بسام شكري
حرب الجواسيس - الجزء الأول
كثيرا ما كنا نقرا قصص الجواسيس عندما كنا في مرحلة الشباب في السبعينيات والثمانينيات ونعجب بها أو نخاف منها، وكانت تلك القصص تخلق لدينا جوا من التوجس والحذر من كل ما يمت بصلة إلى العالم الخارجي، وكنا نعتقد بأن جميع الأجانب الذين نراهم في بلادنا هم جواسيس ويمتد نسيج خيالنا في بعض الأحيان إلى تصورات كثيرة وشكوك في الكثير من الأمور يعجز الجاسوس نفسه في بعض الأحيان عن التفكير بتلك الأساليب أو قد لا تخطر على باله، وكان عالم الجاسوسية عالما غريبا وسريا وظلاميا للغاية، وكانت الجاسوسية مرتبطة بأجهزة الاتصال اللاسلكية المعروفة في ذلك الزمن بأجهزة المورس أو تلقي الأوامر عن طريق الراديو العادي او عن طريق الاستماع الى اغنية معنية يبثها الراديو الأجنبي المعادي لجواسيسه في بلداننا وقد استعمل جواسيس ذلك الزمن الكتابة بالحبر السري وكنا معجبين بمسلسل رافت الهجان فكنا نقيس الكثير من الأمور الخاصة بموضوع التجسس بمقياس ما ورد في ذلك المسلسل من احداث لأنه اول واشهر مسلسل يكون مصدرا للمعلومات في المجتمع العربي عن التجسس .
عالم الجاسوسية قديم وقد تم تدريسه في بعض الجامعات في العالم بشكل علوم مباشرة أو علوم تمهيدية للدخول في عالم الجاسوسية، وعلى سبيل المثال إلى يومنا هذا هناك كلية في جامعة اوكسفورد البريطانية العريقة يطلق عليها كلية الجواسيس وهي كلية سانت انتونيس لعدة أسباب لا مجال لذكرها في هذا البحث منها أن أشهر الجواسيس في أمريكا وبريطانيا درسوا وتخرجوا من تلك الكلية خلال المئة عام الأخيرة ومن اشهر اقسام كلية سانت انتونيس هو قسم الانثروبولوجيا الذي يدرس علم الانسان ولو تصفحنا خريجي تلك الكلية خلال المئة عاما الماضية سنجد ان اشهر الجواسيس قد تخرجوا منها إضافة الى السياسيين البارزين الذي صعدوا بشكل سريع الى هرم السلطة.
بعد التطور العلمي الكبير الذي حصل خلال الثلاثين عاما الماضية قد قلب عالم الجاسوسية رأسا على عقب، فالمعلومات التي كان الجاسوس في السابق يجهد نفسه ويتعرض للخطر ويصرف الكثير من الوقت والمال والجهد للحصول عليها أصبحت اليوم بفعل انتشار الانترنيت والكوكل سهلة التناول من قبل أي إنسان عادي وقد يجد على شبكة الانترنيت في محركات البحث والكثير من المواقع تنشرها بكل دقة مع وسائل إيضاح وصور واحصائيات ، وفي أسوأ الحالات في حال تعثر الحصول على معلومة غامضة أو معلومات او متغيرات جديدة ، يتم تصوير المنطقة المراد الحصول على معلومة عنها بواسطة الأقمار الصناعية وبعض الدول مثل الولايات المتحدة الأميركية فإنها تضع معلومات وزارتي الدفاع والداخلية على الانترنيت، وفي نفس السياق فإن توفر أجهزة الهاتف والكاميرات المتعددة الأغراض وأجهزة نقل الصوت والصورة قد أسهم في تقريب أو إيصال كافة المعلومات المطلوبة والطائرات المسيرة أعطت فرصة التجسس لاي انسان وهي رخيصة ويمكنها الوصول الى أي مكان وتصويره والدخول الى المباني وتصوير البيوت من الداخل ، فهل انتهى عالم الجاسوسية اليوم بعد أن أصبحت المعلومات السرية متوفرة ومعروفة للجميع؟ طبعا لا فان هناك معلومات غير تلك المتداولة والمتوفرة ولا يمكن الوصول اليها الا بواسطة وجود جاسوس على الأرض وهذا ما سأتطرق اليه في هذه المقالة فماذا بقي من عالم الجاسوسية اليوم؟
أول من بدأ النشاط الجاسوسي في الشرق الأوسط بشكل واسع ورسمي في العصر الحديث هي المملكة المتحدة، وكما هو معلوم فإن بريطانيا قد استفادت من تجربة جاسوسها الشهير لورنس والمعروف بلورنس العرب " وهو خريج جامعة اوكسفورد كلية سانت انتونيس " وما نقله إلى دوائر مخابراتها من معلومات مثيرة حول المنطقة، وتمت تصفيته فور عودته الى بريطانيا وهي عادة بريطانية قديمة للتخلص من الجاسوس عندما تنتهي الحاجة اليه او عندما يبدأ بالثرثرة.
إن النشاط الجاسوسي البريطاني الرسمي والموسع بدأ منذ بداية احتلالها العراق سنة 1914 في فترة انهيار الإمبراطورية العثمانية حيث كانت أولى خطواتها الجاسوسية في الشرق بشكل واسع ورسمي قيام المخابرات البريطانية بالتعاون مع جامعة اوكسفورد – كلية سانت انتونيس بإنشاء اول مركز ابحاث أنثروبولوجي سري في الشرق الأوسط يشبه بتشكيله لجنة دراسات وابحاث داخل الحامية البريطانية في مدينة البصرة لدراسة القبائل والأديان والمذاهب كمرحلة أولى للتعرف على الطرق المناسبة للسيطرة على المنطقة من خلال تأجيج الصراعات القبلية والدينية والمذهبية، وكان محور عملها في البداية مقتصرا على التحالف الثلاثي الأقوى والأقدم في المنطقة (الصباح في الكويت والنقيب في البصرة وخزعل الكعبي في المحمرة) حيث قامت بتدمير ذلك التحالف لمصلحتها وقامت بقطع الصلات بين العوائل الثلاثة التي كانت نموذجا للتحالف والتعايش وكأنهم عائلة واحدة تعيش في ثلاث اماكن متفرقة، وبعد ذلك امتد نشاطها إلى كافة المنطقة، وكانت تجمع المعلومات عن الكيانات الموجودة في ذلك الوقت في ضفتي الخليج العربي وإمارة المحمرة والعراق وإيران، ويقوم خبراؤها بتحليل تلك المعلومات وتنسيقها بما يناسب رسم سياستها “فرق تسد” المعروفة، وكما هو معروف عبر التاريخ البريطاني فإن مراكز الأنثروبولوجي البريطانية هي احد اهم مصادر المعلومات الميدانية لدوائر المخابرات والتي على أساسها تبني سياساتها .
فيلم جديد بعنوان اسمه (المجند) عرض قبل فترة على شاشات السينما بطولة الممثل ال باتشينو الذي يروي قصة الشاب جيمس كلايتون المتفوق علميا في دفعته الدراسية والذي يقابل بالصدفة والتر بروك الذي يعمل في تجنيد الأفراد للعمل في المخابرات المركزية الأميركية، وحيث أن المخابرات الأميركية تختار العلماء والمتميزين للعمل كعملاء لديها فان جيمس كلايتون هو الشخص المناسب الذي وقع عليه الاختيار، الفيلم مثير للغاية فهو يروي تفاصيل عمل أجهزة المخابرات الأميركية. السي أي أيه والتي أخذت تهتم بالحصول على معلومات تفصيلية عن العرب والمسلمين بعد أحداث 11 سبتمبر وبدأ الآلاف من عملائها وموظفيها بتعلم اللغة العربية وقراءة القرآن الكريم وزيارة بعض الدول العربية تحت ذريعة السياحة وتطور عملها ليمتد إلى أنها ترسل ضباط مخابراتها لحضور المؤتمرات العلمية والمنتديات الثقافية والأدبية المختلفة في المنطقة العربية ومن خلال نشاطاتها تتمكن من التعرف على العلماء أو المتميزين منهم للقيام بتجنيدهم كعملاء او تتعرف على القوى المعادية لها والتي لا يمكن الوصول اليها عن طريق الطرق التقليدية المعروفة ، وإلى جانب ذلك أخذت الكثير من الدول بإنشاء مراكز تجسس رسمية في مناطق مختلفة تحت غطاء جمعيات خيرية أو مراكز ثقافية أو مراكز تنمية أو مراكز تقديم مساعدات التنمية الاجتماعية أو مراكز مساعدة اللاجئين وتقوم من خلال تلك المراكز بعمل مزدوج هو التعرف على ما يجري في الأرض وربط تلك البلدان مع الدولة التي أرسلتها بشكل مستمر للتعرف على أحدث المستجدات وبشكل سريع ومن أرض الواقع، وهناك نشاك تجنيد اخر تقوم به السفارات والهيئات الدبلوماسية بالعمل على تجنيد شخصيات سياسية عليا من الذين تلتقي معهم، وقد يقومون بمصارحة الآخرين للتعاون معهم مستغلين جرأتهم تلك من ما توفره لهم الحصانة الدبلوماسية.
العراق – استعرض هنا التجسس خلال الحرب العراقية الإيرانية في خطوط الجبهة وحرب الجواسيس التي سبقت الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 , لقد كان عملاء إيران خلال الحرب العراقية الإيرانية في الجانب العراقي من الجبهة او المتسللين الإيرانيين الى قطعات الجيش العراقي يستعملون التورج لايت اليدوي (وهو المصباح اليدوي الذي يعمل بالبطارية الذي كنا نستعمله في التنقل أثناء الليل في الجبهة لعدم توفر الكهرباء والإضاءة الاعتيادية ) لإرسال المعلومات إلى العدو عن مواقعنا ومواقع مرابض المدفعية والدبابات العراقية ومواقع القيادة ومعلومات عن أي تحركات نقوم بها , وعند ارسال الإشارات بواسطة المصباح اليدوي التورج لايت كانوا يستعملون نفس أسلوب المورس الذي يعتمد على إرسال ذبذبات الضوء ضمن شيفرة معينة يعرفها الجاسوس والعدو، فاستعمال أسلوب التورج لايت لإرسال الإشارات الضوئية وذلك لعدم القدرة على استعمال أجهزة اللاسلكي حتى لا تنكشف لكثرة أجهزة الرصد في خطوط الجيش العراقي وبالمقابل كان الجيش العراقي يعمل نفس الشيء مستعملا أساليب مشابهة لكن بتقنية اطلق عليها الاستطلاع العميق خضع افرادها الى تدريبات نفسية وعصبية عديدة معتمدا على تجارب الاتحاد السوفييت وكوبا في اختراق صفوف العدو وكان المقاتلين العراقيين من نخب الاستطلاع العميق يدخلون الأراضي الإيرانية ويستطلعونها ويصورون ما يمكن تصويره وفي بعض الأحيان يخطفون جندي إيراني ويعودون به الى داخل العراق ليكون مصدرا ناطقا للمعلومات.
حرب الجواسيس هي إحدى أهم مراحل غزو وتدمير العراق سنة 2003 حيث بدأت حرب الجواسيس تلك قبل ستة أشهر من الغزو الأميركي الفعلي للعراق، حين قامت المخابرات الأميركية بتجنيد ما يقارب مئة وثلاثين ألف عميل من أصول عربية من المقيمين في أميركا وكندا للمساهمة في عملية الغزو وقد انقسموا الى عدة مجموعات فمنهم بقي في مراكز القيادة في أمريكا ومنهم من التحق مع الجيش الذي دخل للعراق ومنهم من عمل في القواعد العسكرية الامريكية والبريطانية في الكويت ومنهم من دخل للعراق بحجة شركات متعددة الأغراض كشركات الامن والحماية او دخلوا ضمن منظمات الأمم المتحدة وتم تشكيل فرق من مختلف الاختصاصات كالمترجمين والأطباء والعاملين في عمليات الإغاثة والمقاتلين وفرق الاغتيالات وفرق اصطياد رؤوس نظام السابق الموجودة على قائمة أوراق اللعب التي عملها جورج بوش قبل الغزو او تنفيذ قوائم الاغتيالات التي كانت موجودة مع فيلق بدر وفيلق القدس وفرق الاتصال مع رؤوس المجتمع العراقي وفرق الوصول إلى الآثار والمتاحف والكنوز وفرق إحراق وتدمير المكتبات والمتاحف ومخازن الأغذية ، وفي نفس الوقت في بداية حرب الجواسيس وقبل الستة اشهر التي سبقت الغزو الأمريكي قامت الهيئات الدبلوماسية الامريكية في جميع الدول والمخابرات الامريكية بالاتصال مع كافة الهيئات الدبلوماسية العراقية في كل دول العالم وبدون استثناء في حملة تعتبر الأكبر في التاريخ الدبلوماسي العالمي من اجل تجنيد الجواسيس والعملاء من الهيئات الدبلوماسية و تعرض عليهم التعاون والعمل مع المخابرات الأميركية أو الانشقاق عن نظام صدام مقابل منحهم اللجوء السياسي والحماية لهم ولعوائلهم حتى وصل الامر الى مفاتحة ممثل العراق في الأمم المتحدة بالانشقاق عن النظام ، وعند اشتداد الأزمة واقتراب موعد الغزو وفي الشهر الأخير قبل الغزو بدأت عمليات الاغتيالات المتبادلة بين عملاء المخابرات العراقية وعملاء المخابرات الأميركية حيث كان العراق ومختلف دلول العالم مسرحا لتلك العمليات المتبادلة.
بعد كل التدمير الذي حصل في العراق وبعد مرور ثمانية عشر عاما فقد اصبح العراق مرتعا للجواسيس من مختلف الدول فكل دولة تريد ان يكون لها موطئ قدم في العراق وتريد ان تعرف ماذا يجري هناك وتأخذ حصتها من الأموال السائبة التي يتم نهبها بشكل علني من قبل الحكومات المتعاقبة للمنطقة الخضراء ويكون لها وجود كذلك في الأحزاب التي تحكم العراق وطبعا ايران تحظى بحصة الأسد من بين الدول التي تتحكم في إدارة المنطقة الخضراء لما تملكه من ميليشيات مسلحة ومراكز مخابرات منتشرة في كل المحافظات العراقية وقد كشف بعض عملاء ايران قوائم بأسماء كبار عملاء ايران الذين يتقاضون رواتب شهرية من ايران ونشرت تلك المعلومات في وسائل الاعلام العراقية من باب الجو الديمقراطي الذي وفره نظام المحاصصة التي جاءت به أمريكا للعراق ومعظم الدول جندت عملائها في العراق عن طريق منظمات المجتمع المدني كمنظمات الإغاثة والرعاية الاجتماعية وإعادة الاعمار وغيرها الاف المسميات ولم يجرؤ احد من هؤلاء الذين يدعون الإنسانية على تأسيس منظمة حماية السجناء او التحقق من وضع السجناء وزيارة السجون في الوقت الذي تعج السجون بالإيراء حيث اكثر من نصف مليون سجين عراقي في سجون ومعتقلات علنية وسرية وقد اتهم بعضهم بتهم كيدية بناء على قانون المخبر السري الذي يتيح لاي شخص اتهام أي شخص اخر بتهمة الارهاب وادخاله السجن بمجرد الشك في نواياه او كانت لديه عداوة شخصية مع ذلك الشخص او حتى لو كان قد استدان منه مبلغ ولا يتمكن من إعادة المبلغ اليه فيتهمه بالإرهاب ويتخلص منه بتلك الطريقة الفنية حتى وصلت فوضى استغلال قانون الإرهاب الى ان بعض النساء عندما يعانون من قسوة معاملة ازواجهم او لديهم علاقات مع رجال اخرين يتهمون ازواجهم بالإرهاب وهذا ما اعطى الفرصة للكثيرين من الانتقام من اعدائهم بتلك الطريقة الجهنمية وهناك اعداد هائلة من السجناء بدون تهم وبدون محاكمة وقد تقوم الميليشيات بالاستيلاء على مناطق زراعية واسعة او ذات أهمية استراتيجية باتهام سكانها بالإرهاب وإدخال الاف الشباب منهم للسجن وترحيل البقية بالقوة والاستيلاء على أراضيهم ومواشيهم بحجة انهم إرهابيين كما حصل في مناطق حزام بغداد .
الى اللقاء في الجزء الثاني من المقال
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
956 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع