أحمد العبدالله
محطّات في قطار العمر؛ ذكرياتي مع(تايرات أبو الريحة)!!
ورد على بعض وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات (اليوتيوب),معلومات وتقارير عن انبعاث رائحة كريهة جداً, من جَدَث الهالك حافظ أسد في (القرداحة),بحيث إن حرس الوثن, لم يتحملّوا المكوث داخله, فانسحبوا إلى محيطه. وعلى ذمة تلك المصادر, فإن تلك الرائحة النتنة, يزداد منسوبها في شهري شباط وحزيران, وهما الشهران اللّذان ارتكب فيهما المجرم المقبور, جرائمه البشعة في مدينة حماة وسجن تدمر, حيث قضى عشرات الآلاف من السوريين نحبهم ظلماً, على يد ذلك السفّاح اللعين وعصابته, والذي تسلّط على ديار الشام مع ابنه الأكثر منه اجراماً, أكثر من نصف قرن, مقابل تنازله عن أرض الجولان, ل(يهود).
ويبدو أن قصة حافظ أسد مع (الروائح النتنة), قديمة, ولم تقتصر على ما بعد(نفوقه) يوم السبت 10 حزيران سنة 2000؛الساعة التاسعة والنصف صباحاُ, وهو التوقيت نفسه تماماً؛(بالساعة واليوم والشهر),الذي أذاع فيه البيان؛(الفضيحة),رقم 66 من إذاعة دمشق, معلناً فيه سقوط(القنيطرة),قبل احتلالها بأكثر من 17 ساعة !!!. لقد أخزاه الله تعالى؛ حيّاً و(نافقاً). ففي اجتماع للرئيس الليبي الراحل؛العقيد معمر القذافي, مع (اللجان الثورية) عام 1991, بعد مشاركة نظام حافظ أسد بمؤتمر مدريد للسلام مع اسرائيل, وجّه نقداً لاذعاً له, وقال متهكّماً:( إن حافظ الأسد, يصرّ على اعطائنا محاضرات في السياسة تكون طويلة جداً, وقد تمتد لساعات عند كل لقاء لنا معه, ولكن من الممكن أن نصبر عليه ونتحمل كلماته الفارغة, أما رائحة فمه وأنفاسه حين يتحدث, فهي المشكلة الحقيقية التي لا يمكن تحمّلها)!!!.
ذكّرني ذلك بما عشته في منتصف التسعينات, من فترة الحصار القاسية, يوم لامس سعر الدولار الواحد, مستوى الثلاثة آلاف دينار, قبل سريان مذكرة التفاهم التي بدأ العمل بها نهاية سنة 1996. وكانت تلك من أصعب السنوات التي مرّت على العراقيين, الذين صار شغلهم الشاغل, كيفية تدبير لقمة الخبز. فكان الموظف الحكومي؛ والذي صوّره رسامو الكاريكاتير في تلك الفترة, ببدلة مهترئة مرّقعة , ذات جيوب خاوية ممزّقة, يكدح كدحاً قبل الدوام وخلال الدوام وبعد الدوام, لكي يتمكن من دفع غائلة الجوع عنه وعن عياله, ومعها الحد الأدنى من مستلزمات العيش, بعد أن ضاقت قائمة الضروريات لأدنى درجاتها, واتسعت قائمة الكماليات والأحلام المؤجلة, إلى أقصاها.
لقد كانت تلك السنون العجاف, بداية لانهيار وتفكّك المجتمع العراقي, بانحسار طبقته الوسطى لدرجة التلاشي تقريباً, وهي الطبقة التي يقول عنها علماء الاجتماع؛ بأنها الركن الركين وحجر الزاوية وعماد أي مجتمع مستقرّ ومتماسك, والتي بدونها يختلّ التوازن المجتمعي وتتفشّى فيه الأمراض الاجتماعية الخطيرة.
كانت السيارات من الأشياء التي غدت في خانة الكماليات في زمن الحصار. خلال عقدي السبعينات والثمانينات, امتلك عدد لا بأس من الناس؛ سيارات شخصية, وكاد أن يتحقق هدف الحكومة؛(سيارة في كل بيت), لولا كارثة الحصار. ورغم أن معظم أنواع السيارات التي استُوردت في تلك الفترة, كانت من مناشئ رديئة؛ كالاتحاد السوفيتي(قبل تحلّله), والبرازيل, لأسباب سياسية بالدرجة الأساس, وليست تجارية, وتتعلق بتعزيز العلاقات مع تلك الدول, أو تم فرضها مع عقود التسليح. ولكنها كانت على أيِّ حال, شيء أفضل من لا شيء.
بعد مرور سنتين أو ثلاث على الحصار, كانت السيارات في طليعة (الضحايا) ,فقد تم الاستغناء عنها من قبل عدد متزايد من مالكيها, الذي اضطروا لبيعها والتصرّف بثمنها لما هو أهم. وبعد مرور فترة أخرى على الحصار وانسداد أي أفق بزواله قريباً, وشحّة وغلاء قطع الغيار والتي ترتفع أسعارها بارتفاع سعر الصرف, مع قلّة المعروض منها, قام أناس آخرون برفع سياراتهم على قطع من(البلوك), وكانت رؤية السيارات وهي بهذا الوضع, منظراً شائعاً في مرائب الكثير من البيوت. فقد غدا الحصول على الاطارات والبطاريات, حلماً صعب المنال.
واستطراداً في هذا الموضوع, وليس بعيداً عنه؛ أذكر إن زميلي العميد؛(عادل الخزرجي),آمر التموين والنقل في الحرس الجمهوري الخاص, لاحظ إن استهلاك الإطارات لبعض سيارات الحمل في وحدته, والمكلّفة بواجبات خارجية تستمر لأسابيع أو أشهر, قد زاد عن معدله الطبيعي. ولأن الرجل ضليع ب(كلاوات جماعته)!!,فقد اكتشف بعد تعمقه في التحقيق, إن بعض السواقين المكلّفين بتلك الواجبات, ينتهزون عدم وجود رقابة ومتابعة دقيقة عليهم, فيقومون ب(تأجير) !! اطارات سياراتهم, في عطلة الخميس والجمعة, لمن يدفع لهم بعض المال.
ولأن العراقيين معتادون على ايجاد البدائل, وبما إن؛(الحاجة هي أمُّ الاختراع), فقد تفتّقت أذهانهم عن ايجاد حلٍّ ما, لمشكلة الاطارات العويصة, فوجدوا بعض ضالتهم بمواقع الطمر الصحي. فخلال فترة الثمانينات, كان يتم الاستغناء عن الاطارات وهي؛(نص عمر),وقبل استهلاكها تماماً, فأصبحت الآن, سلعة نادرة وثمينة, وبدأت أعداد كبيرة من الصبية والنساء, بولوج هذه (التجارة), مع ما يشكّله ذلك من خطر عليهم وعلى البيئة بشكل عام, فتقاطروا زرافات ووحدانا, على مواقع الطمر الصحي المنتشرة في ضواحي العاصمة ومدن أخرى, مستخدمين المعاول والمجارف اليدوية لاستخراجها وعرضها للبيع على الشوارع التي بقرب تلك المواقع, وكانت تلك واحدة من إفرازات الحصار السلبية الكثيرة.
كان منظر تلك الاطارات غريباً, فمع انبعاث رائحتها التي تزكم الأنوف لطول فترة طمرها, وتستمر تلك الرائحة لفترة طويلة بعد ذلك, ومن هنا جاء اسمها الذي اشتهرت به. كانت الاطارات أيضاً بحالة غير سويّة, ممّا يجعل حركة السيارة عند المسير,غير متّزنة, وتبدو وكأنها؛(ترقص)!!. وهكذا بعد أن استمرأ العراقيون الرقص لحكامهم منذ عام 1958, ها هي الآن سياراتهم تشاركهم ذلك الرقص أيضاً !!!. وما في أحد أحسن من أحد !!.
أما بالنسبة لي, فإني لم (أتشرّف), باقتناء ذلك الاكتشاف المثير,لأني بعتُ سيارتي قبل ظهوره, بعدة سنين. ولكني كنت شاهداً عليه. وها أنا أكتبه للأجيال التي لم تشهد تلك المحنة القاسية من تاريخنا المعاصر.
وبالله نستعين.
1740 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع