د.عصام شرتح
مثيرات اللذة الجمالية في قصيدة (عصفورة القلب) لوهيب عجمي
تهدف الدراسة إلى كشف المؤشرات الجمالية الإبداعية التي ترتكز عليها قصيدة( عصفورة القلب) لوهيب عجمي من حيث الفاعلية، والقيمة، والاستثارة الجمالية؛ إذ إن الكشف الجمالي عن المفاصل النصية الحساسة في القصيدة يضع القارئ في صلب العملية الإبداعية في الكشف النصي؛ وهذه قمة الفائدة المرجوة من مثل هذه الدراسات الكشفية أو البحثية؛ أنها تضع القارئ في محرق الفاعلية النصية، لأن أية قيمة جمالية تستحوذها القصيدة لا تأتي عن عبث، وإنما تأتي عن إحساس جمالي، وخبرة إبداعية في تشكيل القصيدة، لتستحوذ على إيقاعاتها الجمالية، ومن أجل هذا، جاءت هذه الدراسة لتكشف عن الخصوصية الإبداعية لقصيدة(عصفورة القلب) لوهيب عجمي المميزة في إيقاعاتها وتحولاتها الجمالية التي ترتكز عليها في بث دلالاتها ورؤاها الغزلية، بإحساس جمالي وحساسية إبداعية في تشكيل الصور الغزلية واستثارة إيقاعاتها الجمالية الحساسة.
وتأكيداً على هذا، فإن الكشف عن مثيرات اللذة الجمالية – في هذه القصيدة- يعني الكشف عن كل المفاصل النصية الحساسة التي تجعل هذه القصيدة قمة في الإحساس والفاعلية والطاقة الإيحائية المركزة.
أولاً- نص قصيدة(عصفورة القلب):(1)
-يا منْ بلغتِ من الجمالِ فصولا ومهدتِ في أدبِ الغرامِ حقولا
2- هيا اغرسي عشقاً بقلبِ قصيدتي فالشعر يغدو بالعشيقِ جميلا
3- تمسي الحروفُ كواكباً بل أنجماً وتعيشُ في كبدِ السماءِ طويلا
4- فوحي بعطركِ في الصباحِ تألقي وتلبَّسي نجمَ الضحى إكيلا
5- عصفورُ قلبي تائهٌ في عشهِ والغصنُ يشكو في الفلاةِ ذبولا
6-حوريتي أنت الحياةُ وجنتي وبغير هذا أهملُ التعليلا
7- مُدِّي ذراعَكِ تحت رأسي حلوتي أوليس لمسك بالشفاءِ كفيلا
8-أولستِ من أحيا فؤادي كلما وقعَ الفؤادُ على يديكِ قتيلا
9-طلّي وغذي مهجتي بأناملٍ ببنانِ سحرٍ ترفضُ التأجيلا
10- وتوضئي بالحبِّ صلي للهوى وضعي لدين العاشقين أصولا
11-أوليست الأعمارُ إلا كذبة تلهو بحلمٍ يعتريكِ قليلا؟
12-تباً لعمرٍ دونَ حبٍ ينتهي والعمر يهوى في الورى التنكيلا
13-هيا إلى بحري تعالي موجة ً وتعمدي للسابحينَ وصولا
14-إني اعتنقتُ الحب في مهدي وقد أصبحتُ للحب الكبير رسولا
15- عيناكِ آياتُ الجمالِ وإنها من ربنا قد أنزلتْ تنزيلا
16-فسرحتُ أهذي غارقاً في وصفها لغة الهوى بدَّلتها تبديلا
17- دوَّنتها وقرأتها فعشقتها وبمعبدي رتلتها ترتيلا
18-والفجرُ عند بزوغه لما يجد إلاك في قهرِ الظلام سبيلا
19- فسعى إليكِ مع النسيمِ بشمسه حتى تكوني للضياءِ دليلا
20-وتفتحت مهجُ الورود بفجرها وتناغمت قممُ الخيالِ صهيلا
21-فهممتُ في وجه الصباح مقبلاً ثغر الحبيبةِ والسنى تقبيلا
22- أيقنتُ أنك في الحياةِ منارتي لما أضأتِ بصدري القنديلا
23- أحسست قلبي للحبيبةِ دوحة ً غرستْ بها فوقَ الوريدِ نخيلا
24-شغفٌ بها عند الأصيلِ تمايلتْ همساً وجفناً ساحراً مكحولا
25-وعزفتُ ألحاني بروحِ قصيدتي فسمعتُ في بيت القصيدِ هديلا
26-وغسلتُ أوجاعي بآهاتي وما وجدَ الفؤادُ مع الغرامِ حلولا
27-(هلي) إليَّ بكل حسنكِ أنعشي قلبي الجريحَ واستبظئي التهليلا
28- هيا اشرئبي كالحمائم للسما ماكانض فجركِ في البزوغِ خجولا
29- وتفتحي وردَ القلوبَ بواحتي ماكان وردكِ بالعطورِ بخيلا
30- في بحري اغتسلي ليغدو ملحُهُ عسلَ الشفا لايقبلُ التأويلا
31- أيقولُ حسادي بأنكِ خمرتي ماهمني في سكرتي ما قيلا
32- خمر الدوالي ما أطاحَ بصحوتي لكن كأسكِ يرفعُ المفعولا
33- طرزتُ حرفي بالبلاغةِ متقناً ألبسته لحبيبتي منديلا
34- شمس المحاسن من جبينكِ أشرقتْ وأحبُّ فيكِ قوامكِ المصقولا
35- لاتطفئي ناراً بقلبي أشعلتْ بل أضرميها بكرةً وأصيلا
علم الجمال الشعري:
قد يختلف معنا الكثيرون، هل ثمة علم يدعى علم الجمال الشعري أو النصي، وإذا كان ثمة علم يدعى علم الجمال الشعري، من هم أبرز النقاد أو العلماء الجماليين الذين ربطوا الجمال بالشعر ،والذين ربطوا فن الجمال بعلم الجمال الشعري؟ نقول :إن علم الجمال الشعري علم قديم ، بحث فيه النقاد القدامى كأفلاطون وسقراط ضمن ما يسمى علم الجمال، ومؤثرات الفن، وفلسفة الفن، ولما كان فن الشعر من الفنون القديمة فإن كل النقاد ربطوا الفلسفة بالشعر، وربطوا الشعر بالفلسفة، وأهمها ما يدعى بفلسفة الجمال الشعري، وهذا يدلنا على أن الفكرة موجودة منذ القدم ، لكن انشغل الفلاسفة بقضايا عامة ما التفتوا إلى المسائل الخاصة، لاسيما علم الجمال الشعري، الذي هو علم جمالي رفيع المستوى؛ وقد حاولنا في دراستنا النصية هذه أن نمهد لهذا العلم الجديد بشقه التطبيقي عند شاعر جمالي هو وهيب عجمي، شاعر استطاع أن يقرن الجمالية بالعلم، والفن بالفكر ،والفلسفة بالرؤيا، والإيقاع باللحن الروحي، والغناء بالكلمات المموسقة وإيقاعاتها المتناغمة؛ ويعد الشاعر وهيب عجمي من الشعراء المؤثرين الذين أثروا الساحة الشعرية بقصائد لوحاتية غاية في الفهم، والإدراك ،والحساسية الجمالية من حيث بلاغة الرؤيا، وعمق المنظور الفني أو الجمالي، لتأتي قصائده غاية في الاستثارة، والبلاغة، والتأثير.
وبمنظورنا: إن الشعرية – عند وهيب عجمي- مثيرها دائماً كل ما هو جمالي في الرؤيا، والتشكيل، والهندسة اللفظية، وعمق المتخيل الشعري، فالقصيدة- لديه - دائماً - مسرح جمالي يشكله العجمي بإحساس واقعي عياني مباشر، يحرك الجماد، ويؤنسن الأشياء المحيطة أمامه لتتمثل في تجربته، وكأنها شخوص حية، وهو ينظر للشعرية من منظار كل ماهو حي، ومن منظار كل ما هو متحرك ومتبدل كما وجه الحياة،أي نظرة العجمي للجمال نظرة عميقة تنطلق من الطبيعة لتعود إليها، ولهذا كل المشاهد في عيني العجمي متحركة تموج بالحياة، وهذا دليل نظرته المتحولة جمالياً أو المفلسفة للواقع والوجود والحياةن إذ يقول:" كل شيء في عيني الشاعر يموج بالحركة لا يوجد في رؤى الشاعر ما هو ثابت ، كل يوم في حياة الشاعر عالم جديد منفتح على الحياة، فالشعر لعبة من ألاعيب الحياة، وفن من فنونها،وهل ثمة فن أعظم من فن الحياة، فما دام الوجود متحركاً بالتأكيد فإن مخيلة الشاعر متحركة كما هي الحياة في الواقع العياني المباشر، وأبداً ما عشت القصيدة رهين محبس الوجود كما المعري أعيش الحياة بمتنفس الحياة ذاتها ، فكما أعيش يومي الحياتي أعيش حساسية القصيدة، وكونها، وهواءها، ونفسها في داخلي، فأنا مسكون بالقصيدة، والقصيدة مسكونة في روحي أشكلها بطينة التجربة، وعصارة الخبرة والمهارة، والوعي الجمالي، ما كنت يوماً رهين المحبسين كما المعري، فأنا رهين فضاءات الرؤيا، وحداثوية المنظور الجمالي للحياة في أدق تفاصيلها"(2).
وهذا يعني أن العجمي يعتبر الحياة مادة الفنون قاطبة، فلكل فن مادته وفن الشعر تحديداً مادته الطبيعة ووسيلته اللغة الشعرية الموقعة، التي تختلف من شاعر إلى شاعر آخر، تبعاً لفاعلية الرؤية وحساسية المنظور الإبداعي الخلاق.
والسؤال المهم الذي نطرحه على خارطة التداول النقدي؟
هل ثمة ميزة أو قيمة أسلوبية يمكن أن نسم بها قصائد العجمي كلها؟ هل ثمة تغيراً أو اختلافاً في منظورها الإبداعي؟ بمعنى أكثر دقة: هل لقصائد العجمي ميزة إبداعية تميزها عن بقية القصائد عند شعراء الشعر التقليدي الكلاسيكي؟
هل ثمة حداثة في القصائد الكلاسيكية ؟ وأين تكمن حساسيتها الجمالية؟
لاشك في أن لقصائد العجمي حداثتها ومنظورها الحداثوي وإن اعتمدت الشكل التقليدي في اتباع البحور، والتزام القوافي..وهذه الحداثة اختلافية الرؤى والمنظورات والمؤثرات الإبداعية؛ في قصائد العجمي، وماتنوع حداثتها إلا لتنوع قيمها ومؤثراتها الجمالية.
وبتقديرنا: إن العجمي يدرك سر الحداثة، وعصر الحداثة؛ فالحداثة ليست أيقونة ثابتة، أو رمزاً ساكناً؛ إن الحداثة روح متمردة، وثورة معرفية، ورؤيوية، وحركة تصويرية انقلابية تعزف على وتر المتغيرات الدائبة، وسيرورة الحياة المتجددة، ولا يمكن للشاعر أن يكون شاعراً مؤثراً إن لم يكن حراَ في فكره، ورؤاه، ومتخيلاته الشعرية، ومن هنا، فإن من أهم فواعل الرؤيا الجمالية عند شعراء الحداثة بلاغة الرؤيا الشعرية، وبلاغة المنظور الجمالي للقصيدة، فالشاعر المبدع يشكل القصيدة بجمالية مثيرة، وبلاغة آسرة يبني (النص- الكتلة)، أو (النص- اللحمة) الذي يحتاج مزيداً من الانفتاح، والوعي الجمالي، والتخطيط الإبداعي في تشكيله؛ وبهذا المنظور يقول وهيب عجمي:" ما عشت القصيدة كواجب، أو فرض ، القصيدة تتغلغل في مسامات روحي ،وأحاسيسي العميقة، أنا أتنفس في قصائدي عبير الحياة، ونكتها الطازجة بالأرض وعبيرها وعرق الفلاح العطرة. والفكرة الشعرية - عندي- وليدة لحظتها المتوترة، وسخونة الأحداث، والوقائع اليومية؛ أنا أكتب القصيدة بفاعلية، وجمال، وحياكة عالية في التشكيل والتركيب ولهذا، أتصيد الصور الحساسة التي تفيض بشعريتها ورؤيتها الخلاقة بالمعاني والدلالات الجديدة. ولا أنتمي إلى مدرسة في الكون إلا مدرسة الجمال، والفن، وكل ما يثير الفن يثيرني، وكل ما يحرك الجمال يحركني ويشدني "(3).
بهذه الرؤية التي يطالعنا بها العجمي نؤكد أن وعيه الجمالي، وقدرته الفائقة على ابتعاث، وخلق الصورة التشكيلية الجمالية جعلاه يهندس القصيدة هندسة لفظية وجمالية؛ غاية في الاستثارة، والبلاغة، والتأثير، وكما قلنا : إن عنصر الاستثارة الجمالية التي تحفل بها قصائده ترتكز على فواتحها، أو عتباتها الاستهلالية من حيث القيمة الجمالية المحكمة التي يستهل بها قصائده، لتأتي ذات قيمة عالية في الحراك الجمالي على مستوى الأنساق والتشكيلات الشعرية المراوغة، كما في هذه الفاتحة التي استهل بها قصيدته( عصفورة القلب) المهداة إلى زوجته، إ ذ يقول فيها:
"
1-يا منْ بلغتِ من الجمالِ فصولا ومهدتِ في أدبِ الغرامِ حقولا
2- هيا اغرسي عشقاً بقلبِ قصيدتي فالشعر يغدو بالعشيقِ جميلا
3- تمسي الحروفُ كواكباً بل أنجماً وتعيشُ في كبدِ السماءِ طويلا
4- فوحي بعطركِ في الصباحِ تألقي وتلبَّسي نجمَ الضحى إكليلا
5- عصفورُ قلبي تائهٌ في عشهِ والغصنُ يشكو في الفلاةِ ذبولا
6-حوريتي أنت الحياةُ وجنتي وبغير هذا أهملُ التعليلا
لاشك في أن الشعرية قيمة تحولية غاية في الاستثارة، والحساسية، والجمال، لاسيما عند بعض الشعراء الذين يهندسون الصور والكلمات هندسة بنائية تشكيلية محكمة؛ فالشاعر -هنا- يتلاعب باللفظ، والكلمات تلاعباً فنياً مغرياً في استهلالاته، لتأتي جمالية التراكيب من جمالية المعاني والدلالات التي تفجرها في النص الشعري؛ أي ثمة تفاعل حقيقي بين اللفظ ودلالاته ، وهذا التفاعل من أهم فواعل الاستشراف الجمالي في ربط الأنساق الشعرية ببعضها بعضاً، وامتياز البلاغة الجمالية التي أغرت النص الشعري، ليثمر برؤيته الجمالية للقارئ، فالقيمة الجمالية قيمة تحفيزية للنسق الشعري، فها هو الشاعر في استهلال تراكيبه الشعرية يستدعي الملفوظات الموقعة صوتاً ودلالة:[عصفور قلبي تائه في عشه/ والغصن يشكو في الفلاة ذبولا]؛ فالقيمة الجمالية للأبيات استشرافية للمعاني والدلالات الجديدة لتأتي موقعة بلاغياً؛ وهذا دليل أن العجمي يبني النص التفاعلي، نص الرؤيا البليغة والمعاني المتجددة.
ولو دققنا في مغريات هذه القصيدة على المستوى الجمالي لتبدى لنا أن المستوى الجمالي منبني على الدلالات المكثفة، والرؤى الصادمة ؛ لتأتي ذات قيمة إيحائية عالية بالتكثيف، والرؤى البليغة ، كما في قوله:
- مُدِّي ذراعَكِ تحت رأسي حلوتي أوليس لمسك بالشفاءِ كفيلا
8-أو لستِ من أحيا فؤادي كلما وقعَ الفؤادُ على يديكِ قتيلا
9-طلّي وغذي مهجتي بأناملٍ ببنانِ سحرٍ ترفضُ التأجيلا
10- وتوضئي بالحبِّ صلي للهوى وضعي لدين العاشقين أصولا
11-أو ليست الأعمارُ إلا كذبة تلهو بحلمٍ يعتريكِ قليلا؟
12-تباً لعمرٍ دونَ حبٍ ينتهي والعمر يهوى في الورى التنكيلا
13-هيا إلى بحري تعالي موجة ً وتعمدي للسابحينَ وصولا
14-إني اعتنقتُ الحب في مهدي وقد أصبحتُ للحب الكبير رسولا"
لاشك في أن الشعرية –أساسها- دقة اختيار الملفوظ الشعري،وبداعة الدلالات والرؤى الغزلية ، لتبدو الرؤية الشعرية ذات قيمة ائتلافية تضافرية بين الجملة /والجملة؛ والدلالة /والدلالة، كما في قوله:[ مدي ذراعك تحت رأسي حلوتي أوليس لمسك بالشفاء كفيلا]؛ولو دقق القارئ في المخزون الجمالي للكلمات ،ومستوى تفاعلها وتضافرها في النسق الشعري لخلص إلى نتائج موضوعية، وهي أن القصيدة تشكل منعطفاً مهماً في تحفيزها النسقي؛ مما يجعلها غاية في المباغنتة والحنكة الجمالية:( وتوضئي بالحب صلي للهوى/ تباً لعمرٍ دون حبٍ ينتهي)، فالشاعر هنا يبني الرؤية الشعرية الخلاقة التي تشي بها إبداعياً. وهكذا، يؤسس الشاعر الدلالات الشعرية على حراك الرؤى البليغة، لدرجة أن الجملة تقتضي الجملة، وتشكل معها فاعلية آسرة، والكلمة تقتضي الكلمة بسيرورة نسقية متضافرة لفظاً ودلالة، وهكذا؛ تتناغم الدلالات الشعرية لتحقق أعلى مستوى تفاعلي مؤثر في النسق الشعري من خلال تفاعل الدلالات والرؤى الشعرية، وهذا ما يلحظه القارئ في تتابع الدلالات والصور الشعرية على هذه الشاكلة من المواربة والاختلاف والتنوع والاستثارة الجمالية.
والملاحظ إبداعياً أن الحنكة الجمالية التي تربط البيت بالبيت الشعرية- على منحى ائتلافي ترسيمي جمالي- حنكة دلالية ترسيمية ،إذ إن البيت الشعري يقتضي جمالية البيت السابق، وجمالية البيت اللاحق دون أن تنفصل الرؤى أو تتشظى، مما يدل على بلاغة خاصة في رسم الصور الشعرية لتحقق مبتغاها الفني، ومقتضاها الجمالي الحقيقي ،كما في قوله:
15- عيناكِ آياتُ الجمالِ وإنها من ربنا قد أنزلتْ تنزيلا
16-فسرحتُ أهذي غارقاً في وصفها لغة الهوى بدَّلتها تبديلا
17- دوَّنتها وقرأتها فعشقتها وبمعبدي رتلتها ترتيلا
18-والفجرُ عند بزوغه لما يجد إلاك في قهرِ الظلام سبيلا
19- فسعى إليكِ مع النسيمِ بشمسه حتى تكوني للضياءِ دليلا
20-وتفتحت مهجُ الورود بفجرها وتناغمت قممُ الخيالِ صهيلا
21-فهممتُ في وجه الصباح مقبلاً ثغر الحبيبةِ والسنى تقبيلا
22- أيقنتُ أنك في الحياةِ منارتي لما أضأتِ بصدري القنديلا
23- أحسست قلبي للحبيبةِ دوحة ً غرستْ بها فوقَ الوريدِ نخيلا
24-شغفٌ بها عند الأصيلِ تمايلتْ همساً وجفناً ساحراً مكحولا
هنا،يأتي المقتضى الصوتي والنسقي مقتضى تشكيلي استثاري الرؤية والدلالة؛ لدرجة أن الكلمة تقتضي جمالياً الكلمة التي تليها والكلمة التي تسبقها، لتحقق مبتغاها النصي؛ وهاهنا اعتمد الشاعر بلاغة الكلمة الفعلية في نسقها الشعري، لتثير النسق الشعري، وتعبر عن الحراك أو التحول في الحدث الفعلي، كما في التحولات الفعلية النسقية التالية:[سرحت- بدلت- دونت- قرأت- رتلت-هممت-أحسست ]؛وناهيك عن بلاغة الفعل المخاطب، وما تصاحبه من حركة للمشاعر(تفتحت- تناغمت- أيقنت-غرستْ- أضاءت-تمايلت)؛وهذا دليل الحراك الشعوري في الأحداث، والمشاعر الغزلية المتوالية التي تبعث الصورة المؤثرة/ والصورة البليغة ،والدلالة ومثيلها الشعوري الغزلي في كشف الحالة الشعورية، وما يصاحبها من أحاسيس متوترة غاية في الشفافية، واللذة والإيحاء، والغزل الروحي والصوفي المحتدم بأنثى الكمال أو أنثى الجمال.
والملاحظ جمالياً أن الحراك الفعلي جاء متواشجاً مع كثافة الصور والدلالات والمشاعر المحتدمة التي تباغت القارئ في نسقها الجمالي، بالانتقال من نسق تصويري جمالي إلى آخر، لتبرز الدلالات الشعرية المتوترة ، كما في سلسلة الصور الغزلية الاستثارية المتناغمة :[فهممت في وجه الصباح مقبلاً]، فهذه الصورة الغزلية تقتضي بلاغة الصورة الفعلية المتحركة بإيقاعها:[أيقنت أنك في الحياة منارتي / لما أضاءت بصدري القنديلا]؛ وهكذا تؤدي الأفعال دورها الحركي التحولي في نقل المشاعر الغزلية المصطهجة بالمشاعر الغزلية المكثفة التي تعبر عن بلاغة فنها الجمالي وبلاغة مقتضاها التصويري، ليكون الفعل الرابط أو الفاعل المؤثر في إصابة المقتضيات الشعرية، والعاطفية، والدلالية البليغة في نسقها الشعري.
ومن هنا، يمكن القول: إن شعرية القصيدة في شعر وهيب شعرية كتل نصية متفاعلة،أو لنقل: مكونات أسلوبية ومتغيرات أسلوبية خلاقة بالرؤى والدلالات الغزلية الجديدة، بالانتقال من صورة إلى صورة، ومن دلالة إلى دلالة؛ لتحقق أعلى قيمة في منتجة الصور التشكيلية، وليست البصرية فحسب، أي ثمة تفاعل رؤيوي خلاق بالمؤشرات الجمالية التي يؤسسها العجمي على الباعث الاسمي، ومقتضاها التشكيلي ضمن سيرورة نسقية تفاعلية تدلل على شعرية الكلمة وتفاعلها في نسق الجملة لتثير القارئ بأنغامها، وأصدائها الدلالية الموقعة لفظاً ودلالة، على شاكلة قوله:
"
25-وعزفتُ ألحاني بروحِ قصيدتي فسمعتُ في بيت القصيدِ هديلا
26-وغسلتُ أوجاعي بآهاتي وما وجدَ الفؤادُ مع الغرامِ حلولا
27-(هلي) إليَّ بكل حسنكِ أنعشي قلبي الجريحَ واستبظئي التهليلا
28- هيا اشرئبي كالحمائم للسما ماكانَ فجركِ في البزوغِ خجولا
29- وتفتحي وردَ القلوبَ بواحتي ما كان وردكِ بالعطورِ بخيلا
30- في بحري اغتسلي ليغدو ملحُهُ عسلَ الشفا لا يقبلُ التأويلا
31- أيقولُ حسادي بأنكِ خمرتي ما همني في سكرتي ما قيلا
32- خمر الدوالي ما أطاحَ بصحوتي لكن كأسكِ يرفعُ المفعولا
33- طرزتُ حرفي بالبلاغةِ متقناً ألبسته لحبيبتي منديلا
لاشك في أن الشعرية – في المحصلة عند العجمي- تأسيس كلمات ،وحرفنة نسقية في رسم أبعادها، ورؤاها الشعرية، إذ إن الشاعر يتلاعب بالنسق الشعري جمالياً، بالانتقال من صورة إلى صورة، ومن رمز دلالي إلى آخر، لتبرز الدلالات برؤاها المكثفة، ومؤثراتها البراقة على شاكلة قوله:[طرزت حرفي بالبلاغة متقناً-في بحري اغتسلي ليغدو ملحه عسل الشفاه لايقبلُ التأويلا]؛ فهذه الصور لايشكلها إلا شاعر مترف المخيلة والحساسية الجمالية التي تتناغم مع الموقف الشعري بكل ما يتضمنه من قيم جمالية مؤثرة؛ وهكذا ، يؤسس الشاعر إيقاع قصائده على بلاغة الدلالات الشعرية ،وقيمة مؤثرها الجمالي ، لتأتي القفلة شاعرية ذات إيقاعات تصويرية متلاحمة، وكأن العجمي يرسم الكلمات رسماً دقيقاً بريشة فنان تشكيلي، يعي جمالية الكلمة وإيقاعها الصوتي الخلاق، الذي يستثمر جميع القيم والطاقات الجمالية،كما في قوله:
34- شمس المحاسن من جبينكِ أشرقتْ وأحبُّ فيكِ قوامكِ المصقولا
35- لا تطفئي ناراً بقلبي أشعلتْ بل أضرميها بكرةً وأصيلا
36- أنا من تشظى بانفجار قصيدتي وغدوت في نعشِ الهوى محمولا
إن الخاتمة النصية هنا، تحقق جماليتها بإيقاع تحفيزي من خلال دهشة ما تشير إليه من دلالات، ومعانٍ، ورؤى، غاية في التحفيز والتفعيل النصي، وهذا دليل بلاغة فنية، و حنكة جمالية عالية في اختيار الكلمات، ورسم منعرجاتها الشعورية الإيقاعية بكامل حراكها الأسلوبي وانفتاحها النصي؛ أي انها ذات ترسيم جمالي في في اختيار الكلمات الشعرية المتناغمة مع الموقف الشعوري الغزلي الملتهب؛ وكأن كلماتها من الدرر الجمالية في متحف الشاعر وهيب عجمي الغني باللوحات، والصور، والتحف الفنية، مما يجعلها ذات قيمة جمالية عالية تؤسس شعرية النسق الجمالي، وبعدها الفني الاستشرافي الجمالي الدقيق.
وهكذا، تحقق القصيدة قيمتها الجمالية عبر مؤثراتها التشكيلية لترقى أعلى مستويات الاستثارة، والبلاغة، والتأثير؛ وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على روح شاعرية مؤثرة باتجاهاتها كافة.
وصفوة القول: إن مثيرات اللذة الجمالية – في قصيدة( عصفورة القلب) لوهيب- تكمن في بلاغة الرؤية الجمالية، وحساسية الصورة الغزلية المتناغمة في إيقاعاتها التشكيلية المتآلفة صوتاً ودلالة مع حرارة الموقف العاطفي المجسد، لدرجة أن القارئ يتلذذ بالتناغم الجمالي بين الصور الشعرية ، لتحقق إيقاعاتها الجمالية المتناغمة، وهذا يعني أن المهارة الإبداعية الخلاقة التي تشي بها تؤكد أن العجمي شاعر الرؤية الغنائي الأول في الشعرية العربية المعاصرة، من حيث المهارة الإبداعية في الوقوف على جماليات رؤيوية بليغة في تشكيل القصيدة المراوغة بإيقاعاتها ورؤاها الغزلية الرومانسية الخلاقة، وهذا دليل أن الفكر الجمالي الإبداعي الذي تستحوذه قصائد العجمي ومن ضمنها هذه القصيدة فكر غنائي، والغنائية في قصائده ليست تقليدية، أو مكررة بل إنها غنائية متجددة مع إيقاعات الحياة، فكما أن الأنغام الموسيقية العذبة هي حصيلة نغمات متفاعلة ومتغايرة فإن الغنائية عند العجمي متنوعة ومتغايرة، تبعاً لتموجات الرؤيا الشاعرية الخلاقة في قصائده؛ وهذا دليل إيقاعها الإبداعي الحساس وحساسيتها الجمالية البراقة التي تجعل القارئ يسبح في دهشة تلقيها الجمالي لتغريه إلى مطالعتها كل حين، وهذه ثمرة الشعرية المؤثرة برؤاها ومنطلقاتها الجمالية الخلاقة.
الحواشي:
(1)عجمي،وهيب،2020-وردة العشق،دار البنان،ط1، ص33-37.
(2) شرتح، عصام،2020- حوار مع وهيب عجمي، الفيس بوك
(3) شرتح، عصام،2020- حوار مع وهيب عجمي، الفيس بوك.
918 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع