د. نسرين مراد
تحت شعار كشف أو معرفة حقيقة ما يجري، يخوض رموز الإعلام "حروباً إعلاميةً"، تؤدي إلى حسم نتيجة حرب أو معركة عسكرية لصالح جهة ضد أخرى. يدخل المراسل الإعلامي أو الصحافي إلى قلب الحدث أو المعركة، وتصبح الصورة أمامه ملك يديه ومستوى وعيه وضميره.
المراسل الإعلامي يخدم الحقيقة، لكنه يرتبط معيشياً وأيديولوجياً بإدارة الوسيلة الإعلامية التي ينتمي إليها.
غالباً ما تكون تلك الوسيلة الإعلامية مرتبطةً بجهات سياسية نافذة، محلياً أو إقليمياً أو دولياً؛ تدعمها أو توجهها لتشكيل قالب فكري ورأي عام يتبع لهذه الأيديولوجية أو المنهجية، أو تلك. من الندرة بمكان أن توجد وسيلة إعلامية عصرية مستقلة، حتى لو أعلنت أو روّجت لنفسها كذلك.
حقيقةً وواقعاً، فإنه لا مفر لتلك الوسائل الإعلامية من الانخراط في توجه سياسي أو أيديولوجي معين، يصبح منظار الحقيقة يتخذ زاويتها منطلقاً له، مع رتوش إضافية وإكسسوارات. ما كان قطار ربيع التغيير ليمر وينجح في دول عربية مختلفة متعاقبة، لولا التغطية الإعلامية المباشرة، التي لا تخلو من التحريض والانحياز المتعمديْن.
هنالك مثابرة على مدار الساعة في اتجاه الإطاحة بأنظمة مترهلة هيكلياً إدارياً، ثمة قوية أمنياً وعسكرياً. أنظمة سياسية ضمنت ولاءات الجيش والشرطة والاستخبارات؛ وعادةً ما كانت تئد أي تحرك شعبي جماهيري في مهده.
الكلمة في التوقيت والمكان المناسبين، تعمل عمل القنبلة والرصاصة والصاروخ، والقاذف والمقذوف. عصرياً حديثاً باتت وجوه وقلوب وأكباد أجهزة الأنظمة الأمنية، عند تقاطع شعيرات قناصة بنادق أو كاميرات الإعلام.
شلَّ الإعلام الحر قدرات الأجهزة الأمنية على العمل، حتى في عز قوتها ولدى عتاة المؤيدين للأنظمة الانتقائية القمعية. حقيقةً واقعةً، أصبحت هنالك حرب غير متكافئة بين وسائل الإعلام الحر وقوى الأنظمة السياسية، يميل ميزان القوى فيها لصالح وسائل الإعلام وبشكل جارف.
إذا ما أراد نظام أمني أن يسارع في نهايته، ما عليه إلا أن يحظر أنشطة وسائل إعلامية نافذة من العمل في المناطق التي يسيطر عليها.
حوصرت أجهزة إعلام الأنظمة العريقة في مهودها ومرابعها. هنالك كم هائل من الإعلام المبثوث يواجهها في مختلف الميادين، وفي عُقر دورها. لا يصغي إلى وسائل إعلام الأنظمة إلا قلة من الأنصار والأتباع، والمغفلين الذين يرون في بقاء الأنظمة خيراً أكثر من زوالها بالإطاحة الفظة العنيفة بها.
انتشرت وسائل الإعلام العالمية بين ثنايا العامة، ودخلت كل بيت وساحة عامة ومقهى وصالة عامة. أصبح البشر يُقادون من عقولهم وعيونهم وآذانهم بالتحليل الموجه، والصورة والصوت المباشرين، وعلى مدار الساعة.
تشبه المعركة الإعلامية الحرب بين شيطانين أو ملاكين، أحدهما قوي أو مقوىً وآخر ضعيف أو مستضعف. هذان يتبارزان على قيادة مجموعة بشرية مستهدَفة في اتجاه الخير أو الشر؛ الأيام والنتائج فقط قادرة على كشف المستور فيها.
الضحايا المباشرة للحروب الإعلامية، هي الشعوب وأبناؤها العسكريون والمدنيون والممتلكات، والحقيقة. أحياناً كثيرةً تضيع الحقيقة التي تزعم وسائل الإعلام أنها تكرس جهودها لكشفها للجماهير المتعطشة لمعرفتها، وتسهر الليل وتقوم النهار في المتابعة والتحقق والتدقيق.
الاقتصاد يصبح شبه منهار، والاستقرار النفسي والمعنوي يوضع في مهب الريح. شغل الناس الشاغل يدور حول متابعة آخر أخبار الإعلام، والدخول في ما بين بعضهم البعض في نقاشات من النوع "البيزنطي" العقيم. نقاش عادةً ما لا يؤدي إلا إلى ما لا تُحمد عقباه، من شقاق وفرقة وتلاهٍ عن القيام بالواجبات العملية الوظيفية والإبداعية الإنتاجية اليومية.
أبطال الإعلام أنفسهم ليسوا أكثر من ضحايا لأبواق دعائية تابعة، تمت زخرفتها وتكبير قيمتها لتقوم بدور ما. قسم من هؤلاء الأبطال لاقوا حتفهم في مغامرات ظنوا أنهم بالقيام بها يضحّون في سبيل الحقيقة.
لهذا الهدف وفي نظرهم يحلو الاستشهاد بالرصاص المباشر، بتفجير إرهابي، بقذيفة طائشة أو حتى بحادث قتل عمد أو اغتيال مدبر. في النهاية، الوضع يشبه الوقوع في دوامة عنف مفتوح يغذيه الإعلام المنظَّم والمتهور، والذي بات محترفاً في إنتاج الأزمات وتطويرها في اتجاه تم الإعداد له مسبقاً.
905 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع