عبد الرزاق نعمة الاسدي
نص قصصي - شَتات السنين
تمشي بهدوء وثقة تراقب بحذر وانتباه الطلاب في الامتحانات الوزارية ، كنت بالقرب منها، وجه جميل مشع ومتوهج كأنه الشمع ، تظهر دماثة خلقها ورقتها وسمو تصرفها وهي تتحدث مع الطلاب . كلماتها تلامس شغاف القلب فتقع كأنها السحر على من يسمعها . مال قلبي اليها وشغلت بها من أول نظرة . كانت تختار كلماتها بعناية فائقة قبل أن تنطق بها . لم أستطع صبرا حتى وجدت نفسي أسألها بجرأة وشجاعة . قلت لها " إن غرضي شريف وانني أحببتكِ لما أنتِ عليه من جمال وحسن خلق وأرجو ان تقبلي بأن أتقدم لخطبتك إن لم تمانعي . كانت ابتسامتها بمثابة قبول : في اليوم التالي ذهبت أنا وأمي وخالتي وجارة لنا كانت تتحدث بلباقة ، ومع الفارق المادي الذي بيننا، وافق أبوها بعد موافقتها ، ولم نخفِ وقتها شيئا عن أحوالنا فأنا معلم مثلها ، نسكن في منطقة ريفية في بيت طيني قديم يحيط به بستان ورثناه عن جدي رحمه الله .قرأنا الفاتحة فقط وغادرنا على أمل العودة لإتمام بقية الإجراءات .في ذلك الوقت كان فتيل الحرب العراقية الإيرانية قد بدأ بالاشتعال . ودُعِيتْ مواليدي للالتحاق الى صفوف الجيش ، وكان موقعي دائما في الصفوف المتقدمة .حتى وقعت أسيرا في إحدى المواجهات العنيفة .
مرت سنة وتبعتها ثالثة وحتى نهاية الحرب وما زلنا أسرى وقد مضت تسع سنوات وأنا غائب لا يعرف عن مصيري شيء ثم فتح الله لنا بابا للحرية وعدنا إلى أهلنا في العراق .
تذكرت خطيبتي التي لم أنسها طيلة أيام غيبتي وأنا في الأسر . كنت أدعو الله أن يجمعني بها ، ذلك ما كنت أتمناه .قررت أن أذهب إليها علني أجدها في انتظار عودتي . وأنا في طريقي اليها يكاد قلبي أن يفر من بين أضلعي شوقا اليها ، وحينما التقيت أهلها أصابتهم الدهشة وعلتهم الحيرة ، نظر أبوها إليَّ قائلا: " يا بني لقد انتظرتكَ ابنتي خمسة أعوام دون أمل حتى تسلل اليأس إلى قلبها فتزوجت بعد أن يئست من عودتك . وسمعنا قصصا كثيرة عن مفقودين وضائعين في أرض الحرام وحسبناك منهم . أطرق الأب مبديا أسفه لما حصل وقال: " هذه أختها إن شئتَ زوجناك إياها . " ..فقلت كلا شكرا لك ، ثم غادرت الدار وقلبي يعتصر ألما وحزنا .. يالسوء حظي !
مرت بضع سنوات وإذا بالحصار يفرض على العراق ويعيش الشعب أسوأ أيام حياته: فقر مدقع وغلاء فاحش ، ومعلم مثلي لا يكفيه راتبه لسد احتياجاته ومتطلباته المعيشية ، حتى إن صاحبا لي ــ عندما نمربأحد الأسواق ــ يقول لي متهكما : " يمنع المدرسون والمعلمون من الدخول الى سوق اللحم أو سوق الفاكهة فنحن لا نملك ثمنها .وهكذا عشنا الكفاف ، وقد أضطررنا للعمل من أجل الحصول على موارد مالية أخرى علنا نعيش دون ان نحتاج للآخرين ."
واقترحت أمي أن تصنع مراوح يدوية ومكانس من سعف النخيل وإن أذهب لبيعها في سوق بعيدة عن منطقتنا التي اسكن خشية أن يروني اهلها فأنا معلم أولادهم ومقامي كبير لديهم !
ومرت الأيام وأنا على هذا المنوال . وذات يوم كنت أرتب بضاعتي لغرض عرضها .وإذا بصوت امرأة يسألني عن السعر .رفعت رأسي وليتني لم أرفعه فقد فوجئت بخطيبتي المنتظرة واقفة أمامي ! نظرت إليَّ بدهشة وإمعان وهي تمسك بطفل صغير والى جانبها زوجها. ارتبكت وأصابتها الحيرة وأصفر وجهها واغرورقت عيناها ، أما أنا فقد شعرت كأن خنجراً غار في قلبي وذهلت وأضاعت المفاجأة مشاعري وارتعشت يداي وخانني لساني.. يالهول الصدمة! أطرقتْ من جديد ثم سحبت طفلها وغادرت، احسست ساعتها أن قلبي يغادر معها ..يتبع خطواتها وهي تتلاشي من أمام ناظري .شعرت ان لساني تيبس في حلقي وأسرعت لأجمع شتات نفسي .. لملمت بضاعتي ووضعتها في كيس لدي وغادرت مسرعا إلى البيت .
مسحت وجهي دموعي ودموعي ما انفكت تنهمر حزنا على فقدان من أحببت ..وما ان تناهى الى أسماعي صوت المؤذن يدعو لصلاة المغرب ، حتى توضأت ورميت بنفسي المحزونة فوق السجادة لأكون بين أحضان السماء !
1095 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع