د. منار الشوربجي
رغم انتمائي للحقل الأكاديمي وعملي بالتدريس والتحليل السياسي، فإنني لم أقتنع يوما بفكرة "حياد" الباحث أو المحلل، فهي أسطورة كبرى لا علاقة لها بالواقع. فالباحث يفصح عن انحيازاته بمجرد اختياره لموضوع بحثه، وعبر طبيعة الأسئلة البحثية التي يطرحها.
والباحث الذي يدعي الحياد ليس باحثا أصلا، ذلك أنه حين يزعم أنه محايد، فإنه يعتبر نفسه جمادا أو كتلة صماء، لا جذور لها ولا ثقافة، مما يجعلها تتلقى المعلومات على صفحة بيضاء تبدأ منها عملية التحليل. وهو أمر يستحيل حدوثه، لأن الإنسان يقرأ الواقع من خلال ثقافته وتاريخه وذاكرته الاجتماعية.
والحقيقة أن هناك مدرسة غربية في العلوم الاجتماعية، تؤمن بأن الباحث بإمكانه القيام بعملية التحليل السياسي في غياب منظومة قيمية وفكرية.
وهي رؤية ثبت فسادها، لأنها من ناحية تمثل في ذاتها انحيازا فكريا. فهي تفترض مثلا أن لا فرق في تناول الصراع العربي الإسرائيلي بين باحث عربي، وآخر أميركي وثالث إسرائيلي.
فالتحليل السياسي، عندها، يخرج بالنتائج نفسها، لأن الباحث لا بد أن يكون محايدا في قراءة الواقع! وهى، أي هذه المدرسة، أدت من ناحية أخرى، لانحرافات كثيرة في مجال العلوم الاجتماعية، عبر إضفاء الشرعية على أمور لا يجوز قبولها بحجة "الحياد"، كزواج المال بالسياسة على سبيل المثال.
والفارق كبير للغاية بين الحياد في جانب، والالتزام بقواعد التحليل السياسي في جانب آخر. فبينما الحياد يعني ألا يكون للباحث موقف فكري أو مبدئي ينطلق منه، فإن الموضوعية والالتزام بأصول التحليل، يعنيان أن ذلك الباحث مطالب بالتعامل مع "كل" المعلومات الصحيحة ووجهات النظر المتعددة، بكل أمانة مهما اختلفت مع انحيازاته.
فلا يجوز للمحلل مثلا أن يغض الطرف عن معلومات مهمة لأنها تنسف وجهة نظره، ولا يجوز له أن يعرض وجهة النظر الأخرى بشكل منتقص أو يكون انتقائيا في التعامل مع المعلومات الموثقة.
ولا يجوز أيضا للباحث أو المحلل، أن يعتمد على معلومات مصادرها مجهولة أو مشبوهة ثم يبني عليها تحليله. وتلك كلها مجرد عينة من محاذير كثيرة لا بد أن يتجنبها المحلل، ومعايير لا بد من احترامها؛ أهمها الدقة والأمانة مع الذات ومع المتلقي.
مناسبة الحديث في هذا الموضوع هي المحنة التي يواجهها العالم العربي، وترتبط بشكل مباشر بتلك المسألة.
فأنت تجد من يقدم لك نفسه أو يقدمه لك الإعلام العربي، بوصفه "خبيرا" في هذا أو ذاك، فتتوقع أن تسمع منه تحليلا متماسكا ودقيقا في آن معا، فإذا به يخلط بين المعلومة والرأي وبين التكهنات والمعلومات الموثقة، ثم يطلق أحكاما مبالغة في التبسيط أو التعميم.
وأنت تقرأ تقريرا صحفيا، فلا تعرف ما إذا كان تحقيقا أم مقالا للرأي أم مجرد إعلان.
المشكلة في ذلك كله ليست الانحياز الفكري، وإنما هي عدم الالتزام بالمعايير المتعارف عليها في التحليل السياسي؛ من دقة وأمانة.
بل أكثر من ذلك، فإن أكذوبة "الحياد" توقعنا نحن العرب أحيانا في أخطاء كبرى، تؤدي للكثير من سوء التقدير.
فإعلامنا لا يكف عن تغطية ما يقوله كتاب ومراكز فكر غربية متعددة، وهو ينقلها للقارئ وكأنها رأي من باحث "محايد" ليست له مصلحة، أو من مركز أبحاث "مرموق له شهرة واسعة".
ولا توجد غضاضة على الإطلاق في تغطية ما يقوله الغربيون، على العكس، فنحن في حاجة ماسة للاطلاع الواسع على الفكر والأفكار المطروحة في شتى أنحاء العالم، وفي حاجة أيضا لمعرفة القضايا التي تهم غيرنا، ومعرفة طريقة تناولهم لقضايانا.
غير أن المشكلة الحقيقية تكمن في تقديم تلك الأفكار وكأنها "محايدة"، ودون الاهتمام بأن يعرف القارئ المعلومات اللازمة عن الكاتب أو المؤسسة التي خرجت منها تلك الأفكار.
فلا يجوز مثلا نشر أفكار بات بوكانان الرافضة لبعض السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، دون أن ننبه القارئ إلى أن الكاتب متهم بالعنصرية تجاه غير البيض في بلاده.
ولا يمكن عرض مقال لكاتب مثل فرانك جافني عن التيارات الإسلامية، دون أن نقول للقارئ إن الرجل من عتاة المحافظين الجدد، وأنه يعادي العرب والمسلمين بالجملة، ويعتبر أن الشريعة الإسلامية هي التهديد الأول للولايات المتحدة.
ولا يجوز أن نقدم أفكارا صادرة عن معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط، دون أن يعرف القارئ أن المعهد هو الذراع البحثي للوبي إسرائيل في واشنطن.
ومحنتنا نحن العرب حين لا نميز بين الحياد وبين الموضوعية وأصول التحليل السياسي، تزداد وطأة في الدول التي تمر بمراحل انتقالية، مثل مصر وتونس.
ففي مصر التي صار فيها صوت الأيديولوجيا أعلى من صوت العقل، يزعم أصحاب الأيديولوجيا "الحياد"، بينما يمارسون أسوأ أشكال إهدار المعايير المتعارف عليها للتحليل السياسي، من ضرورة تحري الدقة بخصوص المعلومات ومصادرها، والأمانة التي تقتضي عدم إهمال ما يختلف مع وجهة نظرك من معلومات وحقائق.
بل أسوأ من ذلك، يقوم كل طرف من أطراف الحرب الأيديولوجية الدائرة، بالاستعانة بشهادة الخواجات حين تدعم وجهة نظره، بغض النظر عن كنه أولئك الخواجات ومصالحهم.
ومثل تلك الحالة لا تؤدي إلا للمزيد من الارتباك على الساحة السياسة العربية بوجه عام، وفي الدول التي تمر بمراحل انتقالية بوجه خاص. وهي حالة تضج بالهزل لا بالتحليل الجاد، ناهيك عن غياب الآراء المبنية على معلومات دقيقة.
ولا أحد من أطراف اللعبة مستفيد من تلك الحالة، بالمناسبة، فإرباك الناس وتشكيكهم في الطرف الآخر لا يعني بالضرورة جذبهم إليك، وإنما نتيجته المباشرة في أغلب الأحيان، هي فقدان الناس للثقة في كل الأطراف.
847 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع