حاتم جعفر
إطلالة على كتاب: الروائي الساذج والحساس
هي رحلة ليست بالقصيرة، فما بين روايته اﻷولى جودت بك وأبناؤه، وبين وروايته اﻷخيرة متحف البراءة قرابة الخمسة والثلاثين عاما. في سِفرهِ هذا والذي أسماه بـ(الروائي الساذج والحساس) سيراجع الكاتب التركي أورهان باموك، الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 2006 سيرته اﻷدبية، مستذكرا أحياء مدينته العريقة إستنبول وما لها من دور في تشكيل ذائقتيه اﻷدبية والفنية بل وفي سيرة حياته أيضا. مستعرضا ما كانت لديه من مواهب أخرى لعل أبرزها ميله الواضح ﻷن يصبح رساما في كبره، بعد أن ذهب به الظن وتأكد من رشاقة أنامله وتحريكها في كل الإتجاهات وبأناقة العارف، كذلك لقدرته على دمج الألوان وبكفاءة عالية. هذا ما إعتقده الطفل باموك ذو اﻷعوام السبعة حينذاك.
الاّ أنَ إتجاه الريح قد ذهب بصاحب سيرتنا نحو منحى آخر ولها في ذلك من اﻷسباب ما يبررها، فالإبن قد ورِثَ من أبيه ما يمكن عدّه رصيدا ثقافيا معقولا، تمثَّلَ في طبيعة وظيفته و ما ترك له من مكتبة عامرة، ضمَّت بين جنباتها عيون اﻷدب والمعرفة، فضلاً عما كان سائدا من أجواء عائلية، تنتمي الى ما يمكن تسميته بالطبقة المتوسطة من حيث مستوى التعليم وما كان يصاحبها من نقاشات وحوارات، تعكس مستوى الوعي الذي كانوا يتمتعون به. لذا ولِما فات من مقدمات فإنَّ سفينة الرغبة أخذت بأورهان باموك نحو جرف آخر ونهر آخر، رآه أكثر جمالا وأبهى حضورا وأشد تعبيرا عمّا يجول بخاطره، فكان له ما أراد وهذا ما تحقق. ومن هناك، من تلك المحطة وكاتبنا لمّا يزل يواصل رحلته، أمّا نحن فسنتواصل معه، وسنتوقف عند أهم المنعطفات التي شكلت سيرته ورسمت معالم منتجه اﻷدبي.
وﻷن صاحب السيرة قد قضى معظم حياته وأهم مراحلها في مدينة شديدة الصخب والحضور والتأريخ، فكانت بالنسبة له خير معين لرسم خطوط مستقبله، ولتشكل كذلك مصدر دائم للإلهام والعطاء السخي، لذا تجده مغترفا منها بثقة ودلال، وبلمسات فنان يعرف كيف يحرك أنامله وكيف يلتقط أطيب الكلام وأحلاه. في ذات الوقت أدرك مبكرا لعبة الحياة فلا مجال هنا للتمادي أو غض الطرف عن الفرص النادرة والسعيدة والتي لن تتكرر. أما والحال كذلك فلابد له من إلتقاطها قبل أفول الشمس: لقد تعلمت التعامل مع الحياة بجدية، جاء ذلك نتيجة تعاملي مع الروايات بجدية بمرحلة شبابي.ص53.
وما دمنا قد دخلنا في عالم اورهان باموك الروائي فلا بأس من الغوص أعمق كي نشكل صورة ما قد تعيننا على رسم ملامحه وهويته بشكل أوضح. وإذا كان لنا من قول، فبدايات صاحب السيرة تشبه إن لم تطابق بدايات أي صبي كان قد دخل عالما جديدا، رآه مغريا وممتعا، لذا ألفته قارئا نهما ومجربا أيضا لحظوظه في الكتابة، واثقا من أنها ستكون شفيعا وكفيلة لعبور الضفة اﻷخرى من النهر.
وكغيره ممن إختط ذات الخطى ومع بداية مشواره ستجده متعثرا، مرة هنا ومرة هناك، حتى كاد أن يتوقف عن تكملة مسيرته، غير انه أدرك أخيرا بأن بلوغ الغايات النبيلة لا يمكن الوصول اليها بتلك السلاسة والخفة، وبات على قناعة: بانَّ عالم الرواية ولطالما يدخل في مجال اﻷهداف الكبرى والتي ما إنفك يحلم بها، فلا بأس من الإستعانة بالصبر وببذل المزيد من الجهد والوقت.
لذا وفي مدونته التي بين يدينا، وبعد مروره بالعديد من التجارب، وبكل ما حملته من صعوبات ومعوقات، خَلُصَ الى أنَّ ما يجب وضعه نصب عينيه هو التركيز على الشخصية الرئيسية لمنتجه الروائي، بإعتبارها المحرك اﻷساسي له، ودون إغفال أو تجاهل بطبيعة الحال للأدوار التي ينبغي أن تقوم بها الشخصيات اﻷخرى بإعتبارها مكملة له. وعن ذلك فقد كتب على الصفحة السابعة والخمسين(إنَّ الروائي الناجح هو مَنْ يخلق بطلاً لا يُنسى). وبذا سيكون كاتبنا قد وضع إصبعه على أول الدروس المهمة والواجبة الإلتزام في عالم الرواية.
ومع مواصلة مسيرته الإبداعية في المجال الذي بات شاغله، ومع تحقيقه لبعض النجاحات المبكرة وخاصة على المستوى المحلي، فأورهان باموك الشاب لم يتوقف عن سلك طرق جديدة، ستساعده بكل تأكيد على تطوير ملكاته الكتابية وبالتالي التمكن من المسك في أهم المفاصل التي ينبغي توفرها في كاتب الرواية. وعلى هذا اﻷساس ومن الخلاصات التي سيأتي على ذكرها، وفي جردة حساب وبعد مسيرة حافلة وتجارب غنية عديدة، سنقرأ في كتابه الموسوم، الروائي الساذج والحساس وعلى الصفحة 60 النص الآتي (إنَّ الرواية، هي نتاج المهارة والبراعة معا. كلما كانت الرواية طويلة، كلما واجه الكاتب صعوبة في صياغة اﻷحداث).
وما دمنا نواصل سبر كتابه فلا بأس من التوقف عند مؤشر وركن هام آخر من أركان العمل الروائي الناجح، والذي لا يقل أهمية عمّا سبق ذكره، انها اللعبة الروائية، فهي وعلى رأي باموك(تضيف متعة طفولية أخرى الى السعادة التي استمدٌها من الكتابة)ص62. وعن هذا اﻷمر فينبغي على الكاتب وكما أعتقدُ أن يكون شديد الحذر ويضع حداً فاصلاً بين ما أسماه تحقيقه للمتعة ووصوله اليها من جهة، وبين تراخيه أو تماديه عن مسك النص من جهة أخرى، والتي قد تؤدي الى إنفلاته (أي النص) من بين يديه وإرتباك نسيجه، وبما يتقاطع مع ما كان قد خطط له الكاتب ووضع من أهداف.
وإستكمالا لذات الفكرة التي جرى التحدث عنها في الفقرة السابقة، فسيتوقف الكاتب هنا عند موضوع هام جدا بل ومحوري في العمل الروائي، كأن الكاتب قرأ ما في داخلي وأراد أن يوقف إعتراضي أو لنقل ملاحظتي التي أوشكتُ على البوح بها ولنلتقي من بعدها عند هذه النقطة، ونسير سوية من جديد، إبتغاءاً لذات الغايات. فحبكة الرواية وعلى ما جاء في كتابه (هي الخط الذي يربط وحدات السرد الصغيرة والكبيرة غير القابلة للإنقسام)ص69. وبهذه الفقرة الشديدة التعبير والدلالة أراد الكاتب أن يوضح للقارئ مفهوم التتابع الزمني وأهميته في العمل الروائي ودونه الفوضى والإرتباك.
أمّا عن شخصية البطل والتي تحدث عنها في صفحات سابقة، يبدو أنَّ الكاتب لم يصل الى ما يشير الى إكتفائه منها. وبعبارة أوضح فلابد من تفصيل أدق كي تصل المتلقي على نحو مُقنع، بل إعتبر مهمة من هذا النوع لهي على أهمية كبرى. وعنها راح مدونا(إنَّ التحدي اﻷكبر الذي يواجه الإبداع الروائي هو بناء شخصية البطل، وإكتشاف هذه الشخصية بنجاح من قبل القارئ)ص66. وعن ذات الموضع وزيادرة في التفصيل وعلى الصفحة الثامنة والستين، كتب أورهان باموق: الروائي يطور أبطاله بقدر ما يطور المواضيع التي يريد بحثها، كشفها والحديث عنها).
وبالعودة ثانية الى موضوعة التسلسل الزمني للرواية، فهناك من اﻷعمال الروائية، قد وقعت في خطأٍ كبير حين لم تراع أو تنتبه لهذا الجانب، وعنه أيضا فعلى الكاتب أن لا يستغفل القارئ أو يراهن على عفويته وقلة حيلته. وما دمنا نتحدث عن أمر في غاية الحساسية، فالذي يشفع للكاتب تنقلاته من زمن الى آخر أو من مكان الى غيره، هو النزول عند رغبة النص ومقتضياته، شريطة الحفاظ على وحدة العمل ووصوله الى المتلقي على كفٍ من الراحة والرضا.
أمّا عن مراجعاته لتجربته الروائية فسيذهب باموك بعيدا في قرائته لها، فهو لم يكتفِ بمراجعة ما كان قد كتبه بل ينحو منحى الناقد في بعض من توقفاته. ولان أعمال فيودور ديستوفسكي أثَّرَت بشكل كبير على منتجه وعلى سواه من الكتاب، فستجده داخلا في تفاصيل هذا الروائي ، وبشكل خاص فيما يتعلق ببناء شخصياته التي لفتت إنتباه المعنيين بهذا النوع من الإبداع. وعن ذلك وعلى الصفحة 75، سنقرأ النص التالي من كتابه الروائي الحساس والساذج( عندما نقرأ روايات ديستوفسكي، نشعر في بعض اﻷحيان بأننا نواجه شيئا عميقاً ومفاجئاً، بأننا حصلنا على معرفة عميقة عن الحياة، الناس وفوق كل هذا معرفة أنفسنا). وبذا سيكون قد أنصفه بحق، لَمَ لا والحديث هنا يدور عن أحد سادة الرواية العالمية والمتربع على عرشها بكفاءة وإقتدار.
وفي مكان آخر من كتابه فَسَيُقدمُ أورهان باموك على حركة أخرى، لا تخلو من أهمية بل هي من مقومات العمل الروائي اﻷساسية، تتمثل بتقسيم الجهد الروائي بينه وبين القارئ، فبدون المتلقي لا يجد الكاتب أهمية لإصدار منتجه، فصاحب النص وعلى حد رأيه معني بــ(الرسم بالكلمات، وقراءة الرواية تعني تخييل الصور من خلال كلمات شخص آخر)ص78، أنها ليست كالكلمات التي إعتدنا على سماعها أو قرائتها كما قد يظن البعض، فالكاتب هنا معني برسم مشاهد العمل بدقة متناهية والتحرك معها، وفي بعض اﻷحيان قد يجد الكاتب نفسه مضطرا للميل يمينا أو يسارا والخروج بالتالي عن السياق العام للعمل، وفي هذا ما لا يُعَدٌ مروقاً عمّا خُطِطَ له، بل يمثل إستجابة سريعة لمقتضيات النص وما طرأ من مستجدات، وصولا الى الإمساك من جديد والسيطرة على العمل وتوجيه بوصلته كما يشاء.
وفي مكان آخر من الكتاب، سيعود بنا الكاتب مرة أخرى وإن بشكل غير مباشر الى الدور الملقى على القارئ، بإعتباره طرفا مكملا للعمل، مراهنا على مدى نباهته ودرجة تفاعله مع النص. طالبا منه أن يكون دقيقا في رصده لسيرورة النص وصيرورته، والكلام هنا بكل تأكيد عن اﻷعمال المهمة. وإذا ما نجح في ذلك فلسوف(نرى العالم من وجهة نظر اﻷبطال، ونندمج مع عواطف الشخصيات من جانب آخر، نرتب ذهنيا اﻷشياء المحيطة بالشخصيات، ونربط تفاصيل المشهد الموصوف مع مشاعرهم)ص93.
الجملة المقوسة اﻷخيرة، والتي جاءت في سياق كتاب أورهان باموك لم تأتِ بعفو خاطر، وإنما بُنيت على معرفة بطبيعة المتلقي، ويبدو فيها كمن تقمص دوره. وإذا ما أستثنينا القارئ النبه، فهناك قسم آخر من القراء مَنْ لا يروق له أو لا يجد ضرورة في قراءة كل ما أتت به الرواية، معتمدا في ذلك على وجهة نظر مفادها: أنَّ في تجاوزه هذا، سوف لن يؤثر على درجة تلقيه للعمل. وأظنه في هذا (أي القارئ) ليس على صواب، فهناك من التفاصيل واﻷحداث وعلى صغرها إفتراضا، سيكون لها دورا هاما في إستيعاب النص والوقوف على أهم محطاته. لكنّا وقبل مغادرة هذه الفقرة فهناك من اﻷعمال الروائية ما لا يستطيع القارئ هضمها ومهما بذل من جهد وصبر ووقت، لذا تجده في حلٍ عن تكملتها وله في ذلك كامل الحق.
وفي الحديث عن المناخ الذي ينبغي توفره، فسيتوقف الكاتب عند تجربة أقرانه من الكتاب في الدول الغربية. فعلى الصفحة 118، سيرد النص التالي(الروائيون في الولايات المتحدة اﻷمريكية يكتبون بدون قلق تقريبا عندما يتعلق اﻷمر بالقيود الإجتماعية والسياسية). والكاتب هنا أوردَ إسم الدولة كنموذج للدول التي ما عادت تعاني كما نحن في بلاد الشرق وَمَنْ يشبهنا من حجم الضغوط التي يتعرض لها أدبائنا، وبشكل خاص تلك التابوهات الثلاثة، الدين والسياسة والجنس، فالإقتراب منها سيدخل الكاتب في المحضور، واﻷشد خطورة هو ماسيترتب على تلك الممنوعات من تداعيات، ستأتي بالضرورة على حساب النص المُنتَج وعلى صاحبه أيضا، وهذا ماعانى منه العديد من الكتاب، لا سيما أولئك الذين حملوا على أكتافهم مهمة التغيير واﻷخذ بيد مجتماعتهم نحو غد أفضل.
وبصرف النظر عن اﻷجواء المحيطة بالكاتب فسينقلنا أورهان الى عالم آخر من فن القص، فــ(كتابة الرواية قد تشبه عبور غابة، تكريس إهتمام عاطفي لكل شجرة، تسجيل ووصف كل تفصيل)ص124. وأظنه في هذا التشبيه قد توفق كثيرا. فالغابة تحتوي على أنواع عديدة من اﻷشجار، تتفاوت في أعمارها، ولكل صنف منها مايميزها، وقد تحمل شخصيتها معها. أما عن طبيعة عطائها فهو مختلف أيضا، وقد تختلف كذلك فيما تتركه من فيء وظل. وما دام الحال كذلك وإذا ما أسقطنا التشبيه عمليا على العمل الروائي فعلى الكاتب أن يُمسك بكل تفاصيل عمله، إبتداءاً من الشخصيات وليس إنتهاءاً بالبعدين الزماني والمكاني، مرورا بوحدة العمل وسياقه والغاية البعيدة منه.
أخيرا ورغم كل ما فات ذكره من تفاصيل تتعلق بفن القص ومستلزماته وأدواته، كان الكاتب قد تنبه اليها وتوقف عندها طويلا من خلال سِفرهِ الطويل في عالم الرواية، فإنَّ هناك من المصادفات ما تخرج عن السيطرة وقد تدفع أحيانا الى إعادة النظر في كل ما كُتِبَ، بل واﻷكثر إيلاما أن يضطر الكاتب الى إلغاء كل ما دونه. وعن هذا الموضوع يقول أورهان(لم أتردد لحظة، شطبت كل ما كتبته وبدأت من جديد في الصفحة اﻷولى. عمل سنة كاملة رميته في سلة المهملات)ص127. وأعتقد بل أكاد أجزم بأن الكثيرين من كتابنا قد مروا بتجربة ومأزق كهذا، لذا نعلن عن تضامننا الشديد معهم، وليس لنا من حيلة أخرى نخفف من خلالها وطء ما يعانون.
حاتم جعفر
السويد ـــ مالمو
1128 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع