مذبحة العائلة القيصرية

                                             

                          د. جابر أبي جابر


مذبحة العائلة القيصرية

        

بعد تنازله عن العرش في 2 آذار/ مارس عام 1917 وتشكيل الحكومة المؤقتة وُضع نيكولاي الثاني وأسرته تحت الإقامة الجبرية في تسارسكويه سيلو (المقر الصيفي للقيصر).

وفي أواخر الشهر نفسه حاول وزير الخارجية في الحكومة المؤقتة بافيل ميلوكوف إرسال نيكولاي الثاني وأسرته إلى إنجلترا للإقامة هناك في كنف ابن خالته الملك جورج الخامس. وقد أعطى الجانب البريطاني موافقته المبدئية على ذلك. ولكن في نيسان/ أبريل من العام ذاته آثر الملك رفض هذه الخطة نتيجة الوضع الداخلي غير المستقر في إنجلترا نفسها حيث ظروف الحرب العالمية الطاحنة وعدم شعبية القيصر الروسي في الأوساط الاجتماعية هناك. وبهذا الصدد بعث سكرتير ملك إنجلترا رسالة إلى وزير الخارجية آرثر بلفور جاء فيها :
"... لا يسعني سوى التوسل إليك بإبلاغ رئيس الحكومة أن كل ما يقرأه ويسمعه جلالة الملك والملكة في وسائل الإعلام يشير إلى أن حضور القيصر وأسرته إلى بلدنا غير مرغوب فيه إطلاقاً، ومن شأنه بالطبع الإساءة إلى كليهما ... ولهذا ينبغي على سفيرنا بيوكينين أن يحيط ميلوكوف علماً بأن المواقف السلبية في إنجلترا إزاء مجيء القيصر مع أسرته شديدة للغاية بحيث نجد أنفسنا مضطرين إلى العدول عن موافقتنا السابقة على اقتراح الحكومة الروسية ....".
ستامفور دام السكرتير الخاص للملك جورج الخامس (الكسندر سولجنيتسن. "العجلة الحمراء- أحداث نيسان عام 1917"، موسكو. دار نشر"فريميا"، 2009).
ومع ذلك تفيد بعض الوثائق، التي كشف النقاب عنها في عام 2006، أن الاستخبارات العسكرية البريطانية"مي-1" قامت بإعداد عملية خاصة لإنقاذ عائلة رومانوف. ولكن لأسباب ما لم يتم تنفيذها على الأرض.
ونظراً لاشتداد الحركة الثورية وتفشي الفوضى في بتروغراد، وخوفاً منها على حياة القيصر وأفراد عائلته الموقوفين تحت الإقامة الجبرية، قررت الحكومة المؤقتة نقلهم إلى عمق روسيا- مدينة توبولسك السيبيرية. وقد سُمح لهم بأن يصطحبوا معهم الأثاث اللازم والأمتعة الشخصية وتُرِك للعاملين في خدمتهم أن يختاروا طوعياً البقاء أو اصطحاب الأسرة إلى مكان الإقامة الجديد.
وفي صباح يوم 4 آب/ أغسطس عام 1917 توجه من تسارسكويه سيلو إلى سيبيريا قطار تحت يافطة "بعثة الصليب الأحمر الياباني". وفي 17 من الشهر نفسه وصل هذا القطار إلى مدينة تومين. وبعد ذلك نقل القيصر وأسرته والمرافقون له إلى توبولسك على متن البواخر الثلاث التالية: "روس" و"كورميليتس" و"تومين". وقد جرى إسكان الجميع في منزل حاكم المقاطعة وسمح لهم بالذهاب للصلاة في كنيسة البشارة القريبة من مكان إقامتهم وذلك تحت حراسة مشددة من قبل الجنود.
ولكن بعد وصول البلاشفة إلى السلطة قررت رئاسة اللجنة التنفيذية المركزية في 30 نيسان/ أبريل عام 1918 نقل الأسرة القيصرية والمرافقين إلى يكاترينبورغ (إقليم الأورال). وقد جرى إسكانهم في منزل المهندس العسكري المتقاعد نيكولاي ايباتييف المؤلف من طابقين. ومكثوا هناك في ظروف أسوأ بكثير مما كان عليه الأمر في توبولسك وخاصة عقب استبدال أفراد الحراسة بالأسرى النمساويين والمجريين، إذ تحولت الحياة هناك إلى عذاب مرير. وآنذاك ندم القيصر على تخليه عن العرش ولمس بنفسه عقم تضحيته بالتاج الروسي.
وفي الأيام الأولى من شهر تموز/ يوليو عام 1918 كانت الأنباء، الواصلة إلى يكاترينبورغ، تتحدث عن اقتراب قوات مؤلفة من فيلق الأسرى التشيكوسلوفاكيين وجيش البيض من المدينة مما أدى إلى الإسراع بتقرير مصير العائلة القيصرية.
وقبل تنفيذ هذه الخطة جرى اختيار أحد المناجم المهجورة بالقرب من المدينة لإلقاء جثث الضحايا فيه. ولهذا الهدف تم تأمين 450 ليتراً من البنزين و200 كغ من حمض الكبريت. وفي الساعة الثانية من ليلة 16/17 تموز/ يوليو قام مسؤول جهاز التشيكا الأمني ياكوف يوروفسكي بإيقاظ الجميع : نيكولاي الثاني وأفراد أسرته وطبيبه الخاص يفغيني بوتكين والخدم ثم أنزلهم إلى قبو المبنى.
في تلك الليلة الدامية لم تمض إلا لحظات بعد نزولهم إلى القبو وجلوسهم في إحدى الحجرات الصغيرة حتى هرع الجنود إليهم من الغرفة المجاورة وسددوا فوهات مسدساتهم نحوهم ثم أطل يوروفسكي ومعه رجال التشيكا وأبلغ القيصر بأن الثوار السوفيت أصدروا عليه حكماً بالإعدام حيث قال: "لقد حاول أقاربك إنقاذكم ولكنهم فشلوا... والآن يجب علينا قتلكم... وفي هذه اللحظة انتفض القيصر واقفاً للاحتجاج وصاح متعجباً:" ماذا؟ ماذا؟". ولكن يوروفسكي وجماعته جروا صمامات الأمان من مسدساتهم وشرعوا بإطلاق النار على القيصر وزوجته وأطفاله وطبيبه وثلاثة من الخدم. سقط القيصر أولاً بعدما أصيب برأسه قبل أن يتابع احتجاجه وتكفل بقية الرجال بقتل زوجته الكسندرا وبناته تاتيانا وماريا وأولغا وأنستاسيا وابنه ألكسي والأربعة الباقين (الطبيب يفغيني بوتكين والخدم).
ويرى معظم المؤرخين أن رئيس الهيئة التنفيذبة المركزية لعموم روسيا ياكوف سفيردلوف كان المسؤول الرئيسي عن مقتل الأسرة القيصرية. ففي كتابه" تحت برج العقرب" يذهب المؤرخ الاستوني المهاجر يوري لينا إلى أن الأوامر بقتل القيصر وأسرته قد جاءت في واقع الأمر من نيويورك. ويوضح ذلك بقوله أنه مع اقتراب قوات البيض من يكاترينبورغ كان هروب البلاشفة سريعاً جداً بحيث لم يكن لديهم الوقت الكافي لإتلاف كافة شرائط الرسائل البرقية. وبعد احتلال هذه القوات للمدينة عثر المحقق نيكولاي سوكولوف على الشرائط المذكورة، ولكنه لم يتمكن من فك طلامسها. وقد تسنى ذلك أخيراً لمجموعة من الخبراء بباريس في عام 1922.
وتبين من هذه الشرائط أن سفيردلوف أرسل برقية إلى يوروفسكي أبلغه فيها أنه أطلع المليونير الأمريكي جاكوب شيف المعروف بكراهيته الشديدة لعائلة رومانوف بأن البيض يقتربون من يكاترينبورغ فطلب منه شيف تصفيه القيصر وأسرته. وبناء على ذلك أعطى سفيردلوف أوامره إلى يوروفسكي لتنفيذ ذلك.
في عام 1925 أصدر سوكولوف كتابه حول التحقيق باغتيال العائلة القيصرية. ولكن دون الإشارة إلى المعلومة المذكورة آنفاً. ولم تُنشر هذه الوقائع إلا في عام 1939 وذلك في مجلة" البشير القيصري".
لا يمكن بسهولة الجزم بصحة هذه الرواية مع أنه كان لدى المليونير المذكور سجل حافل بمقارعة النظام القيصري. فالمعروف أنه منع روسيا من الحصول على قروض أمريكية مستخدماً نفوذه الكبير في الأوساط المصرفية الأمريكية، كما شارك في تمويل الحكومة اليابانية خلال الحرب الروسية اليابانية (1904-1905) لضرب الأسطول الروسي وزعزعة أركان النظام القيصري. وقد وصل به الأمر إلى تمويل طباعة منشورات معادية للقيصرية وتوزيعها على الأسرى الروس لدى اليابانيين. كما طرح المليونير الأمريكي مبادرات موجهة نحو زرع بذور الشقاق بين الولايات المتحدة وروسيا القيصرية، فضلاً عن تمويله للحركة الثورية الروسية في مطلع القرن ورعايته لتروتسكي ومجموعته في الولايات المتحدة قبيل انهيار القيصرية. وكان شيف يطالب بإزالة القيود الإدارية والقانونية المفروضة على اليهود في روسيا وتبديل السياسة المعادية لهم من قبل سلطات البلد. وقد بدأت هذه الحرب الشخصية في عام 1890 أي خلال عهد القيصر الكسندر الثالث.
في ليلة 12/13 تموز/يونيو عام 1918 قتل شقيق القيصر ميخائيل رومانوف بمنفاه في مدينة بيرم (إقليم الأورال) حيث جاء إلى الفندق، الذي كان يقيم فيه، أشخاص مسلحون واقتادوه عنوة إلى إحدى الغابات وأجهزوا عليه. وقد صورت السلطات السوفيتية هذه الجريمة كعملية خطف من قبل أنصاره وهروب سري. واستغلت هذه الحادثة لتشديد ظروف إقامة الأسرة القيصرية والأمراء المعتقلين في مدينتي آلابايفسك وفولوغدا.
وفي 18 تموز/يوليو عام 1918 أي بعد يوم من اغتيال نيكولاي الثاتي وعائلته وحاشيته الصغيرة جرى القضاء على خمسة من عائلة رومانوف وكذلك إليزابيت فيودورفنا عقيلة عم القيصر سيرغي نيكولايفتش وشقيقة القيصرة. وقد حدث ذلك في مدينة آلابايفسك الواقعة على بعد 140 كم من يكاترينبورغ. وتشير الرواية الرسمية السوفيتية إلى أنهم اختُطفوا من قبل عصابة مجهولة عقب اقتحام المدرسة، التي كانوا يحتجزون فيها. وفي كلا الحالتين أُلقي بالجثث في مناجم مهجورة ورميت عليها القنابل.
على أثر"هروب" ميخائيل رومانوف نقل أعضاء عائلة رومانوف في فولوغدا وهم : الأمراء نيكولاي ميخائلوفتش وغيورغي ميخائيلوفتش ودمتري قسطنطينوف إلى بتروغراد بصفة معتقلين. كما تحول بافيل الكسندروفتش وغابريل قسطنطينوفتش الباقيان في بتروغراد إلى وضعية معتقلين.
وبعد إعلان الإرهاب الأحمر على أثر محاولة اغتيال لينين أضحى أربعة منهم في قلعة القديسين بطرس وبولس بصفة رهائن. وفي 24 كانون 2/يناير عام 1919 جرى إعدام الأمراء نيكولاي ميخائلوفتش وغيورغي ميخائيلوفتش ودمتري قسطنطينوف وبافيل الكسندروفتش بناء على حكم صادر من جهاز التشيكا الأمني حيث أشير إلى أنهم أعدموا رمياً بالرصاص رداً على اغتيال روزا لوكمسبورغ وكارل ليبكنيخت في ألمانيا. وفي 9 شباط/فبراير عام 1919 كتب يوليوس مارتوف زعيم المناشفة وأحد مؤسسي حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي مقالة بعنوان " ياله من أمر مخجل!" أدان فيها هذا الإعدام المتهور للأعضاء الأربعة من عائلة رومانوف.
وقد صدرت لاحقاً مذكرات بعض المشاركين في مجزرة الأسرة القيصرية بمنزل المهندس ايباتييف. وفي أحاديث هؤلاء لا يلاحظ وجود تناقض بارز إلا في بعض التفاصيل. وحسب اعتقاد طائفة من المؤرخين كان لدى عدد من المشاركين دوافع شخصية للانتقام من نيكولاي الثاني. فعلى سبيل المثال كان والد يوروفسكي منفياً في سيبيريا بتهمة السرقة. كما أن فويكوف نفسه تعرض للنفي في عام 1907 لقتله أحد المخبرين المتعاونين مع الشرطة السرية القيصرية.
لم يُعثر حتى الآن على أية وثائق تثبت مصادقة القيادة السوفيتية رسمياً على تصفية الأسرة القيصرية في يكاترينبورغ. وعلى العموم يتعذر إثبات المسؤولية المباشرة لهذه القيادة حيث لم يكن صعباً على زعماء البلاشفة الاكتفاء بإعطاء تعليمات وأوامر شفهية بهذا الخصوص، غير أنه مع ذلك لم يكن بوسع سفيردلوف أن يتصرف لوحده في أمر حساس كهذا دون علم لينين.
وفي كتابه " آخر القياصرة. نيكولاي الثاني والثورة الروسية" يتحدث الباحث البريطاني روبرت سيرفيس عن الأشهر الستة عشر الأخيرة من حياة العاهل الروسي ويتطرق بالتفصيل إلى صف شخصيته المتناقضة، حيث يشير إلى أنه كان متواضعاً وعميق التدين خلافاً لأسلافه من القياصرة الروس، وكثير التعلق بزوجته وأولاده فضلاً عن عدم اكتراثه بالمراسم الرسمية، وأضواء المجتمع الراقي، ومظاهر الترف الإمبراطوري. كما يؤكد سيرفيس على أن القيصر الأخير لم يتمتع بموهبة تؤهله ليكون رجل دولة وكان، في الوقت نفسه، بعيداً عن حياة الناس وهواجسهم.
ويستطرد المؤرخ قائلاً: " والأنكى من ذلك أنه لم يكن لديه اهتمام حقيقي بالسياسة وشؤون الدولة. لقد كان إنساناً عادياً في المكان غير المناسب ولم يجد لغة مشتركة مع المصلحين السياسيين الكبار مثل بيوتر ستوليبين والكونت سيرغي فيته. وقد كان مثله الأعلى نظام والده الكسندر الثالث الاستبدادي. ومع ذلك فإنه لم يحاول التدخل في النشاط الإصلاحي لستوليبين وفيته وغيرهما من رجالات الدولة التقدميين. وبحلول عام 1914 كانت روسيا رغم اعتقاداته وإرادته قد عرفت التحديث إلى حد ملحوظ. وتحت ضغط الدوما والأحداث الثورية أهدى روسيا الدستور. وقد تطورت الزراعة في عهده من خلال استخدام الوسائل الحديثة وأصبحت الصناعة قادراً تماماً على المنافسة في السوق الدولية".
أما برديايف فيرى أن نيكولاي الثاني" كان الرابط الروحي للشعب الروسي. فمن دونه لا يمكن تصور شعب ودولة ووجود قانون ونظام وخضوع للعام والشامل. وقد حال القيصر دون تفتت روسيا ولجم الفوضى وحين انتزعت فكرة القيصر من روح الشعب وال النظام وبدا كل شيء مباحاً( نيكولاي برديايف. فلسفة اللامساواة. دار نشر "معهد الحضارة الروسية". موسكو، 2016).
في تموز/يوليو عام 1918 كان الوضع محتدماً للغاية من جراء عدة أحداث ومنها اغتيال السفير الألماني في موسكو الكونت ميرباخ على يد الاشتراكي الثوري ياكوف بلومكين بغية نسف صلح بريست، وكذلك تمرد الاشتراكيين الثوريين اليساريين على سلطة الكرملين. وفي هذه الظروف كان بوسع مقتل الأسرة القيصرية أن يؤثر سلبياً على العلاقات بين روسيا السوفيتية وألمانيا حيث أن القيصرة الكسندرا فيودوروفنا وبناتها كن يعتبرن أميرات ألمانيات. ولم يكن مستبعداً تسليمهن لألمانيا من أجل تخفيف الاحتقان الناشئ عقب اغتيال السفير ميرباخ.
ومما يعيق إنهاء التحقيق في ملابسات قتل الأسرة القيصرية أنه لا تتوفر للمؤرخين والباحثين حتى الآن إمكانية الإطلاع على المواد الأرشيفية المتعلقة بممثلي عائلة رومانوف، التي تقبع في المحفوظات الخاصة لمقر هيئة الأمن الفيدرالي الروسية الرئيسي والفروع المحلية. كما أن السلطات في البلد لا تزال حتى الآن تتكتم على ظروف وملابسات مقتل بقية أفراد عائلة رومانوف.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

861 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع