الاستاذ الدكتور عبدالرزاق محمد الدليمي
ما الذي جناه العالم من احتلال العراق؟
ساعدت أحداث 11 أيلول من العام 2001 في تغيير المزاج الشعبي الأميركي الذي أحس بتهديده في أمنه في نيويورك وواشنطن، وأصبح أكثر تقبلاً ودعماً للسياسات التدخلية العسكرية تحت حجة القضاء على الإرهاب, واستغل اليمين الجمهوري المتشدد هذا التغير لصالحه فانتقل الى سياسة الضربات الوقائية والتغيير المنهجي وترتيب أوضاع المناطق الملتهبة، بدءاً من أفغانستان كما استفادت الولايات المتحدة من ذلك المناخ داخل الولايات المتحدة وخارجها لكي تقوم بتبنّي سياسات تدخلية عسكريتارية في الخارج في مسرحية حربها ضد الارهاب، كما في الداخل في إنشاء منظومة أمنية متكاملة واستحداث وزارة للأمن القومي، وصعود التيار المحافظ والمتشدد وإمساكه بزمام الأمور الداخلية.إلا أن هذه النظرة تظل قاصرة عن فهم هذا التحول لأن السياسات في الولايات المتحدة لا تُرتجل، بل هي تكون امتداداً وتطويراً لسياسات قائمة وتعبيراً عن مصالح استراتيجية ثابتة.
على الرغم من عدم انتهاء تلك المرحلة التي حققت نجاحات أكيدة في افغانستان, فقد انتقل الحديث الى العراق بادعاء كاذب لامتلاكة أسلحة الدمار الشامل، وقد ساعد اللوبي الصهيوني هذا الجناح المتشدد في الادارة الاميركية بحملات دعائية صاخبة ضد العراق. والتقت مصلحة الكيان الصهيوني مع المصلحة الاميركية في العدوان على العراق وفي ربط هذه الحرب بالحرب على الإرهاب، وللصهاينة مصلحة أكيدة في تدمير العراق وإنهائه كونه يعتبر في نظر محلليها العسكريين العمق الاستراتيجي للعرب لاسيما لسوريا ولبنان وفلسطين وبالتالي فإن احتلاله سيسهل مهمة إخضاع الأطراف الأخرى. كما ان مسألة توطين اللاجئين الفلسطينيين في العراق مسألة لا تغيب عن بال الصهاينة ولا عن بال صنّاع القرار الأميركيين أنفسهم وهذه المهمة تصبح أكثر واقعية عقب احتلال العراق وإخضاعه ،أما الدافع الاميركي الأهم فهو تحقيق هيمنة سياسية وعسكرية على منابع النفط وسيطرة فعلية على انتاجه وتسويقه وأسعاره ،ولا يتم ذلك دون إقامة قواعد عسكرية ووجود مباشر في المنطقة والذي بدأته الولايات المتحدة عام 1991 في الخليج والجزيرة العربية عموماً، بعد تركيا وبالطبع الكيان الصهيوني ولا تستكمل حلقاته من دون إخضاع العراق أولاً وربما في المرحلة القادمة ايران.
يتذكر العالم جيد كيف قام نائب وزير الدفاع بول وولفوفيتز باستهداف العراق عبر قوله (ان مواجهة الإرهاب لا تعني اعتقال الناس فقط بل كذلك إنهاء الدول التي ترعى الإرهاب) بعد ثلاثة أيام فقط من وقوع أحداث 11 أيلول، وقبل الوصول الى أية حقائق في التحقيق، كما ان المدير السابق للمخابرات المركزية الأميركية جايمس وولسي تحدث عن (الزواج المثمر بين صدام حسين وأسامة بن لادن).
وبعدها بأيام تسرّب تقرير (تبين أنه غير صحيح على الاطلاق)، ونفته الحكومة التشيكية عن اتصال محمد عطا، أحد خاطفي الطائرات، مع ضابط مخابرات عراقي في براغ، وعن احتمال ان يكون نظام صدام حسين قام بتمويل هذه العمليات.
كما نشرت صحيفة الواشنطن تايمز نقلاعن مسؤولين أميركيين قولهم أن صدام حسين اتصل بأسامة بن لادن قبل هجوم 11 أيلول بأيام. وفي أول تشرين الأول أعلن الملك الأردني عبدالله بن الحسين أن الرئيس جورج بوش وعده بعدم مهاجمة العراق كردّ على هجمات 11 أيلول. وفي التاسع من تشرين الأول هدّد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بمهاجمة العراق إذا ثبت أن له علاقة بظاهرة انتشار فيروس الانثراكس.
ولمّا لم تكن هناك دلائل بتورط العراق وصلته بأحداث 11 أيلول أو بالقاعدة ولعدم اقتناع الرأي العام في الولايات المتحدة وأوروبا والعالم ناهيك عن العالم العربي بهذه الحجج انتقل المحافظون الجدد في الادارة الأميركية حينها الى حجة جديدة في 19 تشرين الثاني من نفس العام وهي امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل. وبدأت تصريحات الرئيس بوش منذ ذلك الوقت تركّز على العراق وضرورة عودة المفتشين الى العراق. وشاركت بريطانيا في هذه الحملة عبر رئيس وزرائها المجرم توني بليرووزير خارجيته.
لقد بدأت الولايات المتحدة بالتحضير للحرب على العراق منذ ذلك الوقت بحملات دعائية واسعة وبجولات سياسية عسكرية, يساعدها في ذلك توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الذي تحول للعب دور المبعوث الخاص للرئيس بوش الى روسيا والدول الأوروبية والعربية. وبدأت تقارير المعاهد الاستراتيجية عن العراق بتضخيم الخطر العراقي واستخدمت الحكومة البريطانية تقارير منظمات حقوق الانسان بشكل سياسي لخدمة الغرض الأميركي بتبرير استهداف العراق الآن. وأخذت الصحف الأميركية والبريطانية بالكلام عن الديمقراطية وحقوق الانسان وتحرير الشعب العراقي من الاضطهاد والتسلط الذي يعاني منهما. ووجدت الادارة الامريكية خطورة في ما تقوم به الدولة العراقية من تطوير لقدرات العراق في كافة الجوانب الامر الذي اعتبرته منحى خطير يهدد مصالحها اضافة الى امن الكيان الصهيوني ولذلك استمرت الولايات المتحدة الأميركية تستخدم خيار اسقاط العراق وتطويع المنطقة والعالم وفرض الديمقراطية الامريكية المزعومة بالاحتلال والسيطرة.
لايختلف اثنان من ان نتائج احتلال العراق كانت كلها خسائر.. خسائر بالترليونات من الدولارات راحت على تمويل تلك الحرب القذرة ، وخسائر فملايين ألارواح من العراقيين من المدنيين ، ومما يبعث على الحزن أن الهدف المعلن أولا لشن الحرب، كان يستند إلى الكذب والزيف والإيهام بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، ثم عندما كشفت تقارير المفتشين عن عدم وجود تلك الأسلحة المزعومة، لجأ ادارة المجرم بوش إلى تغيير الهدف وربط المقاومة العراقية البطلة ، بما أسماه الحرب الدولية على الإرهاب، وسرعان ما عمّ التدهور الأمني في العراق وشاعت الفوضى وتقلص نفوذ أي سلطة عراقية، ليقتصر على مساحة المنطقة الآمنة الخضراء في قلب بغداد. وحتى عندما غيّـرت إدارة الرئيس بوش الهدف من تكتيك عدوانها على الشعب العراقي بأدعاء تحويله إلى نموذج للديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير، فشلت مخططاتها في تحويل العراق إلى واحة ديمقراطية وأسهم الاحتلال في تحول العراق مركز انتاج وتصدير للعنف المتصاعد وتأجيج للخلافات والتقسيمات العرقية والطائفية التي لم تكن سمه من سمات الشعب العراقي قبل احتلاله.
أن العالم لحد الان لم يحصل على التفسير لطبيعة المهمة التي تحاول الادارات الامريكية تحقيقها في العراق، ولا يوجد اتفاق على ما الذي يشكّـل عنصر النجاح في تحقيق تلك المهمة، غير إن الواضح ان من خططوا لاحتلال العراق استندوا في غزوهم للعراق على اهمية تأمين اوضاع الكيان الصهيوني واخراج العراق العراق من معادلات القوه والنفوذ الستراتيجي في المنطقة والعالم اضافه الى تأكيد نظرتهم لمكانة أمريكا في عالم اليوم، التي ترتكز على انفرادها بزعامة العالم وقوتها العسكرية، ولكن الخسائر والأخطاء التي اقترنت بالتوجه العسكري إلى الحرب الاستباقية، أجبرت الإدارات الأمريكية على التراجع التكتيكي الذي استفادت منه الدول الاخرى حيث ظهر ذلك واضحا من إصرار وزيرة الخارجية في فترة بوش الثانية على مدّ يد الدبلوماسية إلى أوروبا، والتوجه إلى التعامل دبلوماسيا مع الأزمات، مثل أزمة الطموح النووي الإيراني وأزمة البرنامج النووي والصاروخي لكوريا الشمالية، واعادة انتاج المواقف مع الصين وروسيا.
أن حصاد الغزو الأمريكي البريطاني للعراق كان مزيجا من التحديات الضخمة، التي أجبرت الإدارة الأمريكية على خفض سقف التوقعات لما يمكن تحقيقه في العراق، وبحيث يصعب الحديث عن صافي الربح، ويصبح من الواقعي الحديث عن تقليص الخسائر، حيث أصبح حديث الإدارات الأمريكية منصبا على ادعائهم بتوفير الاستقرار والمصالحة والوحدة الوطنية، وتقليص حجم العنف في العراق لتمهيد الطريق أمام استئناف جهود إعادة الإعمارالذي سمع به العراقيين ولم يشاهدوه وهكذا، اصبح هدف تحقيق الديمقراطية أثر بعد عين وفشلت الحكومات التي سيدها الاحتلال على رقاب الشعب العراقي من تحقيق الوحدة الوطنية المزعومة ، وبذلك ابتعد العراق من ان يصبح نموذجا يحتذى للديمقراطية في الشرق الاوسط، بل اصبح نموذجا منتجا ومصدرا للفوضى والعنف والاحتراب من قبل الطبقة السياسية التي تحكم العراق منذ نيسان 2003.
ان حلم تحقيق الديمقراطية الموعودة تستلزم وقت طويل جدا قبل أن تبدأ خطواتها في العراق المحتل، إذ تستوجب أوّلا توفير حكومة وطنية نزيهه قادرة على فرض سيطرتها على كامل التراب العراقي، وجيش وطني موحد، وليس كم من الميليشيات المرتبطة بايران، وتوفير الاستقرار والأمان، ثم ممارسة المواطنين العراقيين لحقوقهم السياسية في ضوء وعي سياسي ببرامج الأحزاب التي تثبت انها عراقية الولاء والانتماء ، والقبول بتداول السلطة عن طريق صناديق الانتخابات.
ان الاوضاع المأساوية المتفاقمه في العراق المحتل تضع االادارات الامريكية المتعاقبة في موقع الدفاع عن سياساتها ، ولذلك، يشعررؤوساء البيت الابيض جمهوريين كانوا او ديمقراطيون بضغط عصبي شديد مع زيادة تدهورالاوضاع في العراق وتحديدا عند ورود ألاخبار السيئة الذائمة منه ،ويبدو أن عدم وجود حلول أو أجندة واضحة من ادارة بايدن للازمات في العراق، هدفها تقليص تأثير الوضع السيئ في العراق على السياسة الداخلية في الولايات المتحدة.
ان استمرار نظام الوصاية على العراق والسيطرة على موارده، كالنفط والغاز واستمرار الصراعات الداخلية العراقية لاتزال تهدد الى حالة من الفوضى والحرب الأهلية، كما أن التدخل الخارجي في تحديد مستقبل العراق اصبح يؤثر على استقرار الأنظمة المحيطة ويدفعها الى تصليب سياساتها خصوصاً أن لهذا التغيير أثره على موازين القوى في الصراع العربي¬الصهيوني. ويحاول الصهاينة الإستفادة منه الى أقصى الحدود على حساب الأطراف العربية وخصوصاً في زيادة تأزيم الاوضاع في المحيط العربي كما أن نيران العراق التي يعتقد حكام طهران انها فرصتهم لاستغلالها في التوسع في المنطقة لابد وانها ستؤثر على إيران التي تؤكد الحقائق على الارض انها ستكتوي بنيران الصراعات الداخلي التي تعيشها القوميات في ما يسمى دولة ايران اليوم ومهما حاول النظام في طهران تأجيل الصدام مع الولايات المتحدة الامريكية الا انه عاجلا ام اجلا سيجد ان نظامه سيكون الهدف الاسهل بعد العراق لاسيما وان دول كثيرة من حليفات امريكا تعتبرنظام طهران ألاخطر في محور الشر.
الشئ الاخير الذي نود الاشارة اليه في هذا المقال انه في ظل غياب ستراتيجيات عربية للتغيير نحو أنظمة ديمقراطية ومجتمعات متماسكة وموحدة، فأن نموذج الديمقراطية بالإكراه وبالاحتلال وبالقوة قد الخيار المطروح في المنطقة مع شهية واضحة لاحكام الولايات المتحدة هيمنتها المطلقة على المنطقة بكاملها بعد تزايد محاولات التنين الصيني التقرب لايجاد موطئ قدم على حساب مصالح المؤسسات الامريكية الكبرى.
رغم ان عودة الاستعمار والاحتلال العسكري والهيمنة المباشرة على الموارد ربما ستلاقي مقاومة قد تبدأ ضعيفة وغير منظمة وتنتهي الى حركة عامة متصلة مع قوى وحركات اجتماعية وأنظمة في كل العالم تقاتل ضد هذا التسلط وهذه الهيمنة المتعجرفة للامبراطورية الأميركية المتوسعة وقد يساعد نزول الصين الى ميدان الصراع الاقتصادي وتكتيكات المصالح الروسية الى ايجاد مناخ مختلف عما تعيشة المنطقة حاليا.
لذلك بات لزاما على الادارات الامريكية المتعاقبة مراجعة السياسات السابقة تجاه العراق، وخصوصاً في ضوء فشلها في إنتاج الأهداف المرغوبة للولايات المتحدة ثم أهمية العراق وموارده وموقعه الاقليمي، وخصوصاً النفطي، إضافة الى اتصال موضوع ترتيب وضع العراق بترتيب أوضاع المنطقة بشكل عام، والصراع العربي¬الصهيوني بشكل خاص كلها أهداف ثابتة للولايات المتحدة الاميركية.
3399 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع