
فالبعث يتهم الشيوعي ، والشيوعي يتهم البعث. وكلاهما يتهمون القوميين العرب ، وهؤلاء يتهمون البعث والشيوعي ، والنخب السياسية المستقلة الاخرى توجه أصابع الاتهام لهم جميعا وتحملهم مسؤولية انهيار العراق . الكل يتهم الكل عن مسؤوليته لانهيار وتشتت الحركة الوطنية وعن وصول العراق لوضعه
الحالي ، وكلهم ، بالمقابل ، يبرؤون أنفسهم من اي اتهام يوجه لهم . والكل ايضا يضع المسؤولية على القوى الخارجية ( الاعداء) لكل ما حصل للعراق كوصفة استباقية لرفع قميص عثمان الذي نعلق عليه اخطائنا . والكل يحاول ان يقلل من حجم أخطائه وخطاياه خلال المرحلة الماضية ، بل يحاول ، احيانا ، أن يتملص منها ويحملها لغيره.
دعونا نتساءل : أين تكمن الثورية والعلمية في مواقف كهذه ؟ وما هي المسؤولية الأخلاقية للحركة الوطنية تجاه ما حصل للعراق والامة العربية؟ واين تكمن الموضوعية في طروحات القوى الوطنية وتقييم مواقفها بشكل علمي؟ وما هو شكل الشعور بالمسؤولية التاريخية التي نتحدث بها جميعا عند عرض فكرنا واهدافنا وعملنا ؟.
وعند المرور على ذاكرة التغيير في 8 شباط عام 1963 ( كمثال للأحداث التاريخية) التي يكتب عنها المؤيدين باعتباره ثورة ، ويكتب عنه المعارضون باعتباره إنقلاب دموي ، فنحن بهذا نعيش دوما حالة الجدل الغاضب واليتيم وغير المجدي . والمرحلة الحالية ووضع العراق المحتل ، ومأساة الشعب ، كلها تتطلب مناقشة تلك الأحداث بصورة موضوعية ، وتبيان الوقائع والمواقف الايجابية والسلبية معا لكل طرف وطني ، لغرض تجاوزها بعد تحديد الدروس المفيدة منها . أن الهدف الحقيقي النبيل لذلك التغيير يكون اساس عملية المراجعة للأحداث ، مترافقا مع وجهات نظر الآخرين بالنقاش وبقناعاتهم مع عرض صادق لمواقفهم . هدف عملية المراجعة هو توضيح الوقائع كما هي على الارض وقت حدوثها وضمن ظروفها الموضوعية ، وليس كما يرغب بعضنا الانطلاق من وجهة نظره فقط لتحديد شكل وطبيعة الوقائع . كما ليس من الانصاف والموضوعية انتقاء حدث معين والتركيز عليه وتناسي ( وبتعمد) حدث آخر ، او موقف آخر له صلة محورية به ، عند عرض وجهة نظر او موقف . ثم ان اي نقد للذات في كل موقف سلبي لهذه الوقائع سيكون ذو أثر ايجابي على وحدة الحركة الوطنية ، ويوضح حقائق المشهد لذلك الموقف السلبي دون أي انحياز . ولغرض تجاوز تلك الاحداث وتجاوز تداعياتها بروح وطنية ، فإن ذلك يتطلب شجاعة نادرة للاعتراف بالخطأ ومصارحة الشعب به كما يطرحها مفكر البعث العربي ميشال عفلق . وتشمل هذه المراجعة ما سبق تاريخ 8 شباط من أحداث سياسية وأمنية ، بدإ من 14 تموز 1958, والتي
كانت المدخل الواقعي للصراع اليتيم والتشتت للصف الوطني والإصطفافات الحزبية والسياسية الضيقة التي ألقت بظلالها القاتمة على المشهد السياسي في العراق لسنوات طويلة بعدها.
يقينا ان لدى كل من القوى السياسية الوطنية مناسبات تحتفل بذكراها سنويا . ويأتي هذا التذكر بشكل احتفالي نظري واعلامي وتحزبي وإنفعالي ، دون النظر لما حصل للقوى الوطنية الأخرى من ظلم واضطهاد نتيجة لاخطاء ومواقف سلبية متبادلة لاطراف الحركة الوطنية حينها وفي ظروفها الموضوعية واسرارها آنذاك ، ولكل مناسبة على حدة . ودون اي رؤيا جديدة تنقل الواقع الوطني والشعبي الى مواقع اكثر تلاحما وتوحيدا للصفوف. أن (عملية التثقيف) الداخلية لاعضاء ومؤيدي الأحزاب ، يجب أن تغادر صيغة الشحن العاطفي بالمناسبات والاعتداد المغالى فيه بالذات الحزبية ، الى صيغة التثقيف بضرورة الاعتراف بالأخطاء السابقة ، والتثقيف مجددا على بناء الرابطة الوطنية الموحدة في عقل منتسبي الأحزاب اولا ومؤيديهم ، وليس تعميق جراحات الماضي . التثقيف على جراحات الماضي وابرازها في كل مناسبة احتفال او تذكر ، هو في مصلحة القوى التي تريد إبقاء العراق في حالة التأخر والتبعية والفساد . بل أن هذه القوى لا تريد لهذه الجراحات ان تندمل ، وتسعى الى ابقاءها نازفة في عقل وتفكير وذاكرة المواطن العراقي ، لأن حصيلتها هو مزيد من افتراق القوى الوطنية وتناحرها ، وهذا هدف من اولويات القوى الطائفية الفاسدة في المجتمع . اي اننا يجب أن نبحث في كتابة تاريخ تلك المرحلة بشكل موضوعي جديد بعيدا عن العاطفة والتحزب والتخوين وثقافة امتلاك الحقيقة واحتكارها ، فلا يوجد بيان للحق والحقيقة الا القرآن ، وكل ما عداه مطروح للنقاش والحوار والبحث.
إن ثقافة امتلاك الحقيقة واحتكارها من قبل فئة او حزب او ايديولوجية ، هي تعبير عن انغلاق العقل البشري تجاه متغيرات الحياة وحركتها المستمرة ، وبالضد من حقائق التاريخ البشري وحركته ومسيرته المتصاعدة . وهذا يتطلب من الكل بعض ( التواضع الثوري) في رؤية الأحداث السابقة وطبيعتها . هذه الرؤية التي تختلف من فرد إلى آخر في ذات الحزب الواحد فكيف تكون سعة اختلافها بين الأحزاب ذات القناعات المختلفة. وهذا الاختلاف هو قانون طبيعي في الحياة ، لاختلاف طبيعة تشكل عقل انسان عن آخر حتى في العائلة الواحدة ، او البيئة الواحدة ، والمجتمع الواحد.
وهنا يأتي تذكر المثل العربي : الى متى يبقى البعير على التل ؟ وأرجو السماح لي باستخدام هذا المثل اصطلاحا وترميزا في هذه المناقشة . فإلى متى تبقى اي من الأحزاب والقوى الوطنية تنظر للآخرين من موقع متعالي ، وحتى أعلى من التل ، فكرا ونضالا وتضحيات وامتلاكا للحقيقة ؟ ألم يحن الوقت لها لممارسة التواضع الثوري ( وكما تقررها افكارها واخلاقها) ، والنزول من التل الى سفوحه التي تتوطن الكل وليس البعض ، بل تتوطن الشعب كله .
الهدف الاساسي للقوى الوطنية هو إنقاذ العراق وشعبه من الكوارث التي تحل به يوميا منذ 9.4.2003 ، وسوف تستمر الكوارث اذا لم تتحمل القوى الوطنية من أحزاب ومنظمات وأفراد وتشكيلات الشباب* ، رغم كل مصاعب المواجهة ، مسؤولية إعادة تنظيم رؤيتها وعلاقاتها وقواها ، وحسب توافقات وبرنامج وطني موحد ، أول فقرة فيه هي تشكيل كتلة وطنية تاريخية تتفق على برنامج مرحلي هدفه التحرير والتقدم باتجاه خطوات إستعادة الوطن لأبناءه . هذا الهدف لن يتحقق بوجود وتغول عقلية وثقافة امتلاك الحقيقية كلها ، وبكون هذه القوة او الشريحة الوطنية اكثر اخلاصا للوطن من الأخرى، وأكثر التزاما بطموحات الشعب من الآخرين . وتحقيق هذه الخطوة : ** يتطلب البدء بالمراجعات التي اوضحناها اعلاه ، ** ويتطلب تواضعا ثوريا في تحليلات ومواقف القوى الوطنية جميعا لوضع العراق والمسيرة السياسية فيه خلال نصف القرن الماضي . ** ويتطلب ايضا قراءة واقعية وعلمية لواقع العراق الحالي وطبيعة قواه الاجتماعية والسياسية ، والقوى الداخلية والخارجية المؤثرة في تقرير مصير البلد . ** ويتطلب ايضا وعي الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي نتجت كتداعيات للاحتلال والفساد ، وما تفرضه من مواقف وعمل وتضحيات. لقد كتب الكثير عن كل هذا ، فالمطلوب هو برمجة وبلورة كل هذه الافكار والكتابات والتحليلات والمواقف بشكل واقعي وعلمي لتحديد البرنامج المطلوب ، باهداف مرحلية واخرى استراتيجية.
ان العراق والأمة العربية ليسا بحاجة الى التذكير فقط بالأحداث السابقة على أهميتها، ولكنهما بحاجة ماسة لقوة وطنية موحدة تواجه الواقع الحالي خلال العقود القادمة . موحدة ومصحوبة بتخطيط وعمل جدي ومثابر في تغيير بوصلة المسار الحالي للأحداث باتجاه إنقاذ الامة . وهذا لن يتم ، في
اعتقادي، الا بالمراجعة الشجاعة لما حصل سابقا ، والقناعة الواعية بأن إنقاذ العراق والأمة لا يحصل الا بوحدة القوى ذات الانتماء والولاء الوطني في كتلة تاريخية عريضة .
--------------------------
* ملاحظة دور الشباب العربي في الانتفاضات الشعبية
** تم ارسال المقال الى موقع الكاردينيا الثقافي للنشر
1346 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع