أنيس منصور وتصوره لمستقبل الصراع العربي الاسرائيلي – بقلم سامي موريه
إن الداعي الأعظم لإعادة نشري هذا المقال الذي نشر اولا في ايلاف الغراء عن المفكر والاديب والصحفي المصري الكبير المرحوم أنيس منصور، هو تفرده في فهم الاحداث التي وقعت في مصر وفي البلاد العربية..
فقد كان يحاول تطبيق الماضي على الحاضر وسعة اطلاعه وتقييمه الصحيح للاحداث ونتائجها، ولا غرو أن يحتفي به ملوك ورؤساء الجمهوريات العربية والاسلامية والأدباء والعلماء في العالمين العربي والاسلامي، بل خارجهما ايضا ، ولم يظهر حتى اليوم من يحل مكانه في العالم العربي من ناحية قيادته لفكر الشباب المصري التقدمي الواعي وأنه نال العديد من الجوائز وأوسمة التقدير من الزعماء الذي اطاح بهم اليوم الربيع العربي الجديد. فقد كان في مصر عضو مجلس الشورى وعضو المجلس الأعلى للثقافة ورئيس نادي القلم وعضو المجلس الأعلى للسياحة وعضو المجلس الأعلى للصحافة ومؤلف اكثر من 135 كتابا معظمها ترجمة ذاتية بالإضافة الى دراسات سياسة ومجموعات قصصية ونقد أدبي ومسرحيات كوميدية ومسرحيات مترجمة ودراسات نفسية ودراسات علمية وفلسفية، أي كما قيل عن المتنبي "مالئ الدنيا وشاغل الناس". وأنا أرى ان العالم العربي اليوم مدين لريادة الاستاذ أنيس منصور للعولمة والانفتاح على الفكر العالمي والحضارات عامة، في بزوغ شمس الربيع العربي في العالم، فكل كتبه موجهة الى الشباب العربي الناهض والى محاولة خلق جيل من الشباب الواعي بإنجازات الغرب وتياراته الفكرية والعلمية واثق بنفسه يتعمد على نفسه في حل مشاكل بلاده بالحكمة والتفكير العقلاني المنطقي والفلسفي الى جانب اهتمامه بالغيبيات وما وراء الطبيعة.
وصديقنا الراحل كان من كبار المثقفين والمفكرين والادباء والصحفيين العرب في العالم الذي جبل من طينة أخرى، فهو العبقري الذي تأتيه الشهرة من تلقاء نفسها، وهو من أصدقائي القلائل الذين اثق بهم. فنحن اصدقاء منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي وذلك عندما ألقت دار النشر "يديعوت أحرونوت" على عاتق البروفيسور مناحيم ميلسون وعلى عاتقي اختيار قصص مصرية قصيرة تعكس الأجواء الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية في مصر، شرعت أولا في قراءة قصص الاستاذ أنيس منصور لأختار له "قصة مصرية تعبر عن الواقع المصري" لضمها الى المجموعة المترجمة إالى جانب قصص لنجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي ومحمد مستجاب (الذي اثارت قصته المترجمة "الغراب الخامس" اهتمام الأدباء والباحثين في اسرائيل)، وسكينة فؤاد وجمال الغيطاني وغيرهم. وبعد قراءة معظم قصصه التي تزيد على الأربعمائة قصة، وجدته أديبا يهتم بالصراع النفسي والعقلي، وبالدوافع والغرائز والعواطف الإنسانية، فهو من رواد ما بعد الحداثة في الأدب، لا شأن له بالزمان وبالمكان وفي بعض الأحيان لا نجد ذكرا لأسماء الأبطال، فهو يهتم بالتكنيك الغربي الجديد ويرى نفسه جزءًا لا يتجزأ من الثقافة العالمية، ولا يؤمن بالتدرج البطيء في التجديد الحضاري، بل يشارك مع العالم الحديث من حيث بلغت الحضارة الانسانية الحديثة، زمن رواد العولمة في الثقافة والأدب والنثر، مثل الشاعر السريالي عبد القادر الجنابي وأدونيس شاعري العولمة في الشعر العربي الحديث، أما دار النشر فقد طلبت منا شيئا آخر. كتبت الى الأستاذ أستنجده طالبا أن يختار لي قصة مصرية أصيلة "يعني مصرية بنت حلال" تتكلم وتتصرف وتلبس مثل فتيات خان الخليلي، تتحدث عن هموم لشعب المصري الذي يعيش على الطعمية والعيش الحاف ، فإذا به يرسل إلي رسالة طويلة جعلها فيما بعد مقدمة الطبعة الرابعة في كتابه "عزيزي فلان وقصص أخرى" (القاهرة، دار الشروق، 1988، ص 5-9)، تكاد تكون خارطة أو برنامجا لكتابة اطروحة دكتوراه عن قصصه.
وعندما زرت القاهرة عام 1981 مع زوجتي كان أنيس منصور أول من اتصلت به لأشكره على مقدمته، فردّ عليّ قائلا: أهلا وسهلا بك في مصر، سأرسل لك سيارتي مع السائق والمرافق الشخصي ليأتيا بكما من فندق ماريوت الى مكتبي ثم أخذكما لزيارة كنيس ابن عزرا وحارة اليهود. تعجبت زوجتي من هذه الأريحية والضيافة، قلت لها هذه تقاليد الضيافة والحفاوة العربية العريقة، فباي تونس أرسل لفارس الشدياق بارجة حربية احتفاءا وتقديرا لقصيدة مدَحَه فيها معارضا قصيدة "بانت سعاد" لزهير بن أبي سلمى (وقد قرأت فيما بعد بأن الرئيس حسني مبارك أرسل الى الأستاذ أنيس منصور الذي اصيب بجلطة في ساقه، طائرة مع طبيبين مصريين لنقله على وجه السرعة الى باريس، لمعالجته من قبل أحد كبار الأطباء المتخصصين بالأوعية الدموية في فرنسا)، هكذا كان يقدر بعض زعماء العرب العلماء والمفكرين في العصر الاقطاعي. ولذلك دعا الأستاذ أنيس منصور الأدباء والشباب العرب الى اعتناق الفلسفة الوجودية التي تلقي المسؤولية على المثقف لتغيير مجتمعه وليكرس حياته للتخفيف من المآسي الإنسانية بدل التوكل والتعصب الديني والتخريب والقتل العشوائي.
وكثيرا ما يحيرني السؤال، هل كان الاستاذ أنيس منصور وهو المستشار الأفضل للرئيس السادات، ممن أشار عليه بالقيام بخطوته المباركة بزيارته التاريخية للقدس في 19 نوفمبر 1977، توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل في كامب ديفيد مع مناحيم بيجن وجيمي كارتر عام 1979؟ والسبب في حدسي هذا هو ان الاستاذ أنيس منصور، كان مستشارا شخصيا ومرافقا للسادات في جميع مراحل عقد الاتفاقية، ويقول الاستاذ محمود فوزي في كتابه الشامل الكامل "أنيس منصور، ذلك المجهول" (1986)، ص 14، 161: "ولقد اجرى أنيس منصور مع السادات أكبر عدد من الأحاديث الى الصحافة المصرية والعربية ... بل أن انيس منصور جلس مع الرئيس السادات أطول ساعات يمكن ان يجلسها معه إنسان، ولو كان أقرب المقربين له"، وقد أخبرني بأن الرئيس كان يستشيره في كل شاردة وواردة عن السلام مع إسرائيل. وكان أنيس معجبا بالعلماء ذوي الحدس والقدرة على التنبؤ، وبالذين يربطون بين الغيبيات والقضايا العلمية، ومثل الرئيس المصري فهو يؤمن بالغيبيات وبالعزلة والتأمل قبل اتخاذ القرارات، وهو يميل الى التصوف، ويؤمن بالنبوءات وبالتنجيم، وذلك ناتج عن الآية القرآنية "وبالنجم يهتدون"، وهو ما جعل المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي يدأب على تسجيل توقعاته في بعض السنين ويتنبأ بأحداثها الجسام عن طريق قراءة الطالع بواسطة قرانات الأفلاك والنجوم، وتقول الصحافة الاسرائلية "أن التمهل في فتح باب الطائرة التي أقلت السادات ووفده، راجع إلى انتظار اشارة الفلكي المرافق له لتكون الدقيقة التي يفتح فيها باب الطائرة حسب قرانات النجوم ساعة سعد." وقد عقد الأستاذ أنيس منصور في كتابه "لعنة الفراعنة، وشيء وراء العقل" (القاهرة، دار الشروق، 1987، ص 85-93)، فصلا عن الطبيب اليهودي الأصل نوسـتراداموس (1503-1569)، الذي تنبأ بأحداث ستقع في المستقبل بصورة دقيقة منها أنه "تنبأ أيضا بقيام الثورة الفرنسية ... وبإعدام زعمائها ... وهو ايضا الذي تنبأ بنفي نابليون الى جزيرة سانت هيلانة... وهجوم هتلر وزحفه على روسيا وعودته مهزوما ... وانتحاره ومصرع موسليني ... ومصرع الأخوين كندي. أما عن إسرائيل، فيقول أنيس منصور بالحرف الواحد: "وتوقع [ نوستراداموس] حرب 1948 واستيلاء اليهود على أرض فلسطين قال: "فالدولة الجديدة تحتل أرضا حول سوريا ويهودا وفلسطين .. وتنهار القوات البربرية". ويعلق أنيس منصور على هذه العبارة بقوله: "القوات البربرية هي القوات غير المسيحية. وقد كان من المألوف في أوروبا أن يوصف كل من ليس أوروبيا بأنه بربري، وبعد ذلك اصبح البربري هو كل من ليس مسيحيا. فالقوات البربرية التي يتحدث عنها هي القوات العربية الإسلامية". ترى، هل حدّث الاستاذ رئيسه المبجل بهذه النبوءة وأقنعه بعدم جدوى الحروب معها، وأنه من الاولى عقد اتفاقية السلام لاسترجاع أخر ذرة من رمال سيناء؟ وحقنا لدماء المصريين من حروب مستقبلية، فبعضهم يتشدق بانه مستعد للتضحية بمليون مسلم وعربي في سبيل استرجاع القدس، ترى ان مطلق مثل هذه الشطحات البطولية على حساب شعبه كان سيبعث بأفراد عائلته مع هذا المليون عربي؟
وكنت اعلم ان مثل هذا الأمر لا يستطيع البت فيه سوى صديقي أنيس منصور الذي لم استطع خلال مرضه الأخير مهاتفته على رقم تلفونه ولم يصلني رده على رسائلي الالكترونية اليه من مكتبه في الأهرام.
وفي يوم 12 أبريل، 1989 أثناء زيارتي للقاهرة، التقيت بالأستاذ في مكتبه في مجلة أكتوبر، وكان الاستاذ أنيس منصور غاضبًا "لتصريحات الدكتور عمر عبد الرحمن الضرير" (الدقهلية 1938) أمير الجماعة الإسلامية، وهو من المتطرفين الإسلاميين، الذي جلس على عرش ذي الجلال وقسم العالم الى اصحاب اليمين واصحاب الشمال، ففي حديث أجرته معه جريدة الأنباء الكويتية، ذكر من هم اصحاب اليسار، منهم نجيب محفوط فهو رجل كافر فلذلك وجب قتله، ولماذا يا أمير المؤمنين، نورنا؟ فاجاب بثقة العارف بامور الدنيا والآخرة، أنه نشر كتاب "أولاد حارتنا" وفيه ادى تشككه بقضاء الله وقدره بل بوجود العزة الإلهية ، وكان د. عمر عبد الرحمن قد أعلن في 1981 أن أنور السادات هو رجل كافر لعقده اتفاقية السلام مع إسرائيل، ولذلك وجب قتله، وعلق الأستاذ على ذلك بقوله: "إنه خبر مفزع ومروّع، وفجأة يظهر بيننا خميني جديد، وتحول أعز أبناء مصر، نجيب محفوط، الحائز على جائزة نوبل، الى كافر يجب قتله". كما أخبرني الأستاذ منصور بأن جماعة متطرفة حكمت عليه بالاعدام بسبب علاقته مع إسرائيل، وبسبب موقفه من ثورة مصر الناصرية القذافية، وقد أرسلوا له رسائل تهديد وسيارة محملة بالشباب والبنادق والمسدسات وأطلقوا النار على بيته في أكتوبر عام 1988، وذلك لنشره كتاب "عبد الناصر، المفترى عليه والمفتري علينا"، الذي شن فيه نقدا عنيفا على عبد الناصر، ومع ذلك فقد صدرت 3 طبعات من الكتاب خلال 6 أشهر بالرغم من مطالبة الرئيس حسني مبارك أمام جمع كبير من الصحفيين، وبالرغم من مخابراته التليفونية والتحدث معه وجها لوجه طالبا منه التوقف عن نقده العنيف لجمال عبد الناصر. ولكن الأستاذ رفض هذه الطلبات المتكررة. ومن بين ما رواه لي الأستاذ أن إمرأة يهودية التمست منه الذهاب معه لرؤية دارها التي تركتها بعد طردها مع يهود مصر، فأجابها الأستاذ بأنه من المستحيل زيارة دارها لأنها تحولت الى سفارة للمملكة العربية السعودية. وقال إنه مع نجيب محفوظ قاطعتهم البلاد العربية خلال عشرة أعوام، ونشر مقالا عن موقف المثقفين الإسرائيليين من نجيب محفوظ وحديث الرئيس الخامس لدولة إسرائيل السيد اسحق نافون عن العقاد ونجيب محفوظ’ وقد اضطرت الصحف العربية بعد تردد نشر المقال الذي كان سببا في إلغاء مقاطعة الدول العربية لعبقري الرواية العربية والفائز بجائزة نوبل، الأديب الكبير المرحوم نجيب محفوظ.
وعند صدور كتابي عن "المسرح البشري في العالم العربي في القرون الوسطى" باللغة الإنكليزية، قال لي الأستاذ أنيس: قرأت كتابك دفعة واحدة خلال ثلاثة ايام ثم قررت إرساله الى الأستاذ د. محمود فوزي عميد أكاديمية الفنون والترجمة لترجمته الى اللغة العربية ونشره في دار الشروق بالقاهرة، ثم طلب مني نسخة من الكتاب لإرسالها للترجمة. وعند زيارتي للقاهرة عام 1992 أخذت معي ثلاث نسخ من الكتاب هدية له وللدكتور محمود فوزي. ودعانا الأستاذ أنيس الى الغداء في فندق سميراميس في القاهرة وكان في استقبالنا في الوقت المحدد قرب بوابة الفندق الأستاذ أنيس مع رئيس تشريفات الفندق مرحبا بنا. أخذنا الأستاذ الى المائدة المحجوزة لنا قرب نافذة كبيرة مطلة على النيل. فإذا بنا نجد تلميذتي السابقة، الصحفية المعروفة المتخصصة بشؤون الشرق الأوسط السيدة سمدار بيري من جريدة "يديعوت أحرونوت" مع المصورة الصحفية المرافقة لها. جلسنا لتبادل الحديث وحدثنا الأستاذ عن الرئيس الراحل المغفور له أنور السادات ومرافقة أنيس له في زيارته التاريخية للقدس ومحادثات السلام،
وبعد عودتي الى القدس هاتفني الأستاذ وقال لي: مبروك يا أستاذ! قلت له: خير انشاء الله! قال: أمامي على مكتبي بروفات كتابك المترجم الى العربية مع مقدمة الصديق د. محمود فوزي، قلت له: أرجو ارسال البروفات قبل طبع الكتاب لمراجعتها وذلك لأن بعض المصادر العربية التي استشهدت بها غير متوفرة لديكم. وعدني الأستاذ بارسال البروفات لمراجعتها ووفى بوعده كالمعتاد، وأنفقت الساعات الطويلة لمراجعتها واضافة الأقتباسات والاستشهادات حسب المصادر العربية النادرة، وارسلتها اليه، ولكني مع الاسف الشديد لم اسمع بصدور الكتاب، وقلت لعل تهديد وزير الثقافة المصري فاروق حسني بانه سيحرق الكتب الاسرائيلية إذا عثر عليها في المكتبات المصرية، فما بالك بمنع صدور كتاب هو تحت الطبع؟ الى ان وصلتني مكالمة هاتفية قبل بضعة اشهر (من عام 2010)، من الاستاذ أنيس منصور يقول لي فيها بأنه موجود الآن في قاعة الموسيقى في القاهرة يستمع الى الكونسرت الذي يقدمه الملحن الاسرائيلي دانيال بيرنباوم الذي منح هوية فلسطينية، وهو بصحبة كل من فاروق حسني وزير الثقافة والباحث جابر عصفور، وانني الآن استطيع ارسال بروفات كتابي عن المسرح العربي المترجم الى العربية لنشره في مصر. استبشرت خيرا وقمت بارسال البروفات على وجه السرعة، وقلت لنفسي لعل ترشيح معالي الوزير فاروق حسني لمنصب الأمين العام لمنظمة اليونيسكو (منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم الثقافية)، سيفرج عن الحجر على كتابي المترجم. ثم اتهمت الصحف العربية كعادتها، اسرائيل، بعرقلة الانتخاب، وهكذا ضاعت عليّ مرة أخرى فرصة صدور كتابي عن المسرح العربي مترجما الى اللغة العربية، هذا الكتاب الذي انفقت في تأليفه عشر سنوات من زهرة عمري في سبيل تأليفه وقال عنه الباحثون العرب بأنني انصفت الحضارة العربية بنتائج بحثي المضنى هذا. والآن بعد ثورة ربيع الشباب العربي المباركة في الدول العربية والمطالبة بالحرية والديموقراطية والمساواة، كنت آمل ان يصدر هذا الكتاب في مصر بالرغم من تعاظم قوى التعصب الديني منذ التسعينات من القرن الماضي حين نشرت مجلة "نصف الدنيا" المصرية (26 يناير، 1997)، بعنوان "إحذروا شموئيل"، وعرفوه بأنه "إسرائيلي يعمل أستاذا في القدس، سيتردد اسمه في الفترة القادمة كثيرا وسيضطر الى المجيء للقاهرة ولقاء كتابها وشعرائها ومثقفيها بعد ما صار رئيسا لتحرير "مجلة الأدب العربي" "جورنال أوف اربيك ليترتشر" خلفا للاستاذ محمد بدوي من اكسفورد والتي تصدرها دار النشر بريل في لايدن بهولندا، واضاف معلق "نصف الدنيا":
" ولايدن مثل مدن كثرة في هولندا معقل اليهود المتطرفين الذين يساعدون اسرائيل وبناء اقتصادها ... فيكفي أن نقول إن رئيس تحريرها الجديد الاسرائيلي شموئيل موريه كان آخر كتبه "المساهمة اليهودية في المسرح العربي في القرن التاسع عشر، بالاشتراك مع د. فيليب سادجروف من جامعة مانشستر ونشرته جامعة أكسفورد، ومن يقرأ الكتاب يتأكد له أن اليهود هم أساس النهضة المسرحية في الوطن العربي..."
وحين كنت في عام 1997 في إجازة البحث السنوية التي كنت اقضيها ذلك الصيف في ضيافة معهد الدراسات الشرقية لجامعة بون برآسة المستشرق الأستاذ د. ستيفان ويلد، (وهو رئيس رابطة الصداقة الألمانية العربية، والذي يحاول منافسة العرب في الضيافة والكرم)، كتبت مع الاستاذ ويلد طلبا من بون الى مدير دار الكتب المصرية آنذاك، بالحصول على ميكروفيلم لإحدى مخطوطات الجبرتي، وبدل الرد قرأنا خبرا غريبا في مجلة "الأهرام العربي" في عدد أكتوبر 1997 "إن مدير دار الكتب القومية في القاهرة، والذي شغل بين (1994-2006) منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، د. جابر عصفور، أمر بمنع الباحث الاسرائيلي "شاموئيل [كذا] موريه، الذي يسعى الى تحقيق الجزء الرابع من كتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار للعلامة عبد الرحمن بن حسن الجبرتي ولاعداد فهرس شامل لجميع الأجزاء، من دخول الدار". وعجبت كيف منعوا دخولي دار الكتب القومية بالقاهرة وأنا موجود في جامعة بون بألمانيا؟ ومع ذلك فقد شجب الشاعر والصحفي الكبير عبد المعطي حجازي هذا الخبر في صحيفته وعده عملا مشينا وماسا بسمعة الدار، كأن هذه الدار المكرسة لخدمة الباحثين والعلماء أصبحت وقفا لهذا المدير الجديد يمنع ويسمح حسب أهوائه. رحم الله ايام حرية الفكر التي دعا اليها رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده والعقاد والمازني وطه حسين وحسين فوزي وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وصالونات العقاد ومي زيادة ومدرسة المهجر الامريكي ومدرسة الديوان ومدرسة أبوللو ومدرسة شعر، وعوضنا خيرا بالجرائد الحديثة المتمسكة بحرية الفكر والديموقراطية، "إيلاف" و"الأخبار" و"الحوار المتمدن" و"الكاردينيا" وغيرها من الجرائد والمجلات الحديثة التي تدافع عن الحرية والديمقراطية والعلوم الحديثة وتحرير المرأة.
واليوم دار القدر دورته، فإذا بثورة ربيع الشباب العربي المباركة تطيح بكل من حارب حرية الفكر والتعبير وإذا بالوزير المصري السابق فاروق حسني وخلفه د. جابر عصفور، من الذين حاربوا التطبيع، يلقون مصيرهم مع المستبدين الذين تكتسحهم هذه الثورات.
وفي عام 2001 سافرت مرة أخرى الى القاهرة لاكمال مقارنة مخطوطات الجبرتي وزرت الصديق أنيس منصور في مكتبه في الأهرام ودعاني مع مساعدتي العلمية الى حضور ندوة تقام في معرض الكتاب العالمي في القاهرة. كنت قد زرت معارض الكتب السابقة في القاهرة، والتقيت في أحد اقسام المعرض بصديقي الشاعر وصاحب دار النشر "الجمل" في كولون خالد المعالي، ولكن هذا المعرض كان مختلفا عن المعارض السابقة، فقد كانت اكثر الكتب المعروضة فيه كتبا دينية وكتب طبّ عربية قديمة وكتبا عن حجاب المرأة ومكانة المرأة المسلمة في العائلة وكتبا عن السحر والجن وتفسير الأحلام لابن سيرين وغيره، إلى جانب كتب معادية لليهود ولإسرائيل والولايات المتحدة طبعت معظمها طبعات انيقة ومتقنة في المملكة العربية السعودية ومصر. فعجبت لهذا الانقلاب الحضاري بالعودة الى مئات السنين الى الوراء وتخطي كتب ابن الهيثم وابن خلدون وابن النفيس وابن رشد ابن سينا التي اقامت عليها اوروبا عليها حضارتها المعجزة الحديثة، ثم ذهبنا الى الندوة التي تحدث فيها الأستاذ أنيس منصور. دارت الندوة حول انعدام قيادة أدبية وفكرية في مصر التي كانت في النصف الاول من القرن الماضي تعجّ بالصالونات الادبية المصرية التي كانت مركز القيادة الفكرية والثقافية في مصر والبلاد العربية والإسلامية كافة وعلى رأسها صالون العقاد وصالون مي زيادة، والرافعي وغيرهم من كبار المثقفين والمفكرين المصريين، كما دار الحديث حول قرارات الحكومة المصرية نشر الحاسوب والتكنولوجيا الحديثة بن الجيل الجديد وغير ذلك من الموضوعات المهمة بالنسبة لمستقبل مصر. وعندما سمع أحد الحاضرين أن مساعدتي تتحدث معي باللغة العبرية، طلب الاذن في القاء سؤاله. قدم المتحدث نفسه بانه طالب في جامعة الأزهر وأنه يعجب كيف سمحت الحكومة المصرية بعقد معاهدة مع إسرائيل، فإسرائيل بالنسبة للمتحدث هي كيان غير شرعي يجب ازالته. كان سؤالا محرجا جدا وانتظرت ردّ الأستاذ أنيس منصور لأرى كيف يجيب على مثل هؤلاء المتطرفين. كان الاستاذ لبقا في رده واثقا من وجهة نظره، وقال بصوت المرشد الأمين والأب الروحي للجيل الجديد: "أننا نحن العلمانيين لنا نظرة أخرى الى الأحداث، وقد حارب جيلنا إسرائيل وضحى بالكثير من أجل القضية الفلسطينية، حاربنا في 1948 وفي 1956 وفي 1967 وفي 1973، ثم اصبح همنا تحرير أرضنا عن طريق التفاوض، وبهذه الطريقة فقط افلحنا في تحرير أخر ذرة من رمال أرضنا عن طريق المفاوضات السلمية، أما اذا كان لجيلك طريقة أخرى في حل المشكلة فأهلا وسهلا." وهكذا افحم الاستاذ بلباقته وفكره الثاقب صاحب هذا السؤال الذي جلس وهو يتصبب عرقا.
ثم دعانا الأستاذ الى سيارته لنقلنا الى فندقنا قرب ميدان التحرير، وفي السيارة سألني ما رأيي في الندوة، قلت له ان رده كان مفحما ولكني منزعج من هذا التطرف الذي أبداه بعض المستمعين والمتحدثين ومن غلبة الكتب القديمة على الكتب العلمية الحديثة واختفاء كتب أحرار المفكرين العرب من الأسواق وكل من يسأل عن مثل هذه الكتب يسمع الاهانات لمؤلفيها "الكفرة الملحدين". وأنا آمل الآن ان يستطيع الزعماء العرب والمسلمون الوقوف أمام هذا التيار الذي أدى الى مقتل الدكتور فرج فوده وطعن الأديب الكبير الحائز على جائزة نوبل للآدب المرحوم نجيب محفوظ ورش دار الأستاذ أنيس منصور بالرصاص لصدّ مدّ التحرر الفكري في مصر الرائدة.
انزعجت لعدم وصول رد على رسائلي العديدة الى الصديق الوفي فكتبت بقلق شديد الى الاستاذ المصري عمرو زكريا مستفسرا عن صحة الاستاذ، إلى ان وصلني مع الأسف الشديد النعي التالي منه من القاهرة، يقول :
"حضرة أستاذنا الدكتور الكبير سامي موريه:
أنعي إليك ببالغ الأسى والحزن الأستاذ الكبير والمفكر العملاق أنيس منصور، فهو الآن في ذمة الله، فقد تُوُفِّيَ في مستشفى الصفا متأثرًا بالتهاب رئوي حادٍّ، وكانت صحته قد تدهورت تدهورًا شديدًا جدًّا منذ أمس الأول في غرفة العناية المركَّزَة، ولَقِيَ رَبَّهُ فجرَ اليوم، وشُيِّعت جنازتُه من مسجد عمر مكرم بميدان التحرير عقب صلاةِ الجمعة، ودُفِنَ بمدافن الأسرة بمصر الجديدة. إنا لله وإنا إليه راجعون، وبما أننا لا نزال نحيا في هذه الحياة الدنيا، فلْنتوجَّهْ إلى الله سبحانه وتعالى بأن يرحمه رحمةً واسعةً وأن يتغمَّدَه برحمته التي وسِعَتْ كل شيء، وأن يُسْكِنَهُ فسيحَ جناته، إنه نعم المولى ونعم النصير
أدعو الله لك بأن لا ترى مكروهًا في حبيبٍ أو عزيزٍ لديْك.
تلميذك المخلص،
رحم الله العلامة المفكر والأديب الكبير أنيس مصور، كان يفهم التاريخ ويتعلم العبر منه وكانت آراؤه صائبة، دعا الى الفسلفة الوجودية التي انفذت الشرق الاقصى من التخلف الفكري، وحفزت معتنقي هذه الفلسفة الى التحرر من المنقول الى المعقول ولكن يبدو ان الحضارات لا يمكن ترقيعها فهي ليست ملابس قديمة يمكن اصلاحها بالترقيع والتلفيق بل المشاركة فيها وجهل الدين والعقائد امر بين الخالق والمخلوق لا شأن للحكومات والسياسة، آمل الا تضيع جهود كبار مفكري العرب وعلمائهم هباء بهذه النكسة الفكرية والدينية، وإلا فعلى الدنيا السلام والمدينة الفاضلة وحجر الفلاسفة وبساط الريح والحصن المجنح وغيرها من احلام الانسانية خلال تاريخها الطويل والتي شاركت الحضارة العالمية في بنائها قد تذهب هباء في هذا الصراع العقيم بين قوى الظلام وقوى النور، مؤمنا ان قوى النور والحياة والبقاء هي اقوى من قوى الموت والفناء العبثي.
909 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع