أحمد العبدالله
(ترييف) بغداد
هناك موضوع, تم اللطم والعويل عليه كثيراً, سواء بعد الاحتلال في 2003, أو قبله. ومن جملة اللّطامين؛(حسن علوي),في كتابه المحشو بالأكاذيب والترّهات؛(العراق..دولة المنظمة السرية), وفيه يطلق وصف؛(المستوطنون الجدد)!!, الذين (احتلّوا)!!بغداد, والقادمون من(القرى المعزولة على دجلة) !!.
إن هذا القول المعيب, والذي فيه اساءة بالغة لمواطنين عراقيين مخلصين لبلدهم, مردود على قائله, فالقرى التي وصفها بـ(المعزولة)!!, لا ينطبق عليها هذا الوصف, لأنها تقع على طريق دولي برّي مع خط للسكك الحديد, يربطان العراق بالدول الخارجية, وكذلك هي تقع مباشرة على نهر دجلة, يوم كانت البواخر تمخر فيه صعوداً ونزولاً. كما كان أبناؤها قد درسوا وتخرجوا في المدارس والمعاهد, منذ مطلع القرن العشرين, وقسم كبير منهم, عملوا في التعليم في جنوب العراق, حيث تنتشر(القرى المعزولة),حقاً وليس زعماً, في أعماق الأهوار والمستنقعات, والتي لا يمكن الوصول إليها إلا بشقِّ الأنفس, ولم يعرفوا وسائل الحياة العصرية في أبسط صورها, إلاّ في وقت متأخر من عقد السبعينات. فأيهما أحق بهذا الوصف, هذه القرى, أم تلك ؟!!.
أما وصفه للقادمين إلى بغداد من المناطق الغربية, للإقامة المؤقتة في أغلب الأحيان, لغرض العمل أو الدراسة, بأنهم؛(مستوطنون)!!, فيكفي هذا الوصف لكي نعرف طينة هذا الرجل المغرقة في أوحال الطائفية والعنصرية, والنظر بعين عوراء للأحداث والوقائع, رغم محاولاته العقيمة لإخفاء ذلك بدثار من القومية والبعثية التي يتستر خلفها. فهو يرى القشّة في عيون الآخرين, ولا يرى القذى في عينيه, أو عيون طائفته.
وفي الوقت الذي يطلق هذا الوصف المشين على مئات أو آلاف, على أكثر تقدير, من القادمين من المناطق الغربية, ومعظمهم من حملة الشهادات, وأتوا لغرض الدراسة في كليات ومعاهد لا توجد في مناطقهم, أو التوظيف في دوائر الدولة أو العمل في القطاع الخاص, ثم ما يلبثوا أن يعودوا لديارهم فور انتهاء العمل أو الدراسة, ولا يبقى منهم مقيماً في العاصمة, إلاّ القليل, رغم إن الديار ديارهم, والأرض أرضهم, وهم أهلها وبناتها وحماتها. فإنه يتعامى, في الوقت نفسه, عن الهجرات المليونية من القرى الجنوبية, وخصوصاً من قرى وقصبات مدينة العمارة, والتي اجتاحت بغداد, والبصرة بدرجة أقل, وأغلبيتهم الساحقة من وسط اجتماعي وثقافي متدنٍ للغاية, ونقلوا كل موروثاتهم السلبية وأمراضهم الاجتماعية, إلى بغداد, فخرّبوا هويتها الحضرية, وتفشّت الجريمه والجهل والعادات القبيحة بفعل تلك الهجرات الكبيرة, والتي ابتدأت منذ عقدي الأربعينات والخمسينات, لتبلغ ذروتها في فترة حكم عبد الكريم قاسم.
وقد خطّط (قاسم) لإغراق بغداد وإحاطتها بحزام من أولئك الوافدين من أهوار الجنوب الفارّين من ظلم الاقطاع, ليلعب على مشاعرهم الساذجة, ويستخدمهم أنصاراً له في (وقت الشدّة), ويشفي نرجسيته وعقده النفسية, بزياراته الليلية شبه اليومية لهم في ضاحية الثورة الملاصقة لحدود بغداد الشرقية, ليسمع هتافاتهم وأهازيجهم؛(بالروح بالدمّ, نفديك يا كريم)!!. وعندما حوصر في وزارة الدفاع لمدة 24 ساعة في 8 شباط 1963, لم يهبّوا لنجدته, بل تركوه يكابد شعوراً قاتلاً بالعزلة والخذلان, رغم إرساله مرافقه الأقدم؛(وصفي طاهر) لحثّهم على الزحف لتطويق وزارة الدفاع, ولكنه عاد خائبا. وكان قد وزّع عليهم أراضٍ بمساحات صغيرة جداً لا تتجاوز الثمانين متراً, فدمّر بغداد وسلب هويتها الثقافية والحضارية, وبدأت من تلك اللحظة, ما عرف بـ(ترييف المدن),بدلا من(تمدين الريف).
أما الحكومات العراقية التي أعقبت حكم قاسم,[وخصوصاً حكومة صدام حسين, التي تتحمل الوزر الأكبر في تكريس هذه المشكلة, وتصرفت معها كأمر واقع], فلم تتعامل معها بجديّة, ولم تسعَ لحلول جذرية وعادلة, تحفظ لبغداد رونقها, دون أن تلحق الضرر بمواطنين عراقيين, اضطرتهم ظروفهم الصعبة للهجرة إلى المدن أملاً بحال أفضل, فكان على تلك الحكومات وضع خطط وبرامج واقعية وقابلة للتطبيق, لإعادة النازحين الى مناطقهم الأصلية التي هاجروا منها, بعد توفير أسباب العيش الكريم لهم, من سكن مناسب وأرض زراعية ومشاريع تنموية ومدارس ومراكز صحية, بدل عيشتهم البائسة في بيوت الصفيح والصرائف التي لا تليق بأدنى البشر.
أما بعد الاحتلال الصليبي- الصفوي في 2003, وما تلاه, فـ(حدِّث ولا حرج), فقد(اختلط الحابل بالنابل),واستُبيحت بغداد, بل والعراق كلّه, من سقط المتاع وحثالات الأرض, الذين جاءوا من إيران وغيرها, بزعم إنهم من(المسفّرين),وصار أهل بغداد الأصليون غرباء في مدينتهم, وتحوّلت الأحياء الراقية فيها, والتي لا يسكنها سابقاً إلاّ الطبقات المثقفة والمتعلمة؛ كالمنصور, وزيونة, والعرصات, واليرموك, وغيرها, إلى مأوى لمن هبَّ ودبَّ, من القادمين من قاع المجتمع, والذين غدوا, بين عشيّة وضحاها, من(عليّة القوم)!!, بحيازتهم على ثروات طائلة من خلال النهب والفساد, وشهادات مزوّرة من(سوق مريدي), بلا جهد أو علم, ولا حتى خلق, ولو بحدّه الأدنى.
من علامات آخر الزمان الواردة في الأحاديث النبوية الشريفة؛ أن يكثر أولاد الزنا, ويرفع الأشرار ويوضع الأخيار, ويكون زعيم القوم أرذلهم, ويكون أسعد الناس بالدنيا؛ (لكع بن لكع), أي؛رذيل بن رذيل, ويكثر القتل, وتضيع الأمانة, ويخوّن الأمين ويؤتمن الخائن, ويكرم الرجل اتقاءاً لشره, ويفيض اللئام فيضا, ويغيض الكرام غيضا, ويكون الأمراء فجرة والوزراء كذبة والأمناء خونة والقضاة ظلمة ورجال الذين فسقة؛(قلوبهم أنتن من الجيفة وأمرّ من الصبر), وتعلو أصوات الفسقة في المساجد, ويصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا, واكتساب المال باللسان والتباهي بالكلام, وكثرة القراء وقلة الفقهاء والعلماء, وينطق الرويبضة, ويكثر الكذب, وتظهر الفاحشة ويُجاهر بها, ويتشبه الرجال بالنساء وبالعكس, والقسم بغير الله, ويشيع في الناس السمن, ويأكل القوي الضعيف, ويُترك الحكم بما أنزل الله, ويُستباح القذف, ويلعن آخر الأمّة أولها.
وهذه العلامات أو الظواهر, نجد بعضها في كل زمان ومكان, بهذا القدر أو ذاك. ولكن الغريب, إنها اجتمعت وبرزت وتفشّت جميعها في العراق خلال العقدين الأخيرين!!. ولله الأمر من قبل ومن بعد, ولا حول ولا قوة إلاّ به سبحانه.
1196 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع