نزار السامرائي
في مهبط الوحي
3
مسجد نمرة أكبر مسجد في العالم من حيث سعته وقدرته على استيعاب أكثر من مليون مصلٍ، هذا بخلاف أعداد أكبر امتلأت بهم الشوارع المحيطة بالمسجد، لم يكن المسجد متميزا ببنائه بشيء، بل بسعته الكبيرة، هنا خطرت على بالي عدة تساؤلات عن أسباب عدم مباشرة السلطات السعودية بناء مجمعات سكنية في مشعر منى؟ وفي جبل عرفات وتكتفي بنصب الخيام وعددها بعشرات الألوف إن لم تكن بمئات الألوف كل موسم حج؟ وهي تتعرض بين آونة وأخرى إلى كثير من الحوادث مثل الحرائق بسبب لجوء بعض الحجاج إلى استخدام المواقد النفطية الصغيرة في إعداد طعامهم، أو جراء السيول التي تضرب المنطقة على حين غفلة، مما يؤدي إلى انهيار الكثير منها، وبالتالي لا يمكن أن تصلح للاستعمال لأكثر من موسم واحد في أحسن الأحوال؟ ثم إن المتعهدين يتقاضون أجورا من الحجاج أجورا محسوبة من كل حاج بحيث يضاف الإسكان في تلك الخيام، لا سيما وأن المنطقتين تشهدان هذا الحشد المليوني كل سنة، ولكن هنا يبرز سؤال عن الجدوى الاقتصادية من بناء مجمعات سكنية كبرى في منطقة لا تحتاج إليها إلا لأيام معدودة في السنة، هل يمكن أن تغطي تكاليف البناء والإدامة في منطقة حارة إلى حدود بعيدة؟ السؤال سيكون، كم تنفق المملكة العربية السعودية على شراء الخيام الكبيرة التي تسع أعدادا لا تقل عن عشرة أشخاص؟ لا سيما وأن صناعة الخيام تختص بها دولة أو دولتان هما باكستان والهند، وهذا ما يجعل أسعارها خاضعة لمبدأ الاحتكار، ولكن هل هناك فرصة للانتفاع من العمارات السكنية في حال بنائها باقي أيام السنة؟ الجواب بسيط جدا، العمرة لا تتوقف ومنى وعرفات ليستا بعيدتين عن مكة المكرمة، ويمكن تنظيم جولات سياحية للمعتمرين، مما يتيح فرصة تشغيل اقتصادي لتلك المنشآت على مدار السنة، وبذلك تضمن السعودية عملا متواصلا للمنطقة، لقد أديت العمرة مرتين الأولى عام 2007 والثانية عام 2009، وأديت فريضة الحج ثانية عام 2011، أي سنة 1432 هـ ولاحظت المتغيرات العمرانية الهائلة التي نفذتها السلطات السعودية في الحرمين، خاصة ما بدأه الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله، في التوسعة الكبرة في الحرم المكي والمسجد النبوي الشريف، وقد شاركت في العمرتين بزيارات إلى عرفات ومنى، ووجدت في منى عمرانا واضح المعالم والفنادق والمطاعم تستقبل كثيرا من المعتمرين.
ربما شهدت منطقة منى خاصة إقامة مشاريع لإسكان الحجاج التي يقضي فيها حجاج بيت الله الحرام يومين على الأقل بالنسبة للمتعجلين، وثلاثة لمن يريد قضاء أيام التشريق في منى، وهنا اتقدم بمقترح فقط وأهل مكة أعرف بشعابها.
المهم عندما أزف وقت صلاة الظهر والعصر قصرا وجمعا في مسجد نمرة ايذانا بالنفرة إلى مزدلفة، جاءنا المرافق واصحبنا إلى المسجد ووجدنا أن ضيوف المملكة وأعضاء البعثات الإعلامية كانوا في الصفوف الأولى، أخذنا موقعنا بينهم، بعد أن انتهى الخطيب من الخطبة والصلاتين خرجنا، ولكن ليس إلى مزدلفة وإنما إلى الموقع الذي يتناوب المذيعون على نقل المناسب من إحدى المنصات التي أقيمت على مقربة من مسجد نمرة، وتناول المذيعون النقل بصورة مباشرة، وللإنصاف مرة اخرى تميّز إبراهيم الزبيدي بأسلوبه الأدبي الشاعري في النقل.
بعد أن انتهت عملية النقل توجهنا إلى سيارتينا، وهنا بدأت أطول رحلة برية لأقصر طريق، كما قلت في موضع سابق من هذا الموضوع، كانت الطرق ضيقة والحجاج يتصرفون على مزاجهم، تعثر السير بشكل لافت، حتى أن السائق وهو يمني والمرافق وهو مصري أبديا دهشة لهذا، قال السائق بثقة لا بد أن يكون قد وقع حادث مروري عرقل السير، وبعد مسافة تقرب من كيلو متر، شاهدنا دوريات الشرطة وقد وضعت الحواجز لتغيير سير المركبات، كانت هناك حافلة كبيرة وقد ارتقى سقفها عدد غير قليل من الحجاج، وهم عادة ما يكونون من فقراء الحال أو الذين لا يعرفون قوانين الطبيعة، بأن سرعة الانطلاق إلى أمام تؤدي إلى ارتداد إلى الخلف، وهذا ما حصل لأحد الحجاج والذي سقط من فوق سطح الحافلة على الشارع، ولأن السيارات التي تعقب الواحدة بعد الأخرى من دون فاصلة، فقد تحركت السيارة التي كانت تتحرك بعد الحافلة، (ومن سوء حظه رحمه الله) أن سقط على راسه فدهسته السيارة التي تسير وراء الحافلة وأجهزت على ما يقي له من أنفاس، وهنا كان يحب تثبيت وقائع الحادث وخاصة من مواطني الحاج الفقيد، كي لا يُجه الاتهام لسائق السيارة التي دهسته ولا لسائق الحافلة التي سقط من فوقها.
يا لها من أيام خالدة تلك التي يعيشها الحاج وهو يسير في ذات الطرق التي تشرّفت يوما بأن رسول الله صلى الله وسلم سار فوقها، ولكن كيف كان المسلمون الأوائل يقطعون كل هذه المسافات، مع ما فيها من مشقة على أرجلهم أو رواحلهم؟ يا لهم من رجال أفذاذ فتحوا بإيمانهم وعزيمتهم الأمصار البعيدة وأقاموا فيها دولا امتدت من أوربا وشمالي أفريقيا غرباً، وحتى الصين شرقاً.
4
بعد نفير الحجاج من صعيد عرفات إلى مزدلفة ثم صلاة المغرب والعشاء صلاة تأخير قصراً وجمعاً، تحركنا إلى مشعر منى، حيث يبدأ أول أيام العيد، وكما قلت فقد توافق عيد الأضحى لسنة 1392 هـ في 14 /1 / 1973م، وتبدأ فعاليات الحجاج في ذلك اليوم برمي الجمرات ثم النحر ثم الحلاقة ولا شرط بأي تسلسل منها فبالإمكان أن يأتي بأي واحدة منها، ثم التحلل من إحرامه والاغتسال.
توجهنا إلى القصر الملكي في منى، حيث كان الملك فيصل هو أمير الحج تلك السنة كما كان يفعل طيلة تسنمه موقع القيادة السعودية، وحتى وفاته رحمه الله، أخذنا مواقعنا في القاعة الكبيرة التي ازدحمت بالضيوف من مختلف الجنسيات الإسلامية حيث يشغلون مناصب وزراء أو أكثر من ذلك، وبعد أن سلمنا على الملك فيصل وفقا لجدول دخولنا القاعة وبعد أن نقدم له أنفسنا، كان يعبر عن سعادته لوجود هذا العدد الكبير من ضيوف الرحمن.
كان المشرفون على الاحتفالية يسألون رؤساء البعثات عن رغبتهم أو استعدادهم لإلقاء كلمات بالمناسبة أمام الملك، وهذا أمر يُحسب للسعودية إذ لم يحرجوا أحداً في الطلب منه أن يُلقي كلمة، عندما سألني أحد المشرفين عما إذا كنت أرغب في إلقاء كلمة بالمناسبة، اعتذرت وقلت نحن جئنا لتأدية مناسك الحج، ومن ثم تهنئة الملك بعيد الأضحى، لم يعقب أبدا ولم أشعر أنه انزعج من الأمر لاسيما وأن العراقيين معروفون بطبعهم الصعب.
وبدأت الاحتفالية بكلمة وزير الحج السعودي أو ربما كان هذا منصبه، الذي قدم التهنئة للملك والمسؤولين السعوديين وجميع الحاضرين في القاعة وأعرب عن الارتياح التام لنجاح الموسم كما كان مخططا له وأشاد بكل الجهاز الذي أشرف على الخطة ونفذتها مختلف أجهزة الدولة، وأكد خلو الموسم من الأمراض السارية والمعدية، وشكر البعثات الطبية والإعلامية العربية والإسلامية التي أسهمت كل في قطاعها بتقديم أفضل الخدمات لحجاج بيت الله الحرام، ثم تعاقب الخطباء بإلقاء كلماتهم التي مزجت بين الحديث عن فضل هذه الفريضة الإسلامية، وكونها تجمع مسلمي العالم في أيام معلومات ليتجردوا من كل الفوارق فهم جميعا في ملابس الإحرام وبلا مناصب ولا مراتب ولا ثروة تميز بين واحد وآخر، بعض الخطباء أشاد بجهود المملكة في تهيئة مستلزمات راحة الحجاج وانسيابية تنقلهم بين المشاعر، ثم جاء دور الشعراء لينشدوا قصائدهم والتي تناولت أغراضا متنوعة بين الحديث عن قدسية المناسبة، حتى جاء دور الشاعر السوري الذي عرفناه عندما كنا في الدراسة الثانوية في قصائده الوطنية مثل قصيدته..
أمتّي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي ..مطرق خجلا من أمسك المنصرم
ويكاد الدمع يهمي عابثا ببقايا ….. كبرياء ….. الألم
فأسرف أبو ريشة في كيل المديح للملك فيصل والثناء عليه، في الواقع لم أجد في القصيدة ما يعيدني إلى عالم شعراء العربية التي طرزوا تاريخهم بعيون من الشعر العربي، حتى في مديح من لا يستحق المديح، ربما لم يطلب منه السعوديون أن يفعل ذلك، ولكن!!! (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحاتِ).
ربما كان يشعر بالامتنان لاستضافة السعودية لكثير من السوريين وتخصيص مرتبات ومساكن تناسب أوضاعهم السياسية والاجتماعية السابقة، وانتشلتهم من التشرد في أرض الله الواسعة، ولكن هل يستدعي ذلك العمل المدروس من قبل السلطات السعودية بعناية، لأسباب سياسية تتعلق بسياسة المحاور التي عاشها الوطن العربي ردحا من الزمن، كل هذا الثمن الذي لا تطالب به أصلا؟ ولا أعرف بعد أن ووجه أبو ريشة بانتقادات له ولقصيدته، هل بقي مطرقاً خجلا من تلك اللحظة أم لا؟
رابطة العالم الإسلامي التي أسستها المملكة العربية السعودية، لها مقر في مكة المكرمة ولها مصلحة مؤكدة من تأسيسها عربيا وإسلاميا ودوليا، وتستطيع من خلالها أن تفرض لها حضوراً في أكثر من ساحة من خلال قيادات الرابطة غير السعوديين، وهذا استثمار سياسي له مردود قد لا يرتقي إلى مستوى الطموح السعودي أو حجم الانفاق المالي عليها، ولكنه مع ذلك فإنه يغري بمزيد من الدعم، الرابطة لها جهاز إداري وأجهزة سياسية وإعلامية، ولها ميزانية تتعلق بوجوه الانفاق المختلفة لتحركها في مختلف بلدان العالم، ولكن كل شيء تغيّر بعد الإعصار الذي ضرب الشرق الأوسط وانتشر إلى شتى أرجاء العالم، أي ما يسمى بالثورة الإسلامية في إيران والتي جاءت بأسوأ نظام تكفيري إرهابي ظلامي عرفته البشرية نظام خميني.
فقد تبين أن هذه المنظمات تعبر عن الجهات التي تنفق عليها ولا تستطيع الخروج عن شرنقتها، ولم تتمكن من مدّ جسور حقيقية للعبور نحو الجماهير المسلمة في بلدان العالم، بل على العكس كانت تتخلى عن مواقع ومراكز في بعض البلدان لصالح قوى تُحسن توجيه خطابها الديني والسياسي والاجتماعي للبسطاء والفقراء في آسيا وأفريقيا وإلى حدٍ ما أمريكيا الجنوبية، بل إن إيران استطاعت في مراحل مختلفة من الاستيلاء على كثير من المراكز الإسلامية في أوربا والمساجد التي بنتها السعودية هناك، وحولت توجهاتها وارتباطاتها إلى مكتب الولي الفقيه، الذي يُنفق سنتاً واحدا على بنائها، فقط جاء وسطا عليها دفعة واحدة بعد أن اكتملت واكتسبت الإطار القانوني الرسمي في البلدان التي بُنيت فيها، ووقفت رابطة العالم الإسلامي بل وحتى ومنظمة التعاون الإسلامي عاجزتين عن التصدي لمخطط القضم الإيراني التدريجي لجهود مؤكدة بذلتها المملكة العربية السعودية قبيل وصول خميني إلى السلطة في إيران.
5
انتهينا من كل الواجبات التي على الحاج أن يؤديها في المشاعر وفي مكة المكرمة، ورجعنا إلى فندق الكندرة في مدينة جدة، أبلغنا المرافق بأن علينا أن نستريح ليلتنا في الفندق كي نغادر صباح الغد إلى المدينة المنورة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه المدينة التي أرسى الرسول الأكرم في هجرته المباركة إليها، الحجر الأساس لدولته دولة الإسلام، ولتنتشر منها أنوار الرسالة السمحاء وتتفجر فيها ينابيع الخير، وتعم أركان الأرض الأربعة، كان الطريق البري الرابط بين مكة والمدينة بممر واحد عام 1973، وهو طريق موحش حتى بالسيارة والمسافة بين المدينتين يقرب من 400 كيلو متر، كان الوقت الذي أمضيناه في قطع الطريق طويلا على ما شعرنا به، ربما هذه مشاعر كل مسافر بين أي مدينتين، يريد لرحلته أن تنتهي بأسرع وقت لا سيما إن كانت الطريق رملية موحشة.
في تلك اللحظات عاد بي خيالي إلى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، كيف مر على كل هذه القفار وكيف استطاع أن يؤمن زاد الطريق وماءه، له ولصاحبه في الهجرة الميمونة؟ كم تمنيت لو أنني اهتديت إلى موضوع قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته كي أتيمم من ترابها الطاهر وكي أصلي فوقها، وبعد رحلة استغرقت أربع ساعات تقريبا بدأت تلوح أنوار مداخل المدينة المنورة ومآذن المسجد النبوي الشريف، يثرب التي تحولت بهجرة رسول إليها، من مدينة صراع وحرب وتنافس بين الأوس والخزرج إلى مدينة التسامح والتآخي والقداسة التي تستقبل ملايين المسلمين كل سنة، في الحج والعمرة وتغيرت أحوالها الاقتصادية والمعاشية، ولكنها حافظت على خُلقٍ توارثته الأجيال منذ قيام دولة الرسول فيها.
من يدخل المدينة المنورة لأول مرة ستأخذه رجفة خشوع وإيمان، لا يستشعر مثلها حتى في مكة المكرمة أو هذا ما أحسست به، لأن الداخل إليها، سيكون وجها لوجه مع أرض كان يمشي في أزقتها رجل، من دون الرجال اختصه الله سبحانه بصفات تفرد بها بين سائر البشر، وبعثه رحمة للعالمين، فجمع المسلمين ووحدهم على كلمة سواء وآخى بين المهاجرين والأنصار، وأقام أول حكومة إسلامية في التاريخ.
ومع ذلك فإن هذه الأرض لم تجد غضاضة في أن تضم جسده الطاهر، فكيف لها أن تمتلك هذا الاستعداد؟ ولكن الله جعل للأرض وظائف شتى منها كما قال في محكم كتابه "مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى"، دخلنا المدينة بعد صلاة العشاء، وبعد رحلة امتزج فيها الشوقُ للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحنينٌ لمكة المكرمة، الأرض التي تركناها قبل قليل، وأحبها رسول الله كما لم يحب أرضا سواها، توجهنا إلى الفندق الذي خصصته وزارة الإعلام السعودية لنا، ويقع بمقابل أحد أبواب المسجد النبوي الشريف ولا يفصل بينهما ألا شارع لا يزيد عرضه على عشرة أمتار، بمجرد وصولنا ومن دون استراحة توجهنا لتأدية الصلاة وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، كان المسجد النبوي مزدحما عن آخره، ومع ذلك حشرنا أنفسنا وسط الحشود الكبيرة، وبشق الأنفس وصلنا إلى بيت أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، حيث سُجيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حاولنا الوصول إلى المكان الذي يتطلع الملايين لزيارته ولكننا لم نتمكن بسبب شدة الازدحام، ولكن مرافقنا رتب لنا موعدا في ساعة متأخرة من الليل مع أحد خدم المسجد النبوي الشريف، بحيث ستتاح لنا فرصة الوصول إلى القبر الشريف من دون قيود، وهذا ما حصل إذ أننا تمكنا من لمس القبر بأيدينا وسألنا الله في تلك البقعة المباركة أن يلهمنا طريق الرشاد، وأن يمن علينا بحلاوة الإيمان، لم يمنعنا أحد من الجلوس في هذه الغرفة التي كانت معزولة عن المسجد النبوي ويفصلها عنه باب لا يجلب النظر إلا ببساطته، ووجدناها غرفة بسيطة جدا تم تطويق القبور الثلاثة، بأعمدة مطلية باللون الأبيض، وخرجت من جوانبها أعمدة من خشب أبيض بصفين، ربما يصل ارتفاعها إلى ما يزيد على متر واحد، وبين كل عمود آخر نحو نصف متر، وبعد أن بقينا فيها ساعة غادرناها ونحن نحمل من المشاعر ما لا تمحوه السنون ويبقى يتقد في الذاكرة ويشحذها أبداً، إيمانا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعرفانا له بأنه أدى الأمانة وأوصل الرسالة ونصح الأمة، وبعد انتهاء زيارتنا للمدينة المنورة والتي استغرقت عدة أيام عدنا إلى جدة استعدادا للعودة إلى الوطن ووجدنا غرفنا ما زالت تحتفظ بحقائبنا، كنا ضيوفا من نوع خاص وأقمنا في أرقى فندق في المملكة ذلك الوقت، فندق الكندرة بمدينة جدة.
ولا بد بعد كل تلك السنين التي مرت عليّ أو مررت بها، أن أقر بأن ما توفر لي في حج عام 1972/1973، ربما لم يتوفر لملايين الملايين من المسلمين منذ بداية البعثة النبوية وحتى اليوم، إذ تم اختياري مع عدد محدود من حجاج بيت الله الحرام في موسم الحج ذاك، لأدخل في جوف الكعبة مع الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله، وتشرفت أيضا بأن أدخل الغرفة التي تضم جسد الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر الصديق والفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وأرضاهما، وكأن في ذلك رسالة أبدية لكل الحاقدين على الإسلام، بأن هذه الصحبة تخلدت في الأرض كما ستتخلد في الجنة بإذن الله ورحمته، ولا يسعني إلا أن أشكر المملكة العربية السعودية لفضلها علي في تلك الحجة، التي ما كنت لأصادف كل تلك المفاجآت السعيدة التي تحققت لي لولا صفتي الرسمية، لي كشخص ولبلدي العراق، فلو لم أكن رئيسا لبعثة الحج الإعلامية العراقية، ما كان لي أن أحصد كل تلك الامتيازات التي تُمنح للدول أكثر مما تُمنح للأفراد، وهي دعوة وجهت لكل الدول الإسلامية وليس للعراق وحده، لا سيما وأنني قد أديت فريضة الحج عام 2011، ولم تتح الفرصة حتى للصلاة في الروضة النبوية الشريفة في المسجد النبوي، أو الوصول إلى الحجر الأسود في المسجد الحرام.
في اليوم المحدد للعودة إلى العراق، استيقظنا باكرا، وكنا قد حزمنا حقائبنا ليلا، تناولنا الفطور الأخير في مطعم الفندق، وحملنا الحقائب وانتقلنا إلى مطار جدة الدولي قبل موعد إقلاع الطائرة بساعتين، وتم انجاز معاملة الجوازات وأخذنا الطائرة الترايدنت التي حلقت بنا نحو الشمال، حيث أرض السواد، أرض الرافدين، العراق الحبيب.
وبعد مضي ما يقرب من نصف قرن من الزمان بين تلك الحجة المباركة، وما صادفني في حياتي من منعطفات تمثلت بالغربة القسرية في معسكرات أعداء الإسلام الفرس لمدة عشرين سنة، وغربة ثانية بعد الاحتلالين الأمريكي البغيض والفارسي الأكثر حقدا وكراهية لكل ما هو عربي، أجد نفسي وأنا شاكر لأنعم الله وفضله الدائم ورعايته لي ولأسرتي من كل تقلبات الدهر، فالحمد لله في الأولى والحمد لله في الآخرة.
1046 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع