من حقنا أن نختار ما نأكل

                                           

                         د. منار الشوربجي

احتجاجات في اثنتين وخمسين دولة، شملت حوالي 436 مدينة حول العالم، وشارك فيها حوالي مليوني شخص، جرت الأسبوع الماضي، وسط تعتيم إعلامي أميركي وتجاهل في بلدان أخرى كثيرة، رغم خطورة القضية التي تؤرق المحتجين.

فقد اتخذ المتظاهرون من شركة «مونسانتو» هدفا لتلك الاحتجاجات، وهي إحدى الشركات الأميركية العملاقة، وتعمل في مجال الهندسة الوراثية في مجال الغذاء، وتحتكر تقريباً سوق الحبوب والبذور المعدلة جينياً.

وتقول شركة مونسانتو إن البذور المعدلة جينيا تقاوم المبيدات الحشرية، وتؤدي لتحسين الطاقة الإنتاجية في مجال الزراعة، ومن ثم تزيد الإنتاج الزراعي عبر مساعدة الفلاحين على حصد محصول أكبر من مساحة الأرض نفسها، فضلا عن الحفاظ على المياه والطاقة في الوقت ذاته.

والشركة تعلن أن هدفها هو زيادة كميات الغذاء في العالم، في وقت ترتفع فيه أعداد الذين يتعرضون للمجاعة، وتؤكد أن الأغذية المعدلة جينيا آمنة تماما، ولا ضرر منها مطلقا على الصحة.

والحقيقة أن الاحتجاجات، رغم أنها ترفع رايات احتجاج ضد الشركة، إلا أنها موجهة بالدرجة نفسها للحكومات، باعتبار أنها المسؤولة أصلا، لا الشركة، عن حماية المواطنين من توحش رأس المال وعن الحفاظ على صحتهم، فضلا عن حماية البيئة والعمالة الزراعية.

فالشركات العملاقة في مجال الزراعة، تقوم بشراء مساحات هائلة من الأراضي حتى تستطيع أن تحقق ربحية عالية، فكلما اتسعت مساحة الأرض انخفضت تكاليف الزراعة، وهو ما يعني إفلاس المزارعين الصغار، الذين تستحيل عليهم منافسة تلك الشركات.

ومن هنا، لا يجد أولئك المزارعون أمامهم إلا بيع أرضهم لتلك الشركات، والعمل لديها بالأجر بعد أن كانوا ملاكا، أو الهجرة من الريف واللجوء للمعيشة على أطراف المدن، مما يفتح الطريق لتهميشهم.

ورغم خطورة كل ذلك، إلا أن المسألة تنطوي على أبعاد أخرى لا تقل خطورة.

فهناك اختلاف بين العلماء حول فوائد ومضار الغذاء المعدل جينيا، فبعض العلماء يجدونه مفيدا ولا يضر بالصحة وفق الأبحاث التي قاموا بها، بينما يرفع علماء آخرون الرايات الحمر ويقولون إن أبحاثهم أثبتت أن تلك الأغذية تؤدي للإصابة بأمراض خطيرة مثل السرطان، وفشل أجهزة الجسم مثل الكلى أو الكبد.

ويدلل أولئك المحذرون على وجهة نظرهم بموت النحل في مزارع الأغذية المعدلة جينيا، وهم يقولون أيضا إن المواد المستخدمة في زراعة ذلك الغذاء ثبت ضررها البالغ، مثل المادة السامة المسماة بالمعامل برتقال، التي استخدمها الجيش الأميركي أثناء حرب فيتنام، والتي أدت لمشكلات صحية بالغة الخطورة لأكثر من مليون فيتنامي.

وفي الأرجنتين، التي تهيمن الأغذية المعدلة جينيا على السوق فيها بنسبة مئة في المئة، ثبت أن إحدى المناطق التي تتاخم مزرعة للصويا المعدلة، ارتفع فيها معدل الإصابة بالسرطان 40 مرة عن المتوسط في باقي مناطق الأرجنتين.

والحقيقة أن موضوع الأغذية المعدلة جينيا موضوعٌ بالغ الأهمية والتعقيد، وهو أيضا مصدر صراع دولي شرس.

فالولايات المتحدة هي التي تتصدر العالم في الاحتفاء بالغذاء المعدل جينيا، على عكس أوروبا التي تتخذ موقفا متشددا، وهو الأمر الذي تحول لصراع شرس بين الجانبين، وصل إلى حد تخطيط الولايات المتحدة للانتقام من دول أوروبا التي تحظر دخول بعض تلك الأغذية إلى أراضيها، مثلما فعلت فرنسا حين حظرت دخول الذرة المعدلة جينيا في 2007، وقد كشفت وثائق ويكيليكس عن أن الولايات المتحدة رتبت لـ «حرب» تجارية ضد المعارضين للانتقام منهم.

ورغم أن الولايات المتحدة هي المتهم الأول في هذا المجال، إلا أن أكبر التظاهرات ضد موقف الحكومة الأميركية خرجت من داخل أميركا نفسها.

فالأميركيون المهتمون بالبيئة والصحة، يؤمنون بأن حكومة بلادهم صارت أسيرة لجماعات المصالح العملاقة، ومنها شركة مونسانتو، التي تنفق أموالا باهظة للإنفاق على الحملات الانتخابية للمرشحين للمناصب الفيدرالية المختلفة. وهي تحصل مقابل ذلك على معاملة تفضيلية من المسؤولين السياسيين بعد انتخابهم، على حساب المواطن العادي.

غير أن ما تطالب به الحركة العالمية ضد الأغذية المعدلة جينيا بسيط للغاية، فهي تطالب بإجبار «مونسانتو» على أن تضع ملصقا على غلاف الأغذية التي تنتجها، يقول صراحة للمستهلك إن تلك الأغذية معدلة جينيا.

ففي ظل الخلاف بين العلماء، فإننا لا نعرف على وجه اليقين ما إذا كانت تلك الأغذية ضارة بالصحة أم لا، ومن ثم فالأفضل أن يترك الأمر للمستهلك نفسه. وهو في الحقيقة مطلب ديمقراطي وعقلاني، فلا هم طالبوا بإغلاق الشركة ولا حتى معاقبتها، ففي ظل غياب اليقين العلمي، كل المطلوب هو أن تعلن الشركة عن نوعية منتجاتها.

لذلك فإن رد فعل الشركة يثير الريبة ويطرح عشرات الأسئلة.

فإذا كانت الشركة العملاقة تؤمن يقينا بأن الأغذية المعدلة جينيا لا ضرر منها إطلاقا على صحة البشر، فلماذا الصراع الشرس الدائر الآن والذي تقوده الشركة ضد وضع أية إشارة على منتجاتها؟! فإما أن الأغذية المعدلة جينيا آمنة، ومن ثم فلا مانع من وضع الإشارة المطلوبة، والتي في تلك الحالة قد تكون دعاية لجذب المستهلك، وإما أن هناك أمرا ما تخفيه الشركة أو لا تريد تحمل مسؤوليته بموجب مثل تلك الإشارة.

والكونغرس الأميركي بالمناسبة رفض بأغلبية ساحقة مرور مادة تنص على إلزام «مونسانتو» بوضع تلك الإشارة على منتجاتها، وهو موقف غير ديمقراطي، لأنه يحرم الناس حول العالم، لا في أميركا وحدها، من الحق في الاختيار الحر.

فالحق في الحصول على المعلومات هو أحد الحقوق الأساسية في أية ديمقراطية. أما إذا كانت تلك المعلومات تتعلق مباشرة بالحق في الصحة، المعترف به دولياً، تصبح القضية واحدة من أخطر قضايا حقوق الإنسان.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

886 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع