قاسم محمد داود
ديمقـراطــية الواجهة
ليست الديمقراطية مجرد شعارات ومؤسسات وذهاب إلى صناديق الاقتراع، بل هي وعي داخلي يحرك السلوك النظري والعملي الفردي والعام، وهذا الوعي يشكل روح الديمقراطية، يتمثل بالتنوع واحترام الآخر المختلف ثقافياً واجتماعياً ومذهبياً. بدون هذا الوعي كل حديث عن الديمقراطية مجرد كلام وبمسح سريع للواقع العراقي نستطيع القول بغياب وعي ديمقراطي وانتشار الوعي الطائفي والقبلي والانغلاق على الذات وعداوة للآخر المختلف ومحاولة لإلغاء وجوده. ثم لابد من التأكيد على أن الانتخابات لا تعني الديمقراطية، ولا تمنح أي نظام حاكم صفة الديمقراطية، وإنما هي إحدى آليات النظام الديمقراطي، والتي أهمها الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية وسيادة القانون، والمساواة بين الناس، بصرف النظر عن الجنس والدين والمذهب والعرق. ففي العراق أخذت الديمقراطية ابعاداً سياسية أخرى ربما لم تكن ضمن الأشكال التقليدية المعروفة في العالم. وبالرغم من وجود مجلس نيابي وانتخابات وسلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية ومؤسسات نقابية وغير ذلك من مظاهر الديمقراطية لكنها مجرد مظاهر شكلية حيث يتفرد بالسلطة ويحكم البلاد فعلاً قلة من أصحاب النفوذ السياسي والمالي وبقية المجتمع بمؤسساته المتعددة ليس أكثر من ظلال لهذه السلطة المتنفذة التي تسيطر على كافة المفاصل الرئيسة في البلاد، في غياب معارضة فعلية واضحة وثابتة وتمثل قطاعاً من الشعب ولها أدواتها للتعبير عن نفسها والضغط، عدا بعض الاعتراضات التي تصدر من بعض الأطراف، وقد تحقق انتصاراً هنا وهناك لكنها بالمنظور العام تبقى باهتة ولا تشكل منافساً حقيقياً للفئة الحاكمة. أي أن ما يجري هو محاولة للتنكر أمام العالم الخارجي بثياب الديمقراطية فيصار إلى تنظيم انتخابات صورية في ظل دستور مُلغم. ويبدوا أن دول الغرب ومنظمة الأمم المتحدة تتواطأ مع ما يجري وتدعي تصديق هذا الشكل الغريب من الديمقراطية الصورية. لذلك يمكن القول التجربة الديمقراطية في العراق انتهت الآن إلى نوع من الديمقراطية الشكلية أو ما يمكن أن نطبق عليه نموذج "ديمقراطية الواجهة". أذ على الرغم من وجود الأدوات الشكلية للعمل الديمقراطي مثل مفوضية للانتخابات وصندوق انتخابي وقانون أحزاب، إلا أنه في واقع التطبيق الفعلي لم يقد إلى بناء تراكمي يساهم في الإسراع في تحقيق أهداف الانتقال الديمقراطي التي كان من المؤمل قيامها على أنقاض النظام الديكتاتوري السابق. ويعود ذلك إلى أن هذه الأدوات تم تأسيسها وبناء قوانينها وأنظمتها وتقسيماتها الإدارية وتوزيع المناصب فيها على نحو يضمن إدامة سلطة الأحزاب المهيمنة، لا من أجل بناء منظومة ديمقراطية تجسد نظاماً سياسياً ديمقراطياً بما يسهم في صيرورة عملية تنموية قادرة على ترسيخ المفاهيم الديمقراطية في المجتمع شكلاً ومضموناً. وقد كان ذلك نتاج إرادة جماعية أو تواطئ جماعي للقوى السياسية الفاعلة بمختلف أطيافها وتنوعاتها، اتفقت على الوصول إلى هذا المنتج السياسي الذي يضمن الاستحواذ على مخرجات الانتخابات بدلاً من أن يعزز أو يضمن التنافسية الانتخابية النزيهة، أن الصورة الوردية للانتخابات التي تُهدر بسببها الأموال الطائلة كل أربع سنوات، وصار الفوز بعضوية المجالس النيابية الناتجة عنها سبيلاً للثراء والحصول على المكاسب الشخصية، يجب أن لا تعمينا عن حقيقة أنها لا تجرى ضمن إطار وطني جامع ولكن ضمن إطار محاصصة طائفي حيث يتوجب على رئيس الحكومة أن يكون شيعياً بينما رئيس الدولة كردي في حين يكون رئيس مجلس النواب سنياً، وهكذا دواليك في سلم المناصب الأدنى فالأدنى. فكل مسؤول هناك له نائبان من غير طائفة، الأمر الذي شل عمل الحكومة وبالتالي غرق البلد في أزمات لا حصر لها. أن ما نراه مجرد شكليات لم تسمو إلى الديمقراطية الحقيقية، في بلد ساهم البرلمان نفسه في نهبه وتخريبه، وتأخير إصدار القوانين فيه، وزيادة الفساد المالي والإداري وبرزت المحسوبية بشكل كبير. ناهيك عن غياب شروط الانتخابات الصحيحة من حيث النزاهة والشفافية، فقد رافق جميع الانتخابات السابقة التزوير وشراء الأصوات واستغلال الفتاوي الدينية وتوزيع المقاعد والمناصب مسبقاً بموجب قاعدة المحاصصة الطائفية والعرقية، بالإضافة إلى ذلك فأن النتائج التي أفرزتها أربع تجارب انتخابية سابقة أثبتت أن الانتخابات لم تجر من أجل بناء ديمقراطي يخدم العراق وأهله ، وإنما جرت لتثبيت الأحزاب والتجمعات الحاكمة في السلطة و إضفاء الشرعية على ما تقوم به من سرقات أفقرت البلاد وجعلتها مجرد تابع يدور في فلك القوى الإقليمية، ولا معنى للانتخابات إن بقيت ساحة التنافس مقتصرة على أحزاب السلطة،" فهذه الأحزاب موجودة أصلاً في السلطة، وكان لسوء إدارتها وإهدارها المال العام وعدم تقديمها منجزاً يستحق الذكر إلى جانب فسادها وتداعيات سياساتها الاقتصادية والاجتماعية وما خلفت من فقر وعوز وبطالة"، لذلك فأن أعادة إنتاجهم في الانتخابات لن تعني سوى إدامة الأوضاع المتردية للبلاد. من المعروف أن الفكرة أو الفلسفة التي تقوم عليها الانتخابات هي إعادة الدور إلى الشعب عن طريق الناخبين لممارسة القرار السياسي وتمكينه من اختيار ممثليه بإرادته وإمكانية معاقبتهم بعدم انتخابهم عند عدم الإيفاء بالوعود الانتخابية التي سبق وأن تعهدوا بها، فهي ليست كذلك في العراق، أذ أن الانتخابات لا تغير الممارسين للسلطة سواء أكانوا موفقين في الدورة السابقة أم لا، ولا تأتي بآخرين كي يكون هناك تغيير في التجربة، لا بل قد يستلم مقاليد السلطة من لم يحقق فوزاً في الانتخابات أو لم يشارك بها أساساً. وهي ليست مداولة بين المعارضة والحكومة لكي تكون وسيلة رقابية عليهما من حيث تطبيق البرنامج الانتخابي. فصار الأمر عبارة عن تدوير نفس العقلية السياسية السابقة إلى السلطة تحت مسميات وعناوين جديدة. لذلك على الرغم من أجراء أربع عمليات انتخابية طيلة الأعوام السابقة إلا أنها لم تستطيع أنتاج عقلية سياسية مختلفة لإدارة دفة الحكم في البلاد. بل أعادت توزيع الأدوار بين الحاكمين السابقين من جديد. وعليه يمكن القول إن الانتخابات لم تعد من أدوات الديمقراطية بل وسيلة من وسائل الاستحواذ على السلطة التي تتضمن الكثير من الامتيازات المادية وتحقيق المنافع والمصالح والمكاسب، ما جعلها ساحة صراع كبير بين لاعبين كبار وحتى صغار أيضاً وبجميع الوسائل المتاحة.
920 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع