الخروج من قصور آيات الله - ثانيا

                                                  

                          نزار السامرائي

الخروج من قصور آيات الله - ثانيا

بعد أن مَرَرَنا وسط هذا الحشد الإنساني الملتاع حد الفجيعة، والمتدفق كموج البحر يضرب الشواطئ بلا توقف، ألح عليّ وعلى كثير من الأسرى سؤالٌ كبير، ماذا ارتكبنا من عمل كي تقصّر اللجنة الدولية للصليب الأحمر في تعاطيها مع قضيتنا وتعاقبنا بهذا الإهمال؟ بل هناك سؤال أكبر من ذلك، لماذا انحازت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى جانب إيران، وتسترت على تجاهلها للقوانين الدولية المُنَظِمة لعمل الوكالات المتخصصة في مختلف بلدان العالم، أثناء النزاعات المسلحة والأزمات، حيث أن الدول المتحاربة ملزمةٌ بموجب القوانين الدولية، بفتح أبوابها لعمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والقيام بزيارات منتظمة لمعسكرات أسرى الحرب من دون قيود تحدد هذه الزيارات، ولكنّ اللجنة لم تطلق تصريحا واحداً ضد إيران عندما وجدت أن إيران أوصدت أبوابها دونها فحالت دون تسجيل عشرات الآلاف من الأسرى العراقيين، كانت اللجنة تقول إنها تخشى غضب إيران إن فعلت ذلك وتَطردْ من كان يتحرك بصورة محددة، وكان الصليب الأحمر يقول إنه إن فعل ذلك فسيشكل عامل إدانة للسلوك الإيراني الهمجي مع الأسرى العراقيين وحجة للحكومة العراقية بوجه إيران، وحينذاك ستبدو اللجنة الدولية كطرف منحاز إلى أحد طرفي النزاع، كنا نحلم برؤية فريق من الصليب الأحمر يقتحم علينا وحشتنا فيباشر بتدوين أسمائنا، وتوزيع النماذج الرسمية للرسائل كي نبعث بها إلى عوائلنا، ولكنّ حلَمنا صار سرابا تبدد مع شروق الشمس وموحشاً لنا وسبّب لنا آلاما ظلت تتجدد كلما طالت مدة الأسر.

موقف الصليب الأحمر هذا، هو الموقف نفسه الذي سار عليه خافير بيريز ديكويلار الأمين العام للأم المتحدة الذي أسفر عن وجه منحاز وقبيح بلا سبب إلى جانب إيران طيلة الحرب، وكنا نردد مع أنفسنا من دون دليل متهكمين عليه "يبدو أنه يعشق السجاد اليدوي الكاشاني، أو الكافيار القزويني، وهناك من يتطرف فيقول، بل ربما أدمن الترياك الإيراني، وهذا ما دفعه لأنْ يتسترَ على جرائم الحكومة الإيرانية في قمع الأسرى العراقيين"، وبذلك منع المنظمات الدولية من كشف انتهاكات إيران لحقوق الإنسان، لكنّ حادثاً أكبر منه ومن كل نواياه، اضطره عام 1984 لتشكيل لجنةٍ دولية للتحقيق في جرائم إيران في معسكرات الأسر، والتي بدورها تفتقد أبسط الشروط التي نصت عليها اتفاقية جنيف الثالثة، وعندما جاءت اللجنة التي شكّلها ديكويلار إلى إيران، مارست معها السلطات الحكومية كل فنون الاحتيال والنصب والمراوغة، فلم تتمكن من الالتقاء مع أهم معسكر معاقب في إيران وهو قلعة سنك بست، الذي كان يضم أكثر 2650 أسيرا موزعين على قاعات معزولة عن بعضها، إذ تم نقلُ نزلاء هذا السجن الرهيب وأنا من بينهم على عجل إلى معسكرِ تابع لأحدِ ألوية الفرقة 77، وهو معسكر مازدوان الكائن في أقصى شمال شرقي إيران على مقربة من الحدود الإيرانية الأفغانية وعلى مقربة من حدود الاتحاد السوفيتي السابق، في ناحية صالح آباد، كانت الولايات المتحدة قد أنشأته لغرض المراقبة الإلكترونية على الاتحاد السوفيتي.
قدمت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بسلوكها المتهادن هذا، بل المنحاز إلى جانب إيران حججاً وذرائع متهافتة لعدم عرض محنة الأسرى العراقيين على بساط البحث الدولي، فكانت تزعم أنها من أجل أن تؤدي خدماتها لأسير واحد، خيرٌ من أن تتوقف عن ذلك، وبهذا الوصف السيئ، ساهمت بمعاناة أكثر من 80 ألف أسير مع مئات الآلاف من عوائلهم لسنين طوال، في حين أنها كانت تمارس دورها في معسكرات الأسرى الإيرانيين في العراق بحرية كاملة، حتى أنها كانت تنظم لهم برامج سياحة خارجية، يزورون خلالها المراقد الدينية في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، ولكنها كانت تغمض عينيها عن جرائم القتل التي ارتكبها الإيرانيون في أكثر من معسكر للأسرى.
ومن أجل إعطاء وصف دقيق لما حصل، استعير نصا من كتاب (شهداء بلا أكفان) للأسير السابق المرحوم الدكتور علي عزيز العبيدي، الذي قال في كتابه (كان معسكر كركان في 10/10/1984، على موعد مع زيارة لفريق من الصليب الأحمر، وكان الأسرى المخلصون ينتظرون مثل هذه الزيارات بفارغ الصبر وعلى أحرّ من الجمر، فقد بات من الضرورة التخطيط المسبق للاستفادة القصوى من هذه الزيارة، في استلام من لم يستلم من الأسرى وعرض مشاكلهم وسوء معاملتهم عليه، وقد رافق هذا الخبر خبر آخر التقطته وسائل الأسرى المخلصين مفاده أنّ المرتدين وبدعم من الإيرانيين، سيفشلون هذه الزيارة وسيحُولون دون تحقيق أهدافها، من خلال طرد وفد المنظمة، وهذه الحالة سهلة جدا على هؤلاء، لاسيما أنّها تكررت في معسكرات أخرى كمعسكر مهر آباد الجنوبي مثلا).
ويمضي العبيدي في سرد القصة فيقول (تدخل مجموعة من حاملي الحقائب الأجنبية بإحاطة من الإيرانيين عن بعد، تبدو على وجوههم مسحة العافية بينما تطغى على وجوه الأسرى سحنات الموت، همّاً وجوعاً وعذاباً، وما هي إلاّ لحظات حتى قام أحد الخونة المكلفين بأدوار شريرة هو - ح. م – بالاندفاع بسرعة هاجماً على أحد أعضاء وفد منظمة الصليب الأحمر، إذ استطاع أنْ يمزق الأوراق التي كانت في يده والتي سجّل فيها بعض المعلومات عن المعسكر، علما أنّ أحد العناصر التي يقودون العمل المنظم، كان أوصل لوفد الصليب عند دخوله معلومة عما يصدر من هؤلاء ضدهم وقد أجابوه أنّهم يمتلكون حصانة دبلوماسية، فرّد عليهم بأنّ إيران لا تعرف للحصانة الدبلوماسية معنى، وهنا أعطيت الإشارة بالهجوم المباغت على مصادر الشر، من تلك الأدوات التي توجهها الإدارة الظالمة، فماجت ساحة المعسكر بعملية قتال بالأيدي بين الأسرى الشرفاء وبين العناصر الخائنة، وكانت بداية ذلك ما قامت به المجموعة المكلفة بحماية أعضاء الوفد، واحتدم الصدام واستمر بتواصل غريب أمام أنظار الإيرانيين ووفد الصليب الأحمر، وراحت الساحة تفور بالغضب مما حدا بجماعة الصليب إلى الفرار للخلاص بأنفسهم).
بلعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر هذه الإهانة، وكان رد فعلها تافهاً ولا يرتقي إلى مستوى ما وقع، فتحولت إلى شاهد زور على جرائم إيران وتعمّدها عدم تسجيل الأسرى في لوائحها الرسمية، وعدم نقلها لرسائلهم إلى عوائلهم وبالعكس، وبهذا فقد تسترت لجنة الصليب الأحمر على ارتكابات وفظائع إيران مع الأسرى العراقيين، وهي تراقب عن كثب حُسن معاملة العراق للأسرى الإيرانيين في معسكراته.
من أجمل طرائف ما نُقل عن هاشمي رفسنجاني، أنه أثناء استقباله لدفعة من الأسرى الإيرانيين العائدين إلى بلادهم بعد 15 أيلول/سبتمبر 1990، أنه حاول أن يستنطق الأسرى ليبحث عن ثغرة في التعامل العراقي معهم، فتحدث أسير فقال، إنه تعرض للإهانة من قبل مسؤولي المعسكر، فسأله وهو في غاية الفرح أنه عثر على شيء يرد فيه على العراقيين ما أذهلوا العالم من حسن معاملتهم لأسرى الحرب، قال الأسير الإيراني ويبدو أنه كان أبلهاً، (طلب منا مسؤولو المعسكر ذات صباح التهيؤ لاستقبال زوار مهمين، فتم توزيع الواجبات علينا لتنظيف القاعة، فطلب الأرشد مني أن أنظف جهاز التلفزيون الموضوع على منضدة كبيرة، يقول هذا الأسير المغفل، جلبت الماء وغسلت التلفزيون ثم جففته، وبعد ذلك تم تشغيله فانفجر، عندما علموا بما فعلت عاقبني آمر المعسكر فوصفني أمام القاعة قائلا يا لك من غبي، فسأله ثم ماذا حصل بعد ذلك، فقال لا شيء يا سماحة الشيخ، فضحك رفسنجاني وقال له "فعلا إنك غبي" هذا أقسى عقوبة عثر عليها رفسنجاني في سجل التعامل العراقي اللاإسلامي مع الأسرى الإيرانيين مقابل المعاملة الإسلامية الإيرانية مع الأسرى العراقيين).
هنا يبرز سؤال ملّح، هل أن الفرد الإيراني عنده هذا الشعور العالي بقيمة كرامته بحيث تخدشه كلمة "غبي" ويطرحها أمام رئيس الجمهورية في بلاده؟ أم أنه عاش موفور الكرامة مصان الحقوق من طرف دولة لا تسمح بالخروج على قوانينها لأي كان؟ وهل هناك وجه للمقارنة بين ما عاشه هذا الأسير الإيراني وما عاشه الأسرى العراقيون من رعب وتعذيب وتجويع؟ حتى أنهم وصلوا لقناعة تامة بعدم وجود فاصل منطقي بين الموت والحياة، ولولا أنهم كانوا مؤمنين إيماناً نقياً بالله، لا تشوبه شائبة من خرافة ودجل المعممين، لاختاروا طريق الموت الإرادي، على حياة الذل التي تمثل القاعدة العامة لكل نزلاء السجون في إيران، بصرف النظر عن جنسيتهم وأسباب وجودهم في هذه السجون، فهل انتفض موظف واحد في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وعقد مؤتمرا صحفيا لكشف حجم المحنة التي يعيشها الأسرى العراقيون؟ وهل تضامن ألكسندر هيه، الرئيس السابق للجنة الدولية الأحمر، معهم ولو بكلمة واحدة طيلة فترة عمله في منصبه؟ محنةُ الأسرى العراقيون محنةٌ مركبة لا يقدر أبعادها إلا اسرى العراق المظلومون من الجهات الأربع، هنا أريد أن استوضح من كل خبراء حقوق الإنسان والمنظمات الدولية، كيف استرد جانبا من حقوقي أنا وبقية الأسرى العراقيين من اللجنة الدولية للصليب الأحمر؟.
أنا لا أرى في تلك المنظمات التي يُطلق عليها جُزافا، اسم المنظمات الإنسانية، إلا منظمات تحرصُ على ديمومة عملها من أجل الاستمرار بتقاضي موظفيها رواتبهم الخيالية، ولم نسمع أن واحدة منها أعلنت فشلها في تأدية المهمات الموكولة إليها، ثم توقفت عن مواصلة الضحك على أطراف دولية توسمت بها الخير، وإذا بها شريك أصيل في أبشع الجرائم التي تعرضت لها الشعوب.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

975 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع