نزار السامرائي
يوميات مسافر على طريق أحمر - ٢
الخطوة الرابعة -فتح ملف التحقيق
وقف أبناء مدينة سامراء وقفة واحدة في التفاعل والتعاطف مع أسرة زيدون واستنكار الجريمة الأمريكية التي هزت المشاعر والوجدان الإنساني لطبيعتها الوحشية، وتساءل كثيرون أحقا هذا هو ديدن الغرب الذي يطرح نفسه حاميا للقيم الإنسانية حتى في التعامل مع الحيوان، وإذا به يفقد آخر ما تبقى عنده من قيم في تعامله مع الإنسان وبهذا الأسلوب الذي تأباه حتى الوحوش في غاباتها.
تقاطر المئات منهم إلى مجلس الفاتحة من دون انقطاع وحتى بعد انتهاء مجلس العزاء المعتاد ظل بيت الحاج فاضل حسون مكانا تأتي إليه شرائح المجتمع من كل الأعمار والطبقات ومن كل التوجهات.
بعد انتهاء الأيام الثلاثة لمجلس الفاتحة، بدأنا نتحرك لإيصال رسالة أم الشهيد إلى العناوين المثبتة فيها ولم تكن الاتصالات متاحة لنا بنفس القدرة المتاحة حاليا أو على الأقل لم نتعود على استخداماتها المختلفة، كان مبنى قائممقامية قضاء سامراء محتلا من قبل القوات الأمريكية وتُعدّه تلك القوات بمثابة "منطقة خضراء مصغرة"، ولكن المجلس البلدي لسامراء كان بالإمكان الوصول إليه، وكان جميع أعضاء المجلس غاضبين على الجريمة وكانوا متعاطفين معنا، وبقي المرحوم "حازم عبد الكريم الياسين" على اتصال معنا طيلة الأيام السابقة، كان أملنا محدودا في وصول الرسالة إلى الرئيس الأمريكي قائد الجمع الضال في العدوان على العراق، وحتى في حال وصولها فإنها لن تكون ذات نفع ذلك أن منطق الغطرسة والتعالي الذي جاء به الغزاة كان يعني استهتارهم بكل القيم العليا التي يعتز بها بنو البشر، فقد تدنت بهم حيوانيتهم إلى مستوى مبتذل لا يمكن أن يخطر على بال.
لم نطلب تعويضا ماليا عن ابننا الشهيد واعتبرناه أكبر قيمة من أمريكا وما تملك، ومن جهة أخرى كنا على يقين بأن الإدارة الأمريكية لن تسمح بتجريم جنودها مهما كانت جريمتهم ومهما كانت الأدلة قاطعة، لكننا في الوقت نفسه عزمنا على المضي في إيصال صوتنا إلى الرأي العام العالمي وإلى الصحافة الأمريكية والأوربية، في تحرك على محور القيادة الميدانية الأمريكية في سامراء والتي كانت تتخذ من سايلو الحبوب الواقع على الطريق السريع المؤدي إلى تكريت وتحتل ببعض وحداتها مقر قائممقامية قضاء سامراء الواقع عند مدخل المدينة، وقد راجعنا هذا المقر ثلاث مرات بناء على طلب الجانب الأمريكي من دون أن نخرج بنتيجة، وكان الأمريكيون يتفنون في ممارسة الضغوط علينا لوقف متابعتنا للقضية وإرهابنا بما عرف عنهم من عنجهية وغطرسة، ولكننا صممنا على عدم التخلي عن حقنا مهما تعرضنا له من صعوبات، وكان الضباط الأمريكيون ينفون أية صلة لهم بالحادث، ولكننا أكدنا إصرارنا على متابعة التحقيق ورفض ادعاءات الجانب الأمريكي.
في موقف مفاجئ تطوع أحد الضباط من أبناء سامراء من الذين أعيدوا للخدمة بعد الاحتلال، لتقديم المساعدة في الوصول إلى القائد هناك، ربما كان مدفوعا بروح المدينة والتعاطف مع أبنائها إذا أصابتهم مصيبة، وربما هي محاولة منه للتغطية على أدواره الأخرى في التعاون مع المحتلين وفي إلحاق الأذى بأبناء سامراء الذين هبوا للدفاع عن وطنهم ضد قوات الاحتلال.
كان اسم القائد الميداني الأمريكي "غونزاليس" وهو آسيوي مضرب بأصول أمريكية لاتينية، وكان برتبة عقيد وكان سيء الأدب فضاً ومتعجرفاً إلى أبعد الحدود مستنسخا الهمجية الأمريكية في التعامل مع الهنود الحمر، ذهبت مع أخي مأمون والد زيدون والضابط السامرائي، والتقينا القائد الأمريكي بموعد مرتب مسبقا، سلمناه الرسالة وحينما قرأها بمساعدة المترجم امتقع وجهه وفقد هدوءه وأخذت عباراته تشتد مع الوقت وحاول تهديدنا بالاعتقال، من بين ما قاله، كيف تسمحون لأنفسكم أن تصفوا القوات الأمريكية بالصفات الواردة في رسالتكم؟ اتفقت مع الجميع أن أتحدث وحدي مع الجانب الأمريكي، وطلبت منهم عدم الدخول في أي حديث إلا في حال السؤال منهم وبعد أخذ موافقتي، أجبته بهدوء إن من كتب الرسالة أم فقدت ابنها وبالتالي لا يمتلك أحد الحق في يصوغ لها مشاعرها وعباراتها عن الكارثة التي حلت بها، ومن المستحيل أن تتمكنوا من مصادرة مشاعر الناس لاسيما النساء وعلى الخصوص الأمهات المنكوبات، لكن القائد لم يقتنع وواصل لهجته المتعالية، حينها قلت لهم هي في البيت فإذا أردتم اعتقالها فاذهبوا ولكن عليكم أن تعرفوا أن تقاليدنا الشرقية لن تسمح لكم أن تمروا إليها إلا على أجساد الرجال من أفراد الأسرة، وعلى هذا عليكم تحمل التبعات في أسرة غاضبة حد الاستعداد للموت، ومدينة متعاطفة مع هذه الأسرة من دون حدود، خاصة إذا تعلق الأمر بانتهاك حرمات البيوت والاعتداء على النساء، في مجتمع على استعداد أن يدفع آلاف الضحايا دفاعا عن شرف سيدة، عندها لمس مني لغة تهديد مبطنة، ولكنه مع ذلك لم يتراجع عن غطرسته فحاول إخافتنا بأن هذه الرسالة لن تقدم ولن تؤخر بل أنه يجزم أنها لن تصل وحتى في حال وصولها فلن تتخذ بشأنها أية إجراءات، دفعني ذلك إلى القول وبلغة واثقة، أظن أنه من الأفضل أن تفتح تحقيقا بالحادث فالأمر بذلك سيصلك قريبا وذلك أفضل لك لأنه سيظهرك بمظهر قائد يرفض خروج قواته على قواعد الاشتباك التي وضعها الجيش الأمريكي نفسه فالرئيس الأمريكي الذي سيجد نفسه محاصرا أمام قضية رأي عام، ثم إننا أوصلنا رسالتنا إلى الصحافة العالمية بما فيها الصحف الأمريكية، ولما لم نصل الى نتيجة غادرنا جميعا مكتب قائد منطقة سامراء على أمل أن يتم استدعاؤنا في أية لحظة لفتح باب التحقيق.
بمساعدة السيد بشير عبد الرحمن الخضير وهو نسيب عمي الدكتور شامل السامرائي، استطعنا إبراق الرسالة عبر شبكة الانترنيت بعد ترجمة نصها إلى اللغتين الإنكليزية والفرنسية، كما أرسلنا الرسالة إلى الصحف المحلية والعربية وقد نشرتها كما هي، وأوصلنا نسخة منها إلى قائد القوات الأمريكية في العراق، وتحركت من خلال علاقاتي الخاصة ومع الصحافة والفضائيات لفضح الجريمة، وفعلا جاء فريق تلفزيوني من شبكة الـ BBC في خدمتها التلفزيونية وأجرت لقاءات مع أفراد أسرة زيدون، وصَوَرَ الفريقُ المنطقةَ التي تم إلقاؤه منها إلى بوابة ناظم الثرثار على الرغم من الصعوبات الفنية التي وضعتها القوة الأمريكية المرابط على السد، كما أن عددا من الصحف البريطانية أسهمت في توسيع نطاق التعرف على تفاصيل الحادث، فقد أرسلت صحيفة ساندي تايمز إحدى الصحفيات العاملات فيها لمتابعة هذا الملف الذي رأته مهماً والذي يساعد على شهرة من يتصدى للكتابة عنه، بسبب الطبيعة الهمجية لهذه الجريمة، وأجرت الصحفية مقابلات مباشرة مع أم زيدون وأخوته وأخواته، وكانت لقاءات مؤثرة إلى حد بعيد، هذا الاهتمام البريطاني له ما يبرره، فبريطانيا شريك مهم في العدوان على العراق ويبدو أن الكثير من الصحفيين والسياسيين والمفكرين البريطانيين كانوا معترضين على مشاركة بلادهم في غزو العراق واحتلاله، أو على الأقل لإبراز الجرائم الأمريكية وتبرئة بريطانيا من آثام الجرائم التي تُرتكب في العراق، ودفع العراقيين لإجراء مقارنات بين فعل القوات الأمريكية في ساحة عملياتها والقوات البريطانية في القاطع الجنوبي في الاحتلال الحالي، أو باستذكار ما فعلته سلطة الاحتلال البريطانية في العراق أثناء احتلاله بداية القرن الماضي، وهذه المقارنة الساذجة بين شرين أيهما أهون، لا يمكن أن تمر بسهولة فكلاهما قوة احتلال ثم إن القوات البريطانية لم تحافظ على صورتها التي أرادت تسويقها إلى الأبد، فقد كشفت وثائق مؤكدة عن انتهاكات لحقوق الإنسان ضد مدنيين في مدينة البصرة مما أرغم رئيس الأركان البريطاني على الاعتذار لذوي الضحايا وأبناء محافظة البصرة، ووصف ما حصل بأنها أعمال مخزية، كما أن قناة الجزيرة القطرية بادرت لمتابعة الحدث وكل حسب طاقته وما تسمح به الظروف الأمنية للتحرك، الجزيرة أعدت قصة كاملة عن الحادث، وعلى الرغم من أن الحدث لم يأخذ حقه ومداه من التغطية في أجهزة الإعلام، فالصحف العربية لم تنظر إلى القضية على أنها صورة مصغرة لما يجري في العراق، بل نظر إليه البعض على أنه حادث منقطع.
كان من اللافت للنظر أن الصحافة الأوربية وبخاصة الصحافة الفرنسية والألمانية أغفلت ما حصل على الرغم من أننا افترضنا أن إعلام هاتين الدولتين سيكون أكثر حماسة وجرأة من غيره في متابعة حدث كهذا، وعلى الرغم من ذلك كله فإنني رضيت بتلك التغطية من دون أن افقد الأمل بتغطية أوسع وأعمق مع الوقت.
بعد بضعة أيام عشنا خلالها أحزاناً متواصلة جراء فقدان ولدنا وغطرسة القوات الأمريكية الغازية، وإصرارها على تعذيبنا، زارنا الضابط العراقي في المنزل وقال استعدوا للذهاب لمقابلة القائد الأمريكي الذي طلب حضوركم إلى مقر القيادة، حينما وصلنا كانت تقاسيم وجهه تنم عن سلوك آخر غير الذي عهدناه منه في المرات السابقة، رحب بنا وقال إن أوامر فتح التحقيق بالقضية قد وصلت من قيادة القوات الأمريكية، وأن السرجنت إرين سينترون (IRENE CINTRON) وهي مسؤولة في مكتب التحقيقات الجنائية العسكرية الأمريكية هي المكلفة بالتحقيق بالقضية وفتح ملف لها، بدأت سينترون بأحاديث إزالة التحسس منا تجاهها وطلبت منا مساعدتها على إنجاز التحقيق بأسرع وقت لأن قيادتها أمرت بذلك، وكبداية لفتح الملف قالت أنها تريد أن تذهب بنا إلى موقع الجريمة وإجراء معاينة ميدانية للتعرف على كيفية وقوع الحادث، وأجرت تحقيقا في موقع الحادث مع مروان وصورت الموضع من عشرات الزوايا والنقاط بالفديو.
استمرت حالات الاستدعاء إلى مقر قيادة القوات الأمريكية في السايلو لعدة مرات وفي أحد الاستدعاءات فوجئنا بالسرجنت سينترون تبلغنا عن طريق المترجم مايكل رحباني وهو جندي أمريكي من أصل لبناني كما يتضح من لقبه باعتذار رسمي باسم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية عن الحادث، كان محتما علينا أن أسأل هل هو تعبير عن الأسف أم اعتذار رسمي، سألها رحباني فأجابت بثقة إنه اعتذار رسمي بكل تأكيد، وهنا تدخلت فقلت إن ذلك يعني تحمل المسؤولية الجنائية عن الحادث، قالت نعم ولكنكم أصررتم على رفض التعويض عن الفقيد، قلت نعم لأننا على يقين أن أي تعويض لن يكافئ خسارته، وقالت السرجنت سينترون إن قيادة القوات الميدانية أبدت استعدادها لتحمل جزء من تكاليف الدفن ومجلس العزاء الذي أقيم على روح الفقيد وكناية عن باقة زهور، لكنني بادرت لرفض هذه الفكرة على الفور لأنها يمكن أن تُفسر على أنها قبول لمبدأ التعويض المالي فنقل المترجم الرحباني ما قلته حرفيا إلى سينترون فردت بأن ذلك تفسير خاطئ وأقسم مايكل الرحباني بأن المبلغ ليس تعويضا وقرأ النص الذي تم بموجبه صرف المبلغ وقمت بتثبيت النص على وصل الاستلام.
مضت أشهر الشتاء والتحقت بها أشهر الربيع القصيرة ومرت كئيبة على العائلة وكان الجميع يتساءلون بعيونهم إن لم تفعل أفواههم أين وصل التحقيق؟ وهل هناك فرصة حقيقية لتطبيق العدالة؟ تطوع الكثير من الأقارب والأصدقاء لإثارة المزيد من عوامل القلق في النفوس، وبخاصة حينما يتبرعون بتفسير غرض المبالغ التي تسلمناها عن الشاحنة وحمولتها، وخاصة المبلغ الذي قيل بأنه مساهمة في مجلس العزاء وفسره أولئك على أنه تعويض عن الفقيد، كانت هذه الأفكار كفيلة بإثارة المواجع في النفوس فأصبحنا من فرط العطالة وانتظار الجديد نتلاوم بلا حدود وعلى كل شيء، حين لا يجد واحدنا من يلومه فإنه يبدأ بجلد نفسه ويوجه لها لوما جارحا وكأنه يضع ملحا على جرح غائر، وربما كان نصيبي من الحالة أكبر من غيري، هل ورطت نفسي في قضية كبرى مع الأمريكان الذين يمسكون بكل خيوطها؟ أم أن في الوقت متسعا كي يعتقد الجميع بأن ملف القضية ما يزال مفتوحا وأن القلق المشروع يجب ألا يحجب كوة الأمل عن رؤية بصيص الضوء، ولكن من فقد ولده ليس كمن فقد نظارته، فالولد خلاصة الوالدين إلى الحياة، إذن لا مناص من الإصرار على ملاحقة القضية عبر ما متاح تحت يدي من وسائل وكنت أهيج نارها كلما خبت.
الخطوة الخامسة
التحقيق ينتقل إلى مطار صدام حسين الدولي
امتدّ التحقيق لعدة شهور بين مكتب القائد الأمريكي في سامراء ومقر القيادة في تكريت ولم تتقدم آمالنا خطوة واحدة إلى الأمام حتى إذا انتهت شهور الصيف وجاء أيلول/ سبتمبر 2004 أملِنا أن القضية ستتحرك مرة أخرى، ولكن الصيف ما زال يضغط بوطأة حرارته على العراقيين وجنود الاحتلال على حد سواء.
يوم الثلاثاء 7 أيلول/ سبتمبر جاء مروان من سامراء حاملا معه تبليغا رسميا وخطيا وبتوقيع "المقدم إحسان عزيز الساجي" من قيادة ICDC "قوات الحرس الوطني" وهي القوات التي شكلها بول بريمر بالتنسيق مع من جاء مع الاحتلال، يطلب حضوره إلى منطقة مطار صدام حسين الدولي لحضور جلسة تحقيق مع الملازم الأول سافيل وهو آمر الفصيل أو السرية التي نفذت جريمة القتل بأوامر مباشرة منه، كان مروان وقبل أن يأت لبغداد قد اتصل بي وأبلغني بأن الشرطة أبلغته بالذهاب إلى منطقة السايلو لأمر هام، قلت له لا تذهب إلا في حال حصولك على تبليغ رسمي خطي، حرصا على سلامتك خشية من تصفية محتملة من جانب القوات الأمريكية أو المتعاونة معها، لإزاحة الشاهد الوحيد على وقوع الجريمة هذا ديدن المافيات التي تسعى لإخفاء الأدلة عن جرائمها حتى لو اضطرت لقتل شخص قريب منها، فكيف إذا كان الشاهد عراقيا وابن عم الشهيد زيدون وهي التي حاولت إضاعة أي دليل على ارتكابها للجريمة، وكذلك حرصت على ضمان قانونية أية خطوة نُقدم عليها أو نستجيب فيها للطرف الآخر، ونشطت الإشاعات مجددا بين الأقارب والأصدقاء في تفسير كل خطوة جديدة تحصل وحتى حين يحصل تأخير في الإجراءات الأمريكية فإن ذلك كان يستدعي تفسيرات تتراوح بين أقصى درجات التشاؤم وبين أعلى مراتب التفاؤل، السكون له نفس القدر من تأثير الحركة بإثارة عوامل القلق، البعض قال إن الأمريكان يريدون غلق القضية بأي ثمن البعض الآخر مضى أبعد وقال بأن الأمريكان مستعدون لدفع عشرين ألف دولار من أجل سحب القضية، كنت واثقا أن مأمون لن يقبل مبدأ التعويض حتى ولو وصل مليون دولار، ولكنني ما كنت لأنوب عنه من تلقاء نفسي في الإقدام على خطوة كهذه قد لا تأتي نتائجها كما أريد، ومع ذلك كان موقفنا فيه من الطبائع العشائرية الشرقية وفيه من تقاليد البداوة الكثير مما يرى الغربيون فيها تخلفا اجتماعيا تجاوزته الشعوب التي لا تتعامل مع قضاياها الكبيرة والصغيرة بقيم عشائرية أو استنادا إلى مبادئ أخلاقية، فالقوانين هي التي تنظم العلاقات بين الجماعات والأفراد بصورة متوازنة ولا تسمح الدولة لأية مجموعة من خارجها مهما كبر شأنها أن تنوب عنها في مباشرة واجباتها وصلاحياتها ووظائفها في فض المنازعات وإحقاق الحقوق ومن بين ذلك تثبيت مبدأ التعويض المالي، وحتى الإسلام لم يهمل هذا الجانب وأفرد له الكثير من المعالجات والحلول، والديات المالية جزء من تلك التعويضات، غير أن التعويضات الأمريكية كانت من الهزال مما لا يسمح لعراقي يعتز بكرامته وقيمّه ومكانة من فقد أن يقبل بها، الكل يعرف كيف فرضت الولايات المتحدة تعويضات بأرقام فلكية على الحكومة الليبية بسب حادث سقوط طائرة لوكربي إذ وصلت تعويضات الأمريكي الواحد إلى ما يقرب العشرة ملايين دولار، على حين أن ما تدفعه القوات الأمريكية عن ضحاياها من العراقيين كانت لا تزيد على 2500 دولار أمريكي، فهل جاء الأمريكي من كوكب آخر؟ وهل تم خلقه من غير الطين الذي خلق منه باقي البشر؟ وهل خرج من غير السبيلين الذي خرج منهما بنو البشر؟ أم هو التعالي وشعور الغطرسة والتفوق العنصري المغروس في نفوس منخورة من الداخل تريد التعويض عن هزيمة داخلية بالتعالي على بقية شعوب الأرض؟ أم أن منطق القوة المادية هو الذي يفرض نفسه على التعامل بين الدول والأفراد والجماعات على أساس ما تمتلك من أسباب القوة وأسلحة فتاكة؟ غير أن الأمر لا يرتبط فقط في جعل صورة الأمريكي في الخارج بهذا الاطار البراق، بل بسبب تقاعس حكومات الدول الصغيرة التي لا تجعل لمواطنيها قيمة إنسانية وتدافع عنهم في كل المحافل الدولية، حتى جعلت الدول الكبيرة تستخف بهم وتعاملهم معاملة تذكرنا بتجارة العبيد، ولكن من يتبنى قضايا العراقيين؟ هل هي السلطة التي تواطأت مع أشرار الأرض وساقطيه من أجل إذلال العراقيين، هل يمكن أن تدافع عنهم؟ محال فهي سلطة "ألعوبة" كما تسميها كل القوانين الدولية في تعاملها مع السلطات التي تشكلّها قوات الاحتلال، وبالتالي مرتهنة الإرادة لأولياء النعمة عليها ولمن جاء بهم من الأزقة المظلمة ومن المنافي ومن سراديب العمالة والعمل كوكلاء للدول الكبيرة والصغيرة التي تدفع لهم.
تحضرني هنا واقعة الاعتداء على طالب عراقي كان يتلقى علومه في بلغاريا وتم قتله هناك، وكيف انتفضت الحكومة العراقية التي كانت تجسد شموخ العراقيين وكبريائهم وكرامتهم عندما كانت السلطة الوطنية منبثقة من بين الشعب، فأرغمت الرئيس البلغاري على القدوم إلى العراق وزيارة عائلة الطالب العراقي القتيل وتقديم الاعتذار الرسمي عن تلك الجريمة، أما السلطة التي نصبها المحتلون الأمريكيون فهي ليست عاجزة عن التصدي للقمع الذي يتعرض له العراقيون على أيدي الجنود الأوباش المحملين بكل موروثات الحقد والكراهية للعراقيين خاصة وللعرب عامة، بل أن هذه السلطة هي التي كانت تشجع المحتلين على قمع العراقيين وتقترح على الأمريكان أساليب التعذيب المستوردة من فارس بحكم كون معظم رموز السلطة هم إيرانيو الأصل أو الولاء.
لو أن جميع العراقيين الذين فقدوا عزيزا منهم، رفضوا تسلم هذه التعويضات التافهة لاضطرت أمريكا لإعادة النظر بما تدفعه للعراقيين، على العموم كان علينا بموجب التبليغ أن نكون في مطار صدام حسين الدولي قبيل الظهر دون أن نعرف متى ستبدأ جلسة التحقيق فالفرق بالتوقيت بين بغداد والساحل الشرقي للولايات المتحدة يبلغ سبع ساعات، وهو أكثر مع توقيت المدن الواقعة في وسط الولايات المتحدة أو الواقعة على المحيط الهادئ، علما بأن فرق التوقيت بين نيويورك على الأطلسي وسان فرانسيسكو على الهادئ يبلغ ثلاث ساعات.
طريق المطار كان بمثابة خط مفتوح نحو الموت لكل العابرين عليه وبخاصة لأرتال القوات الأمريكية وهذا ما يثير فينا شعورا عاليا بالفخر والعز، إذ كانت المقاومة تسيطر على الطريق وتفرض على الحركة فيه رقابة صارمة فمن يذهب إلى المطار أو يأت منه إلى بغداد، فله خصوصية التعامل مع المحتلين إلى أن يثبت العكس، كانت المقاومة تنصب الكمائن لعجلات القوات الأمريكية بل وشنت في الطريق هجمات مؤثرة وشجاعة وبأعداد لا يتوقع الأمريكيون حجمها، وما يمكن أن تتركه من نتائج وخاصة في معنويات الجنود التي وصلت إلى الحضيض.
أعداد المقاتلين غير مألوفة لحرب الشوارع، كان هذا الطريق مصيدة للمحتلين فقدوا على كل كيلو متر فيه وعلى مدى عام ونصف مئات القتلى وآلاف الجرحى والكثير من المعدات، وأهم من كل هذا تصّفرت معنويات جنودهم فيه، ويكفي أن يعرف العسكري الأمريكي أنه مكلف بواجب في هذا الطريق حتى يفقد ما بقي له من رصيد أعصاب، ووصل الجنود حد الانهيار العصبي والمعنوي ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى ارتكابهم لأي جريمة ضد زملائهم وهذا ما وقع منه الكثير، وكانت البيانات الحربية الأمريكية عندما تتحدث تصفه بحادث غير قتالي، هؤلاء الجنود المدججون بالسلاح والذين يقتلون بدم بارد وأعصاب جامدة ويثيرون الرعب والهلع في الشارع هؤلاء ما أجبنهم حينما تحصل مواجهة بينهم وبين رجال المقاومة الذاهبين إلى الموت بلا تردد، تراهم يفرون من الموت كجرذان غبية ويجهشون ببكاء مرير ويشترون الحياة الذليلة بالتوسل والخضوع حتى ليعجب المرء من وضعهم في الحالين،.
ما هو هامش الشجاعة المتوحشة لديهم حينما يتعاملون مع النساء وكبار السن والأطفال؟ يتصرفون وكأنهم يؤدون أدواراً في أحد أفلام الاكشن الأمريكية التي تنتهي عادة برفع الأمريكي علامة النصر بإصبعين مفتوحين إلى الأعلى، فالأمريكي متفوق ولا يغلبه أحد على وفق ما تنتجه صناعة السينما في هوليوود، وخاصة فلم رامبو.
المرور العابر عند أي مفترق طريق في بغداد يشدّ الأعصاب ويثير في النفس مشاعر متباينة ويغلق الأبواب أمام الإدراك السليم، ويطلق المخبوء من الانفعالات المكبوتة من مكامنها أمام الموت، الحقيقة المطلقة الوحيدة، والتي لا مناص منها، ومع ذلك فإن الخوف منها يصل مديات تشل قدرة الإنسان على التحكم بسلوكه إلا من رحم ربي، فانتظار الموت وترقب وصوله يطغى على الخوف من الموت نفسه، وحين ينشر الموت جناحيه فوق أرض يحاول كل من هناك أن يغلق بابه دونه أو يفلت منه بجلده، قليلون هم الذين يفكرون بغيرهم في مثل هذه اللحظات، منهم من يجند إمكاناته وقدراته من أجل تقديم العون للآخرين، ولكن لحظة الوداع أصعب امتحان يواجه الإنسان، نعم يمكن أن تصدر عن المرء حركات تنم عن الرغبة في المشاركة في مصير واحد ولكن الاختبار إذا ما حل بأثقاله فقد يكون من المسلم به لدى الكثيرين التفكير بالنفس أولا مهما كانت درجة القرابة والصلة مع الغير في مشهد اللحظة الأخيرة.
شوارع بغداد الكئيبة والتي تشهد حركة بلهاء وفي مفترقات طرقها وأزقتها التي تنتهي عند نهاياتها كل المسالك، وحيث تحولت الأرصفة الموحشة إلى مقابر للحيوانات والأشجار وكتل الحديد وبعض أشلاء آدمية، واستحالت الطرق التي كانت إلى الأمس القريب مرصوفة بأحدث المعدات ومواد التعبيد إلى حفر وكأنها أرض محروثة متهيئة لموسم الغراس، نتيجة ما تركته سرف دبابات المحتلين من جروح وأخاديد على صفحة وجهها الناعم، كانت كلها تلتقي مع مدن العراق الأخرى عند هذه النتيجة المحزنة والتي لا تسمح بذرف قطرة دمع لفرط ما فيها من مياه آسنة اختلطت ببقايا دماء العراقيين وأعدائهم الأمريكيين مع شديد الأسف، ومع ذلك لم يكن أمامنا أنا ومروان من خيار إلا اجتياز طريق المطار وليرحمنا الله للوصول إلى مقر القيادة الأمريكية في قصر الفاو الرئاسي، كان الطريق أطول بكثير مما كان على حقيقته، لا ندري هل السرعة القصوى هي المطلوبة أم علينا أن نسير ببطء شديد لتجنب سوء التقدير من طرف المجاهدين الذين يستهدفون المارين على طريق المطار، وهل يا ترى سيتفهم من يرانا طبيعة المهمة التي نذهب من أجلها للمطار؟ عيون الناس تنظر إلى المارين عبر طريق المطار بتساؤل أكبر من ترقب قذيفة أو إطلاقة تبحث لها عن هدف، فالمطار قاعدة عسكرية أمريكية وليس محطة سفر، هل يصدق من يرانا هناك أننا نتابع قضية تحقيقية لولدنا الذي قتلته القوات الأمريكية؟ وهل على الجميع أن يعرفوا بالتفاصيل كي يتفهموا موقفنا؟ ثم هل نحن وحدنا الذين فقدنا ابنا ولماذا لم يحقق الأمريكيون بكل جرائمهم فلماذا حصلنا على هذا الامتياز؟ آه كم تمنيت ساعتها لو أن قصتنا قد انتشرت على طول الكرة الأرضية وعرضها كي تتفهم الأعين التي تختزن أسئلة حائرة سبب مرورنا في طريق المطار ومع أننا لسنا متهمين أمام أنفسنا على الأقل فليقرأ من يرانا المشهد على هواه، تساؤلات مرت سريعا وما يزال من طريق المطار أكثر من نصفه ولن تجدي هذه التساؤلات في عودة الساعة إلى الوراء ولا في قرارنا مواصلة الرحلة حتى النهاية، لنا حق نريد ملاحقته وإن طال السفر.
كنت أقود السيارة بسرعة وسطى وبهدوء حذر فكل الاحتمالات واردة، الأمريكيون الذين استدعونا للتحقيق هل نتوقع أنهم أحاطوا دورياتهم القلقة على طريق المطار علما بمجيئنا؟ استبعدت هذا الاحتمال فورا فهم لم يسألوا عن نوعية سيارتي ولا لونها ولا رقمها، في الطريق اعترضتنا أكثر من سيطرة أمريكية وضعت فيها آخر ما توصلت إليه مصانع الإلكترونيات في الولايات المتحدة من معدات وأجهزة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل جلبوا الكلاب المدربة التي تفحص كل ما يراد مروره، بعد أن وصلناها وقفنا في دورنا بطابور طويل لم نكن نعتقد أن المطار يستقبل كل هذا العدد من السيارات والمراجعين، كنا نتقدم ببطء شديد وبعد أن قطعنا حوالي 100 متر بدأ الجنود الأمريكيون بإصدار الأوامر، هذا يأمر بفتح الصندوق الخلفي، وهذا يأمر بإطفاء المحرك وفتح غطائه، جاءنا جندي يقتاد كلبا أو يقتاده كلب لا فرق فالأمر سيان، أخذ الكلب يدور حول السيارة وهو يؤدي واجبه الذي يتقاضى بسببه راتبا يفوق راتب الجندي الذي يقوده، أصدر الجندي لنا أمرا نيابة عن الكلب بالحركة بعد أن أصدر لنا شهادة التجرد عن المتفجرات والسلاح والعطور، بعد مسيرة قصيرة توقفنا مرة أخرى أمرنا بالترجل من السيارة وفتح غطاء المحرك مرة أخرى وفتح الصندوق ثانية وتسليم الهاتف المحمول، تذمر صامت يكاد يضيء من بين العيون أو يسمع صداه من بين الضلوع، تركنا السيارة لبضعة أمتار فهذه المرة يجب أن تفتش السيارة من الداخل بعيدا عن أعين ركابها، دخلتْ على الخط هذه المرة أجهزةْ أكثر تعقيدا من النقطة السابقة، أجهزة التحسس الكهربائي والتفتيش اليدوي المباشر لنا وللسيارة، في باحة الانتظار تقدم نحونا شاب بدت هيئته ملتبسة، بادرني السلام عليكم أستاذ نزار أنا معجب بما تقوله في لقاءاتك على الفضائيات المختلفة وبخاصة قناة الجزيرة، أجبته وعليكم السلام حاول أن يتسلل ولكنني عرفت أن سلامه كان رسالة تشكيك بطبيعة وجودي هنا أراد أن يكافئ وجوده هو في باحة الانتظار أمام مطار بغداد، هنا وجدت الظرف مناسبا أن أبادره بسؤال قد يفاجئه، قلت ماذا تفعل هنا؟ لم أسأله عن اسمه ولا عن منطقته ولكنني سألته السؤال الذي أيقنت أنه حينما سلم عليّ كان يريد أن يقول لي لقد ضبطتك متلبسا في جريمة الانتظار على أبواب مطار كان اسمه مطار صدام حسين، وبات اليوم مقرا لقيادة القوات الأمريكية المحتلة، تلعثم قليلا ولكنه لم يبال على كل حال، فأجاب أنتظر دوري للدخول إلى مقر عملي في خدمات المتاجر الأمريكية في القاعدة العسكرية بالمطار، إذن هو لا يخجل من عمله فهو لم يأتي لاهثا وراء الدبابة الأمريكية ولم يرفع سلاحه ضد مواطنيه، ولكنه ربما قاده ظنه أنني أشاركه أو أزاحمه في البحث عن وظيفة، ولهذا حينما سألني واستنادا إلى مبدأ المعاملة بالمثل، وأنت ماذا جاء بك؟ قلت أنا محام عن ابن أخي الذي قتله الأمريكيون برميه في نهر دجلة، واليوم نحن مطلوبون للتحقيق وربما للمحاكمة، لم يدعني أكمل عبارتي كان قد تلاشى وسط الزحام وبقينا بانتظار إشعارنا بأن تفتيش السيارة قد تم إنجازه في ساحة مكشوفة، بعد طول انتظار جاءتنا الإشارة باستكمال تفتيش السيارة فتوجهنا إليها من دون أن نعرف إلى أين نتوجه بعد ذلك. بعد أن أنهينا كل الإجراءات الأمنية في "جيك بوينت وان"، تحدثت مع بعض الحراس المتجهمي الوجوه هلعا ورعبا من قذيفة هاون أو سيارة يقودها "انتحاري"، وسلمتهم نسخة من كتاب الاستدعاء الرسمي الذي جئنا بموجبه، بعد سلسلة اتصالات ليست عادية أجراها المسؤول عن النقطة مع مراجعه، أخبرَنا أحدُ الحراس بأن مأمورا سيأتي إلينا بهدف إيصالنا إلى الموقع الذي طلبنا، كانت الساعة تقترب من الثانية بعد الظهر عندها جاءت سيارة شيفروليه صندوقية رباعية الدفع تتقدمها مدرعة من نوع هامر فيها إضافة إلى سائقها جندي يقف وراء مدفع رشاش سريع الطلقات كان منصوبا فوق المدرعة، وجندي يحمل بندقية من نوع M16 كان يجلس بجانب السائق، بعد توقف الموكب ترجلت منه السرجنت سينترون حيث كانت تحمل بندقية آلية ومعها جندي يحمل بندقية آلية أيضا وكان كل منهم يرتدي صدرية مقاومة للرصاص حتى المجندات الأمريكيات يحملن هذا النوع من البنادق ولكن ماذا فعل أكثر جنود المارينز شراسة مع رجال المقاومة كي تفعله سينترون؟ وجاءت مع السرجنت وحمايتها مترجمة قدمت لنا نفسها، قالت أنا سهام الجعبري سأكون المترجمة المرافقة لكم طيلة تواجدكم في القاعدة، أنا أمريكية الجنسية أقيم في كاليفورنيا، من دون مقدمات قلت لها أكيد أنت فلسطينية من الخليل؟ هزت رأسها موافقة على ما قلت، وكادت أن تطلق عبارة دهشة ولكنها أحجمت في اللحظة الأخيرة أمام سينترون، بعد ذلك حينما سرنا سوية داخل القاعدة العسكرية سألتني من أين عرفت أنني من الخليل هل وصلتكم المعلومات عني مسبقا؟ تعمدت عدم إجابتها من أجل أن أتركها قلقة حتى النهاية، ربما ذهبت لتصورات بعيدة وربما كانت قد همست بإذن مسؤولها الأمريكي عن ذلك، وربما قالت له إن حياتها في خطر لأن عراقيا على صلة بـ (الإرهاب) يعرف عنها معلومات دقيقة جدا، وقد تكون بالغت في تفسير ما سألتها عنه وأضافت من عندها الكثير كي تطلب النقل إلى موطنها بالتجنس وتتخلص من كوابيس الموت التي لا تنتهي في العراق المحتل.
بعد أن لاحظت القلق مرتسما على وجهها والكلمات التي تخرج من فيها، حرصت على الإيغال في ممارسة اللعبة التي جاءوا من أجل تنفيذها معنا، ولأنها من جيل جديد ولأنها انسلخت عن بيئتها الفلسطينية التي ما زال العراقيون الأصلاء يعتبرونها صنو محنة احتلال بلدهم، فقد طمس التغرب عن ذاكرتها أن رجل دين فلسطيني هو الشيخ محمد علي الجعبري على ما كان قد ترسخ في ضميرنا المشدود إلى القضية الفلسطينية التي تأكل معنا وتشرب أن الجعبري شغل وظيفة رئيس بلدية الخليل، وكان جيلنا وخاصة في العراق ننظر إلى عمل كهذا على أنه تعاون مدان وطنيا وقوميا وحتى دينيا مع الاحتلال الإسرائيلي، وكان اسمه متداولا على مستوى الإعلام العربي والإسرائيلي على حد سواء، وكان ذلك في وقته يعد كفرا سياسيا لا يمكن القبول به، ولو أجرينا مقارنة بين ما فعله الجعبري في ذلك الوقت وكان يعتبره تضحية لسكان مدينته المحتلة ودفعا للأذى الأكبر بالأذى الواقع على سمعته، وبين ما يحصل اليوم في كثير من الدول العربية، بل وما تفعله سلطة حماس التي تكاد تؤله قاتل الشعب العربي في العراق وسوريا ولبنان واليمن بمن فيهم الفلسطينيون في هذه البلدان المجرم قاسم سليماني، وتعتبره قيادتها حركة حماس "الإسلامية"، شهيد القدس لوجدنا أن الشيخ الجعبري قد اجتهد ولم يتجاوز حد الإساءة إلى نفسه ولم يعتبر بن غوريون أو كولدا مائير أو شارون أبطالا أو شهداء القدس أو الخليل.
بعد أن رحبت بنا سينترون وأرادت أن تشعرنا بأنها حريصة على إنجاز قضيتنا، طلبت منا الصعود إلى سيارة الشيفروليه التي كانت تقودها بنفسها، أشارت إليّ أن أركب معها في المقعد الأمامي وتركت سهام الجعبري ومروان في الخلف، سألتني أين كنتم كل هذه المدة؟ وأردفت لقد بحثنا عنكم في سامراء وطلبنا من شرطة المدينة إحضار مروان ولكننا كنا نواجه بقولهم بعدم القدرة على الوصول إليه، تدخلت فورا لأقطع الطريق على مروان من الحديث، قلت نعم لقد أبلغونا أكثر من مرة ولكننا كنا نصرّ على أن يكون طلب الاستقدام خطياً ورسمياً من الجانب الأمريكي بالذات لأننا لا نطمئن إلى التعاون مع أدوات صنعتها أمريكا، ولهذا كنا نهمل مراجعات الشرطة العراقية وطلباتها، نحن لا نتحرك من دون تدابير أصولية وعليها أختام رسمية، وافقتني على هذا الرأي وقالت يسعدني أن أعمل في قضية طرفها الآخر يعرف ماذا يريد.
على الطريق استأنفت سينترون الحديث مرة أخرى فقالت، اليوم مهم بالنسبة لكم فسوف تُعقد جلسة استماع عبر قناة تلفزيونية مغلقة مع هيئة التحقيق العسكرية المكلفة بالقضية في كولورادو، سيتم إحضار الملازم سافيل أمام قاضي التحقيق وسنكون نحن في إحدى قاعات قصر صدام حسين والذي تتخذه قواتنا مقرا لقيادتها، سنجلس في هذه القاعة التي تجرى فيها مؤتمرات عسكرية على أعلى المستويات مع البنتاغون أو القيادات الأخرى في الولايات المتحدة مع قائد القوات الأمريكية في العراق وهيئة أركانه، سنجلس أمام شاشة نرى فيها هيئة المحكمة وستنقل صورنا لهم ضمن دائرة تلفزيونية مغلقة عبر الأقمار الصناعية، ولكن الجلسة لن تبدأ قبل الثامنة مساء بتوقيت بغداد، تساءلت مع نفسي ما هي دوافع سينترون لتقديم العرض عن قاعة المؤتمرات العسكرية بالوصف الذي قدمته وخاصة عندما قالت "مؤتمرات عسكرية على أعلى المستويات"؟ قلت مع نفسي هي مجرد ثرثرة أرادت أن تقول لنا إنها قريبة من مواقع التحكم بالقرار وصنعه في هذا المقر، وربما أرادت شيئا آخر لم تصرح به في ذلك الوقت.
كان مروان هو الشاهد الوحيد على جريمة أرادها الأمريكيون جريمةً كاملة ولكن إرادة الله كانت لهم بالمرصاد، وكنت محاميا عن العائلة بعد أن انتميت إلى نقابة المحامين بعد احتلال العراق عام 2003، عندما حل بول بريمر الحاكم الأمريكي المطلق للعراق في الأيام الأولى لتعينه بمنصبه، الكثير من المؤسسات والدوائر الرسمية وفي مقدمتها حزب البعث العربي الاشتراكي والجيش العراقي وديوان رئاسة الجمهورية الذي كنت مديرا عاما فيه ووزارة الثقافة والإعلام، أما الصحافة فهي مهنتي المحببة، فقد مارستها منذ عام 1963 وانتميت إلى نقابة الصحفيين نهاية 1970 أو بداية عام 1971، ولكن الاحتلال قلص من حريتي في النشاط الصحفي إلى أدنى حد، فقد كان هامش عملي محدودا في الظهور على الفضائيات العربية وبخاصة قناة الجزيرة والإخبارية وأبو ظبي وقنوات أخرى، لم أكن قد اتخذت المحاماة مهنة لي فأنا صحفي ولا يمكن أن أوفق بين اختصاصين، فضلا عن أنني أفضل العمل الصحفي على أية مهنة أخرى، صحيح أنهما يشتركان في الدفاع عن قضايا المظلومين، ولكن الصحافة تقارع الظلم العام بصوت عالٍ وعلى الهواء الطلق، على حين أن المحاماة تقارع الظلم الخاص وراء أبواب مغلقة، ومع ذلك رأيت نفسي مدفوعا بكل طاقتي لهذه القضية لاعتبارات كثيرة أولها أن الشهيد ابن أخي وثانيا أن الجاني الأمريكي فيها ارتكب جريمة احتلال العراق التي أواجهها في حركتي الإعلامية والسياسية، وثالثاً أنها تسلط الضوء على الجرائم النوعية لقوات الاحتلال وتفضح أساليبه الهمجية في قتل العراقيين أو تعذيبهم وكذلك عمليات الدهم والسطو على الأموال الخاصة أثناء تفتيش المنازل بعد أن سطا على بلد كامل ونقل موجوداته كلها إلى الولايات المتحدة، وأستطيع إيصال ما أحصل عليه من معلومات إلى أجهزة الإعلام في لقاءات تلفزيونية قابلة للانتشار على أوسع نطاق أو في ما أنشره من مقالات في الصحافة العراقية والعربية، وهنا يحصل التقاء بين الصحافة والمحاماة، ظننت أنني كنت أدافع عن كل عراقي مظلوم من قبل قوات الاحتلال والسلطة المنصبّة من جانب الاحتلال.
اليوم إذن سنشهد جلسة تحقيق مع مجرم أمريكي يستحق وصف القاتل الوغد أو أي وصف آخر يليق بفعلته الدنيئة، لأنه ابتكر طريقة للقتل ربما لم تخطر ببال أحد من قبل مع أننا اكتشفنا أن سجن أبي غريب كان وعاءً لعمليات الإيهام بالإغراق، لكن سافيل اختزل الطريق وراح إلى الإغراق الحقيقي، إنه الملازم الأول سافيل، كنت احذف متعمداً من اسمه حرف الياء، لأن ذلك ما يتطابق مع طبعه وسلوكه، كان سافيل قد أصدر أوامره لجنوده بإلقاء زيدون ومروان في نهر دجلة عند بوابة ناظم الثرثار من دون أن يكون هناك سبب يدعوه لهذا الفعل الشنيع، كان علينا أن ننتظر بضع ساعات قبل أن يحين موعد الجلسة، كانت السرجنت سينترون حريصة على التحدث بود لافت وفائض عن الحاجة وذلك لإزالة أي أثر للتحسس تجاه الجنود الأمريكان الذين احتلوا منطقة المطار بكاملها والذي كان عند انتهاء تشييده مفخرة عمرانية للعراق، واتخذت قيادة القوات الأمريكية في العراق من القصر الرئاسي في الرضوانية مقرا لها، كان وقت الغداء قد حان وجهت لنا سينترون دعوة لتناول الطعام في المطعم المشترك للضباط والجنود، وهو نفسه الذي كان الرئيس الأمريكي قد تناول فيه الديك الرومي مع ضباط قواته وجنودها نهاية العام الأول للاحتلال وقد جاء إليهم خلسة من أجل رفع معنوياتهم المنهارة جرّاء الضربات المهلكة التي كانوا يتلقونها من قبل رجال المقاومة المسلحة، ثم كرر هذه الفعالية عندما جلب معه نوري المالكي الذي نصبّه بول بريمر في غفلة من الزمن، رئيسا لوزراء العراق هذا البلد الكبير الذي أراد بريمر إذلاله بجلب رئيس وزراء ما كان يطمح يوما بوظيفة تزيد على رئيس ملاحظين لو كانت السياقات السياسية والإدارية تسير على أقدام سليمة، ولكنه صار هكذا فجلبه بوش الابن معه وتناولا الطعام بما فيه الديك الرومي وسط حشد من الجنود الأمريكان ولم نسمع أنه سأل مضيفه الاجنبي فيما كان لحم هذا الديك مذبوحا على الطريقة الإسلامية أم لا؟ نعم هذا هو نوري المالكي الذي يطالب هذه الأيام برحيل القوات الأمريكية ونسي فضلها عليه أن جاءت به من أزقة السيدة زينب في دمشق وجعلت منه متحكما بثروات أغنى بلد في المنطقة، ونسي أيضا كيف وضع اكليلا من الورد على قبور قتلى الجيش الأمريكي أثناء احتلال العراق ووصفه لهم بأنهم شهداء، حينما تذكرت ذلك أخذتني غصة ألم أن أرى أرض العراق تُدنس من قبل قوات الاحتلال البغيض، لاحظت سينترون ذلك علي وتساءلت عما أفكر فيه، قلت إنني أعجب لهذا الزمن الذي تدور دواليبه بسرعة لا توصف وبصورة لا تصدق، وكيف تحول متسول السيدة زينب إلى ما يسميه بعضهم من الضعفاء إلى (رجل العراق القوي).
استحثتنا السرجنت سينترون على تناول وجبة الغداء قبل أن يتم استدعاؤنا إلى القاعة، من ذا الذي يرغب بتناول الطعام على مائدة عدوه قاتل أبنه؟ أردنا أن نجلب شيئا نسد به الرمق لا غير، كانت الأطعمة معروضة للجميع على موائد طويلة، والخدمة في المطعم تتم بموجب قاعدة اخدم نفسك بنفسك، كانت الخُضّر والفواكه لكل المواسم جلبوها لجنودهم كي يُشعروهم بأن قيادتهم بقدر ما تزج بهم في معارك قد تنقلهم إلى بلادهم ملفوفين بالعلم الأمريكي، فإنها على استعداد أن توفر لهم أعلى درجات الرفاهية وتجلب الخضر والفاكهة من القارات الخمس، حينما توجهت إلى (البوفيه) تقدم نحوي جندي تبدو على ملامحه سحنة شبه القارة الهندية، وبادرني بعبارة السلام عليكم هل تريد أكلاً حلالاً؟ قلت له نحن نتناول الأسماك فقط، أشار إلى موضع الأسماك وخاصة الروبيان وبحجوم وأصناف مختلفة، عندما كنت اتنقل داخل قاعدة المطار التي حولها المحتلون إلى قاعدة جوية لهم ومركزا للقيادة، وجدت أن الأمريكان كانوا يتعمدون في تشغيل عراقيين في أعمال خدمية مثل التنظيف ورفع القمامة وربما هناك أعمال أخرى حقيرة لم تظهر على السطح، كان هدف الأمريكان إذلال العراقيين بأي شكل، وحرق أوراق سمعتهم أمام المجتمع والمقاومة المسلحة التي كانت تنظر إلى من يعمل مع المحتلين كأنه جاسوس لهم.
مقر القيادة الأمريكية في قصر الفاو في الرضوانية من أطراف بغداد الغربية وهو قريب من مطار بغداد واستغرقت السيارة من المدخل الخارجي للمطار حتى الوصول إلى بوابة قصر الفاو عدة دقائق، وهو أحد القصور الرئاسية في عهد الرئيس الراحل صدام حسين وربما يكون هو الأكبر والأفخم بين تلك القصور وقد أخذ اسمه من اسم مدينة الفاو التي احتلها الإيرانيون في شباط 1986 وغيروا اسمها إلى الفاطمية وأقاموا فيها من التحصينات والمواقع والموانع مما ظنوا أنها مانعتهم من الهزيمة وقال رفسنجاني حينها إذا استعاد العراقيون الفاو فسأذهب بنفسي إلى بغداد لتقديم التهنئة للرئيس صدام حسين، فاستعد العراق شعبا وجيشا وقيادة بوضع خطط تحرير هذه المدينة التي دخل منها الإنكليز بداية زحفهم نحو بغداد في العقد الثاني من القرن الماضي وجاء الإيرانيون ليقتفوا خطواتهم، فالمحتلون يفكرون بطريقة واحدة ويسلكون الطرق نفسها، وحتى عندما جاء الأمريكيون عام 2003 قاموا بالشيء نفسه، وعمل العراقيون بكل جهدهم لتحرير مدينتهم من دنس الإيرانيين، فتم لهم النصر المؤزر في17 /4/ 1988 بعد أن سحقوا قوات العدو وكسروا عموده الفقري حتى استلقى جاثيا على الأرض بذلٍ وتجرع كأس السم راغماً واضطر لوقف إطلاق النار في 8 /8 /1988، فأطلق الرئيس الر احل صدام حسين رحمه الله على هذا القصر اسم الفاو تيمنا بنصرها المجيد، وعلى الرغم من أنني لم أر هذا الصرح من قبل ولم يسبق لي أن رأيت أيا من القصور الرئاسية الأخرى باستثناء القصر الجمهوري في كرادة مريم الذي رأيته لعدة مرات فيما مضى وهو البلاط الملكي تحت الإنشاء الذي كان منتظرا أن يقيم فيه الملك فيصل ويتخذه مقرا رسميا له، عندما قامت ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 لم يكن القصر قد أُنجز بعد، ولم يتم الانتقال إليه إلا بعد ثورة 14 رمضان/8 شباط فبراير 1963 حينما تحول اسمه إلى (القصر الجمهوري) وهو المقر الرسمي للدولة العراقية، ووقعت في أسر القوات الإيرانية في 24 آذار/ مارس 1982 ولم يكن هناك قصر رئاسي رسمي سواه، وحينما عدت من الأسر في 22 كانون الثاني/ يناير 2002 لم يكن ميسورا لي أن أدخل إلى أي من القصور الرئاسية بسبب ظروف العراق الاستثنائية التي كان يعيشها قبيل الغزو الأمريكي وعبث لجان التفتيش التابعة لأمريكا وترفع علم الأمم المتحدة، ولذلك حينما أصف قصر الفاو بأنه الأكبر والأفخم فإنما أقارن بينه وبين القصر الجمهوري في كرادة مريم، وربما بما سمعته من مقارنات بين القصور الرئاسية، على العموم لم يتعرض القصر لشيء من ظروف العمليات الحربية الكبرى التي شهدتها بغداد ومنطقة المطار بشكل خاص، ولكن الكثير من محتوياته كانت قد اختفت نتيجة السرقات التي قام بها الجنود الأمريكيون ونقلوها إلى بيوتهم في الولايات المتحدة تحت لافتة أخذ تذكارات من زمن الحرب وخاصة ما خف وزنه وكانت قيمته المالية أو الفنية عالية.
عندما دخلت إلى باحة القصر شعرت بجلال تصميم القصر وفخامته التي تليق بعظمة تاريخ العراق وحضاراته العريقة والذوق الرفيع للرئيس صدام حسين، ولكنني تساءلت بمرارة هل بُني القصر كي يشغله أكثر أعداء من بناه كراهية له وحقدا عليه وعلى وطنه وهم الأمريكيون، وأرادوا المبالغة في التعبير عن هذا الحقد حينما حولوه إلى مقر لقيادة قوات غزو العراق واحتلاله، تتدلى من قبة القصر ثريا كبيرة من الكريستال النقي المشدودة مع بعضها بخيوط ذهبية اللون، ولتشكل وهجا متلاحق التلألؤ كأنها كوكب دري، حينما دخلت باحة القصر قلت مع نفسي هي مفارقة الزمن الرديء الناتج عن الاحتلال أن أدخل القصر في وقت تُطبُق عليه قوات معادية للعراق وعلى كل مفاصل الدولة العراقية، ولم يتحقق لي أن رأيت هذا القصر في زمن سياسي كنت جزء منه وفيه، كان الألم يعتصرني وأنا أمشي في أروقة القصر لأن شيئا بنيناه وتحمّل الحزب وقيادته بسبب بنائه الكثير من النقد والتجريح من موتورين وباحثين عن أية ثغرة يتسللون منها لشتم النظام، ثم تحول في لمح البصر إلى سيطرة عدوّنا وكأننا ما بنيناه إلا لكي ينتقل إلى سيطرة أولئك الأعداء المملوئين كراهية وحقدا على العراق، وإذا مرقت من تحت تلك الثريا فكأنما مرقت تحت وهج الشمس وإذا سُلبتُ القدرةَ على مقاومة إغراء النظر إليها فلا بد من المسير فوق أرض رخامية من طراز خاص ترغم الجميع على استذكار الآية الكريمة /قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة/ فهي أرض تلمع بصفاء رائق، يجب الاحتراز عند المشي عليها خشية السقوط.
من الخارج تحيط بالقصر حدائق ذات بهجة وبحيرات متلاحقة تربط بينها جسور هي أقرب إلى عيون المها بين الرصافة والجسر، وعلى الرغم من أن قوات الاحتلال لم تدخر جهدا للعبث بالقصر ومحتوياته وما يحيط به من مرافق بل وبالعراق كله فإن القصر بقي متألقا بالحزام الأخضر الذي يحيط به بعد أن حولته أياد العراقيين من أراضٍ قاحلة إلى أجمل الجنان مما يصادف الإنسان، صدام حسين لم يبن لنفسه قصراً واحداً وإنما كان يبني صروحا لبلده تعوضه عما فات من قبل، فكل ما كان يمتلكه العراق من موروث عمراني هو قصر الرحاب وقصر الزهور والقصر الملكي في سرسنك وآخر في مصيف صلاح الدين.
كما أن صدام لم يفتح حسابا في البنوك الأجنبية ولو أن أحدا من أعدائه الأمريكان أو الفرس أو عملائهم، قد ضبط وثيقة واحدة تشير إلى ذلك لكانت الصحافة المرتبطة بالمحتلين الأمريكان والبريطانيين والإيرانيين وعملائهم من عناصر العملية السياسية الفاسدة قد سخرت كل صفحاتها للحديث عن ذلك، إن بناء هذه القصور كان سدا لنقص كبير في المراكز الحكومية، فالعالم ملئ بعشرات الألوف من الجسور وبتصاميم مختلفة ومبهرة وملايين الكيلومترات من طرق "الهاي وي" الحديثة، لكن أحدا لم ينتبه إلى ارتباط الولايات المتحدة إلا بالبيت الأبيض في واشنطن وتمثال الحرية في نيويورك، وقصر الكرملين في موسكو، والاليزيه وبرج إيفل في باريس، وقصر باكنغهام الملكي في لندن وعشرات القصور التاريخية في ألمانيا، أما في البلاد العربية فيبرز قصر القبة وقصر الطاهرة في القاهرة، ولأن العراق وعلى الرغم من ألقِ تاريخه لم يترك أثرا كشاهد على عهوده المتعاقبة فقد وجد صدام حسين أنه يجب أن يترك للعراقيين شيئا من المآثر العمرانية الفخمة، وهم الذين لم يترك لهم الذين حكموهم قبلا شيئا منها.
كان الحصار الاقتصادي الدولي الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق باسم مجلس الأمن الدولي يضرب بقوة كل على كل ما يتعلق بحياة العراقي في مأكله ومشربه ودوائه وحتى حليب الأطفال خضع لتقنين ظالم لم يعرف له شعب من الشعوب مثيلاً، ولكن القيادة توصلت إلى أن تنشيط حركة التشغيل في المجتمع من أجل ضخ موارد في الشارع العراقي، فبُنيت عشرات المشاريع العملاقة بخبرة المهندسين وجهود العمال العراقيين، ولعلنا لا ننسى الجسر ذي الطابقين والسد العظيم على نهر العِظيم، وعشرات الطرق والجسور والمجسرات مما ساهم في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني، فضلا عن تأهيل مئات المصانع الكبرى التي تم تدميرها في عدوان عام 1991، وتنشطت الحركة الزراعية على الرغم من أن الولايات المتحدة لاحقت نشاط قطاع زراعة الحبوب في محافظة نينوى بكل حقد وخسة، فكانت تضرب حقول القمح بالمشاعل الحرارية بهدف إحراقها ومنع الاكتفاء الذاتي وتقنين المستوردات التي لا تخرج عن هيمنة الإدارة الأمريكية.
وصلنا إلى القاعة التي أعيد تنظيمها بحيث أصبحت القاعة الرئيسة لعقد المؤتمرات وعلى أعلى المستويات بين القيادة الميدانية للقوات الأمريكية في العراق ورئاسة الأركان الأمريكية في واشنطن وقيادة المنطقة الوسطى عبر قناة تلفزيونية مغلقة يتم خلال هذه المؤتمرات بحث المستجدات والخطط البديلة وذلك نتيجة التطورات الميدانية والخسائر المتزايدة للقوات الأمريكية في العراق، أخذ كل منا مقعده المحدد له سلفا، أخذت استراحة لأدور خلالها وأنا جالس في مكاني في أرجاء هذه القاعة، والتي يمكن أن تكون قد شهدت كثيرا من المؤتمرات العسكرية التي أدارها الرئيس الراحل صدام حسين رحمه الله لوضع الخطط التفصيلية وبدائلها التي تقتضيها المستجدات الطارئة من أجل مواجهة قوات الغزو الأمريكي التي تتخذ الآن من القصر مقرا لقيادتها العليا، نعم هذه القاعة تتخذها قوات العدو مكانا لعقد مؤتمراتها العسكرية، ولكن من أجل التصدي للمقاومة الوطنية المسلحة الباسلة والتي تمكنت من إلحاق أكبر هزيمة عسكرية ونفسية بالولايات المتحدة منذ الحرب الفيتنامية، مع فرق حاسم وهو أن المقاومة العراقية تواجه أمريكا بكل ثقلها من دون أن يمد لها الاتحاد السوفيتي يد الدعم أو الصين الشعبية كما كان يحصل مع كفاح الشعب الفيتنامي لطرد الأمريكان من جنوب بلادهم وعانت المقاومة العراقية من حصار شامل من جميع جيران العراق.
بدأ الفنيون بتشغيل شبكة الاتصال مع قاعة المحكمة العسكرية في إحدى القواعد في ولاية كولورادو، حينذاك فقط أيقنت أن الصيحات التي تعالت باللغة الإنكليزية والتي مهدت للربط الفني بين هذه القاعة وقاعة المحكمة في كولورادو أصبحت حقيقة مؤكدة، فالأصل أننا كنا نشك كثيرا بجدية الأمريكيين وبكل ما يقطعوه لنا من وعود وفي كل ما ينطقوه من كلمات أو في كل ما يخطوه من خطوات فهم أعداء بلدنا ودمروه وسلموه لأعدى أعدائنا الإيرانيين، وبدأت جلسة الاستماع، ومن طبيعة الأسئلة التي طرحها المحققون بدأت أتيقن بأن الجانب الأمريكي وفي سعيه للتنصل عن مسؤولية جريمته فإنه يستميت من أجل البحث عن ضحية أو شماعة يعلق عليها أسباب ما ارتكب جنوده من جريمة وحشية وكأنهم يسعون إلى تحويل مروان من شاهد إلى متهم، ولذلك كانت الأسئلة تركز على تحديد وقت وقوع الحادث، متى وصلتما السيطرة العسكرية عند مدخل سد الثرثار؟ لماذا تريدنا نعتقد بأن الجنود قد ألقوكما في الماء؟ وعشرات الأسئلة تتدفق بلا انقطاع حتى تصورت أن الهدف من طرح هذا السيل من الأسئلة ليس سماع شهادة مروان بقدر ما كان الهدف التشويش عليه علهم يمسكون برأس خيط يجعلون منه سياجا لحماية متهميهم ولذلك كنت أشير إلى مروان بعدم التحدث معهم ما لم يتوقف المحقق عن طرح سيل الأسئلة التي لا علاقة بها بموضوعنا، من قبيل هل تتوقع أن جنودنا على استعداد لرمي شباب أحياء في فوهة سد مائي متدفق المياه؟ أو من قبيل هل تتوقع أننا ذهبنا إلى العراق من أجل تعريض حياة أبنائه للخطر؟ أسئلة غبية موجهة لعراقيين لم تنقصهم معرفة نوايا المحتلين لأراضي الغير على مر العصور، ولكنها لم تحرفنا عن المسار الذي رسمناه لأنفسنا خلال الجلسة التي انتهت بعد العاشرة ليلا بتوقيت بغداد.
السرجنت سينترون كانت في ظاهر القول تتظاهر بأنها ستبذل قصارى جهدها لإظهار الحقيقة وكانت تقول بأن هذه الجريمة لن تمر من دون عقاب وأنها لن تشعر بالراحة أبدا ما لم ينل الجناة عقابهم العادل، ولكن في نهاية الطريق ظهرت عارية تماما عن ثياب الحرير الناعمة التي ظهرت فيها علينا، فقد تأكد لنا فيما بعد أنها رفعت تقريرا بحكم مهمتها كمحققة إلى مراجعها شككت فيه بوقاحة بأن يكون الجثمان الذي دفناه يعود لزيدون، ولكن وقت الأحكام الإنسانية لا محل له في لغة التخاطب بين غازٍ محتل وبين شعب يدافع عن وطنه، إذ تبقى سينترون جندية أمريكية مخلصة لبلدها سواء كان على حق أم كان على باطل.
بعد أن انتهينا طرأ تساؤل كيف سنعود إلى المنزل عبر طريق المطار؟ ماذا سيرسم في ذهنه من صور من يحمل بندقية أو قاذفة يترصد رتلا أمريكيا عن هذه السيارة التي مرت بهدوء في طريق طالما أرّق الجنود الأمريكان عند عبوره؟ كانت الأسئلة تتدافع داخل رأسي دون أن أوفق في جواب واحد على أي منها، وخاصة ماذا سيقول الناس لو استهدفنا بقذيفة دمرت سيارتنا وقُتلنا بها؟ هل يصدق أحدْ طبيعة المهمة الجهادية التي كنا فيها؟
عندما خرجنا من البوابة الرئيسية لقصر الفاو والذي كان يشع بأنوار الثريا العملاقة، غصنا في ظلام دامس وليل أسود وكأن الخطوات المعدودة الفاصلة بين البوابة والممر الخارجي مسيرة دهر قطعناها بين عالمين.
أخذتنا سينترون بسيارة الدفع الرباعي التي جئنا بها من البوابة الخارجية للمطار، وترجلنا في نفس المكان ومضينا إلى سيارتي الخاصة التي كنت قد تركتها في الموقف المخصص لسيارات الداخلين إلى المطار، أدرت المحرك وتوكلت على الله وبأعصاب مشدودة قطعت الطريق بأقل من نصف ساعة وكأنها نصف يوم، وجدت بيتي في حي العدل واقف على ساقيّه قلقاً.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/maqalat/47829-2021-02-09-19-01-18.html
899 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع