حاتم جعفر
أوجاع السيدة شهد الراوي(حديث عن روايتها ساعة بغداد)
إبتداءاً، لا بأس من تسجيل ما أظنه ملفتا في نصها. فعلى الرغم من أن رواية ساعة بغداد تُعَد اﻷولى في مسيرتها اﻷدبية، الاّ انها حوت بين جنباتها ما يستدعى الإنتباه ويشد القارئ، الا و هو تمكن الكاتبة من لغتها وتطويعها وبما يتفق مع البعد والسياق الزمنيين للرواية، وهذا ﻷمر على غاية من اﻷهمية في عالم السرد. فمثلا حين كانت تتحدث عن طفولتها وأقرانها أيضا، إعتمدت من المفردات ما يتناسب وعفوية ذلك العمر. ولم تكتفِ بذلك بل راحت أ`عمق في مخيلتها، وهذا ما لمسناه في وصفها لعالم الطفولة، حيث سلطت الضوء على طبيعة إهتماماتها واﻷلعاب المفضلة لديها، والتي كانت شائعة آنذاك.
في ذات السياق فالمتتبع لسردها ومع الإنتهاء منه، سيلمس وبوضوح تام تلك البساطة والسلاسة في أسلوبها، ليأتي متناغما ومستجيبا لمقتضى النص. وسوف يكتشف المتلقي أيضا تغيّرا وتطورا ملحوظين في مستوى اللغة وإستخداماتها ومع كل مرحلة جديدة من العمر، ولتتناسب مع ما أملته طبيعة اﻷحداث والظروف التي مرّت بها شخصياتها. انها بحق لإلتفاتة ذكية من لدنها.
ثلاثينية العمر أو أكثر بقليل، هذا ما أنبأتنا به سيرتها الذاتية، فهي وقريناتها إذن عاشوا وواكبوا أصعب المراحل السياسية في تأريخ العراق، حيث تقاذفتهم صنوفا من اﻷذى واﻷسى، فمن حرب الى أخرى ومن حصار الى نظام حكم ديكتاتوري، لم يبقِ ولم يُذر، لذا ما كان على ضحاياه الاّ أن يجوبوا بقاع الأرض بكل جهاتها، وعيونهم ما إنفكت ترنو وتحن الى وطن تركوه هناك عاريا، يتقاذفه مَنْ يشاء ويعبث به مَنْ يشاء.
هنا سنصل الى بيت القصيد، فالكاتبةشهد الراوي ورهطها ممن وُلِدوا في ثمانينات القرن الماضي، قد لاقوا ما لاقوا من حيف وظلم، يشبهون في ذلك والى حد بعيد مَنْ سبقهم، لذا راحت تبحث عن ملاذ خارج الحدود، أملا في أن يوفر لها بعض أمان. وما دام الحال كذلك، فما كان منها الاّ أن تبحر في قارب صغير، أرادت له أن يرسو على أقرب شاطئ من بلادها، ومن هناك ومن شرفة السارية، ستحاول (شهد) أن تطل على ذاكرتها، لتدون أهم المحطات التي مرَّت بها، فكانت روايتها ساعة بغداد. أمّا نحن فسنتوقف عند أوجاعها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بينما كان التنافس على أشده بين الطفلتين على مَنْ منهما لها من العيون أجمل، وَِمنْ منهما اﻷكثر طولا من اﻷخرى، وإذا بصفارات الإنذار تُعلن عمَّن سيكون الضحية القادم. هكذا تبدأ الحكاية، انها سنة 1991، فعلى حين غفلة وتحت وابل كثيف من الحقد والكراهية، شَرَع سربٌ من الطائرات المتعددة الجنسيات بالقصف المركز على ما حلى لها وطاب من اﻷهداف، فما كان على الطفلتين الاّ أن تلجئا الى بعضهما البعض. وعن ذلك تقول الكاتبة في وصفها لتلك اللحظة (أمسكتُ بيدها وهربنا نحو المكان الذي تجلس فيه أمي وأمها)ص13. من ذلك المكان ستبدأ الخطوة اﻷولى نحو صداقة ستمتد طويلا بين صاحبة النص وإحدى شخصياتها وأسمها نادية.
ومنذ الحدث اﻵنف سيرتبط تدوين اﻷحداث بما سيحصل من كوارث. فإذا أردت مثلا أن تتذكر متى التقيت أول مرة بصديقك الفلاني، والذي أجبر على مغادرة البلد وللعديد من اﻷسباب، فستسعين او تعود بالذاكرة الى المعركة الفلانية التي وقعت بالتأريخ الفلاني. أو ستحث الذاكرة على ما حصل من مآسي بسبب سياسة التجويع التي أتبِعَت، أثر ذلك القرار المجحف، الذي قضى بإتباع سياسة حرمان الشعب، وبعنوان فرض الحصار على النظام الذي كان قائما آنذاك. فعن هذا الموضوع وعندما أرادت نادية الطفلة، أن تتذكر متى رأت النهر أول مرة، راحت تروي وعلى لسانها، عندما (عَبَرَت سياراتهم فوق النهر، شاهدت جسورا ميتة قتلتها الطائرات)ص24.
أسماء اﻷشخاص التي كانت شائعة آنذاك قد لا تعكس بالضرورة كل مكونات المجتمع ومناطقه، فالمستوى الإقتصادي سيحدد وبنسبة لا بأس بها طبيعة اﻷسماء التي ستختارها العوائل ﻷبنائها ومن الجنسين على حد سواء. كذلك سيلعب العامل الجغرافي دورا هاما فيها، فضلا عن مستوى الوعي ومدى إقتراب أو إبتعاد الوسط من أسباب التحضر، لذا سنجد المدن الكبيرة على سبيل المثال قد (إحتكرت) أو لنقل تميزت عن غيرها في العديد من اﻷسماء.
وإذا دار الحديث عن رواية ساعة بغداد فسيجد القارئ أن هناك من اﻷسماء ما يمكن فرزها ووضعها في خانة الطبقة الوسطى من المجتمع، والتي عادة ما يكون لها الدور البارز في اﻷخذ بأسباب التحضر، وذلك من خلال شغلها لمؤسسات الدولة وأهم مرافقها، بل وتُعَد صمام أمام لها. ومن بين أسماء الشخصيات التي ترد في الرواية، سيأتي ذكر: نادية، أحمد، بيداء، مروة، وجدان، ريتا ومناف. وبذا تكون الكاتبة قد أوصلت رسالتها والتي مفادها: إن مَنْ غادر بلاده مضطرا في تلك الحقبة من الزمن هُم في جلّهم ينتمون الى الطبقة المتعلمة.
في سياق سردها ستتحدث الكاتبة أيضاً عن الصورة النمطية للمجتمع العراقي، وعن مدى الألفة التي كانت سائدة بين مكوناته وبصرف النظر عن بعض الخصائص. بل ستذهب الى ما هو أبعد من ذلك، حيث ستبرز الجوانب الإيجابية ومدى اللحمة التي تجمعهم (أنا ونادية وكل أطفال المحلة ... أكلنا من مطبخ باجي نادره... تحكي لنا بلكنتها الكردية قصصا عن الجبال الشاهقة)ص39. وَستُسمعنا أجمل اﻷغاني: نرجس نرجس نرجس ... نرجس زينار جوانا.... أوي نرجس نرجس نرجس... سرك ألوني إيفانا.
لم يستمر الحال على ما هو عليه، فهناك من اﻷحداث والوقائع ما سيفسد تلك اﻷلفة التي كان المجتمع محافظا عليها حتى وقت قريب. حيث ستبرز أولى المؤشرات التي ستدل على ذلك، وَسَيُفتح الباب واسعاً أمام مشاكل من نوع آخر. ففي اليوم الذي أعلنت فيه نتائج إمتحانات أبناء المحلة وإنهائهم لإحدى المراحل الدراسية، وما رافقها من أجواء فرح وبهجة، الاّ أنَّ هناك ما سيُفسِدُ ويُنغص عليهم فرحتهم. فــ(بعد أن تسلَّمَ نزار نتيجة الإمتحان، كانت تقف في بابهم سيارة سوداء ... سنتعود عليها في ما بعد، إنهم في هذه الساعة يتركون بيتهم، ويهاجرون الى خارج العراق ولن نراهم بعد هذا اليوم)ص45.
في الفترة اﻷخيرة سيتكرر تواجد السيارة السوداء وبكل ما تحمله من نُذر شؤم، فيا ترى، مَنْ من العوائل سيلقى بها خارج الحدود؟. كل ذلك سيترافق مع ظهور عامل جديد ما كان في الحسبان من قبل، سيعزز من فكرة أن المنطقة أو لنقل السفينة كما تحب أن تسميها الكاتبة، وأعتقد هي كناية عن بغدادها، وبما احتوته من جلال وحضور بهي، ومن ساعة خالدة، كانت محجا لطفولة الكاتبة وشاهد عصر لزمان قد زخر بآيات العشق والمحبة، مقبلة أي السفينة على الغرق. هذا ماسينبؤنا به مَنْ سمّى نفسه بالعرّاف. والعبارة التي أطلقها هذا الدعي، سترن في أسماع مَنْ كنَّ صاغيات له من نساء الحي، ولتنزل (مثل الصاعقة على رؤوسهن وهن يتسائلن عن أية سفينة يتحدث هذا المشعوذ)ص72.
وتيرة مغادرة المنطقة أخذت بالتصاعد، وها هو بيت أبو سالي، تُركََ بعهدة الرجل الطيب وأحد أعيان المحلة، أبو شوكت، فهو الذي سيشرف ويقوم بعملية سقي ما بقي من حديقة، كانت وحتى وقت قريب زاهية بشجرة الرارنج وعبق ساكنيها. وها هو يدفع عن جدران البيت ما تراكم من غبار وحزن. وها هو أيضا يطمئن أصحاب البيت بخطوة قد تُرضيهم بعد أن فقدوا أمل العودة. فما إن إتصل بمالك الدار حتى قال له(سأبيع هذا البيت وأرسل لك ثمنه)ص85. بالعبارة اﻷخيرة، تكون شهد قد أشَّرت الى بداية التغيير الديمغرافي الحقيقي. خاصة وان عملية المغادرة أخذت تطال بعض من العوائل التي لم تبرح المنطقة، وعلى مدى ثلاثة أجيال متعاقبة.
أوجاع العراقيين لم تتوقف، فمنذ مطلع الثمانيات وما قبلها وهم يعانون من أشد أنواع التعذيب والفتك والإنتهاك لحرياته، لذا بات من نافلة القول: ان العراقي يولد كي يلقى حتفه بعد حين، ولم يك بعد قد شمَّ عطر الياسمين أو إستظل بشجرة النخيل الخالدة. وعن هذا الموضوع مرة أخرى فالكاتبة لم يفتها التذكير بحملات التضامن اﻷممية التي قادتها العديد من المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان وحق الشعوب المشروعة في الحصول على قوتها اليومي. ومن بين أبرز الوجوه التي قامت بهذه الحملة، عضو البرلمان البريطاني والمدافع الثابت عن حقوق شعوب العالم في نيل حريته، وبشكل خاص الشعب الفلسطيني، حيث دعا ومن عاصمة الرشيد، الى رفع الظلم وكل أشكال الحيف، بما فيها سياسة التجويع الممنهجة، فها هو (جورج غالاوي في شوارع بغداد، تضامنا مع أطفال العراق ضد الحصار)ص92.
وبالعودة الى ذاك الشخص الذي أطلق على نفسه صفة العرّاف، فها هو مرة أخرى وبحلة جديدة، حيث بدا حليق الذقن وبنظارات معتمة، مستعينا بعصا، تظهره كما الأعمى الذي يتلمس الطريق بعد أن فقده أو حاول أن يتظاهر بذلك. يجوب أحياء المنطقة، لِيُبَشر أهلها بالمزيد من المصائب والمصاعب. وبأنَّ الخراب سيعم أركان البلاد، وستعصف الريح بأرض الرافدين وسيتقاسم تأريخه ومجده كل مَنْ تربَّصِ به شرا. وسيتنازع عليه أهله قبل اﻷعاجم. وسيرحل مَنْ يرحل، و(سيظهر الغرباء فجأة من البيوت المهجورة وهم يتحدثون بلغة غريبة عنكم، يطلقون النار بدم بارد ومن دون أن تطرف لهم عين)ص108.
أمّا مَنْ تبقى من أهل الحي وربما أحياءا أخرى، فقد بدأت تصل مسامعهم من المفردات غريبها. وباتت تُشكل وجعا آخر أو لنقل هماً آخر لهم. فهي وعلى قلتها وصعوبة إختراقها وخاصة للفئات الإجتماعية لنقل المثقفة نسبياً، الاّ انها أخذت تتسلل لتجد لها مكانا بين اللهجات المحكية الشائعة، والتي كان يتقاسمها ويفخر بها المجتمع العراقي. من أين جاءت وكيف دخلت واستقرت!. ومن بين تلك المفردات على سبيل المثال، التي إنتبهت لها الكاتبة وأشارت اليها وعلى عجالة، والتي دخلت حيز التعامل حتى بين بعض اﻷوساط الجامعية(قفّاص، نگري، حاتة تملخ، باي، أصيلة، طگطوگ)ص153.
توظيف الحلم في العمل الروائي لهو أمر شائع ومتعارف عليه، أمّا تأريخيا فقد وُلِدَ مع ولادة النص نفسه أو لنقل المدونة. فهما صديقان حميمان، ظلا يسيران سوية. واللجوء اليه (الحلم) فهو مرتبط بعديد الإعتبارات ولسنا هنا بصددها، ولا أظن اﻷمر بخافٍ عليك عزيزي القارئ. وفي إستعانتها بالحلم، فقد أرادت الكاتبة أن تُحلّق على بغدادها بعد أن صَعُبَ عليهما التلاقي. وما دام الحال كذلك، فستستحضر شهد مدينتها المفضلة والحبية. سترسم خطوط العرض والطول لتلك المدينة المدورة والمنورة. ستطوف على أهم وأبرز معالمها، بأحيائها، بشخصياتها، بحسونها اﻷمريكي، هل من أحد منكم يعرف هذه الشخصية البغدادية الطريفة؟ والذي طالما تحدث عنه جدها، يوم كانت طفلة. وبمناسبة الحديث عن جدها فهو سيرافقها في منامها أيضا، حيثسي أخذ بيدها، لتستعيد ذاكرتها، ولتروي لنا ما شاهدته في حلمها (هنا تعرفت على مدرستي ثم رأيت الملجأ، بعد ذلك شاهدت ساعة بغداد وبرج المأمون والجسر المعلق ثم عثرت على بيتنا)ص169.
ستعودين يا شهد الى ساعة بغداد، والى حيّك ذات يوم ولعله قريباً.
حاتم جعفر
السويد ــ مالمو
869 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع